منذ اندلاع الثورة السورية، تصاعد التوتر بين النظامين السوري والتركي بصورة تدريجية، ويبدو اليوم كما لو أنه قد بلغ ذروته، وذلك مع توسع الصراع وانتقاله من الشكل غير المباشر، إلى مناوشات عسكرية مباشرة. المتابع للعلاقات التركية السورية اليوم، قد يغيب عنه أنها كانت في أفضل أحوالها منذ وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة في العام 2002 وحتى منتصف العام 2011. ففي شهر رمضان للعام 2009، تحدث الرئيس السوري بشار الأسد في حفل إفطار أقامه "حزب العدالة والتنمية" في تركيا، عن "وحدة الدم" بين السوريين والأتراك "أبناء الوطن الواحد والشريعة الواحدة". انطلاقاً من أجواء التحالف "الاستراتيجي" تلك، تعاملت تركيا مع الاحتجاجات الشعبية الهادفة للإطاحة بالنظام السوري بحذر شديد، وحاولت على الفور إقناع النظام السوري بإجراء إصلاحات تمتص النقمة الشعبية التي بدت للعيان درجة تجذّرها واتساعها. كانت المصالح التركية في سوريا واسعة وثمينة إلى درجة قد تدفعها لتأييد نظام الأسد والوقوف في وجه الثورة الشعبية، لولا أنها كانت قد عايشت قبل شهرين فقط من اندلاع الثورة السورية نجاح ثورتين مشابهتين في كلّ من تونس ومصر. هكذا سيطر الرعب على تركيا من قدرة الربيع العربي على إسقاط النظم بصورة مباغتة وسريعة، وهو ما دفعها إلى تأييد الاحتجاجات ودعمها، لكن بعد أن استنفدت كافة الوساطات والضغوط على نظام الأسد لكي يخلص نفسه، ويخلصها معه، من ورطة الثورة. بهذا المعنى، كانت الثورة السورية نقطة التحول في العلاقات السورية التركية باتّجاه تدهورها، تماماً كما كان اتفاق "أضنا"عام 1998 نقطة التّحول باتّجاه ازدهارها. وفي فترة لاحقة شكّل توقيع اتفاقية التجارة الحرة عام 2004 ذروة العلاقات الاقتصادية بين البلدين، واستفادت تركيا من الاتفاقية الاقتصادية على حساب سوريا. ذلك أنها جعلت من الأخيرة الممر الرئيسي للبضائع التركية إلى أسواق الأردن ولبنان وبلدان الخليج العربي. وفي حين كان عدد المشاريع الاستثمارية التركية في سوريا 14 مشروعا في الفترة الممتدة بين عامي 1990 – 2004، ارتفع خلال أربع سنوات فقط بنحو 100 في المئة. واجتاحت المنتجات التركية الرخيصة الأسواق السورية، متسببة في خسارة قطاعات الصناعة الحرفية وصناعة الغزل والنسيج والصناعات التحويلية. وقد كان النظام السوري على استعداد تام للتغاضي عن جميع الآثار السلبية لعملية الانفتاح التجاري الكبير والسريع مع تركيا. إذ أن أهم ما شغل باله في ذلك الحين، هو تحقيق مكاسب سياسية وفك عزلته الدولية التي اشتدت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. هكذا، جعل النظام المحاصر من تركيا منفذه السياسي، والمنفذ الاقتصادي لرجال الأعمال المرتبطين به. حيث سهّلت الحكومة التركية نقل أموالهم إليها، وذلك من دول أوروبية وعربية كانت على استعداد لتطبيق العقوبات الاقتصادية الجديدة على سوريا. لكن الثورة السورية جاءت لتنهي سنوات العسل تلك. فانخفضت التجارة الخارجية مع تركيا في عامي 2011- 2012 بنسبة 82 في المائة. واحتلت تركيا المرتبة الأخيرة في قائمة الدول المصدرة إلى سوريا، بعد أن احتلت المرتبة الأولى عام 2010. على المستوى السياسي، ورغم أن حكومة رجب طيب أردوغان أطلقت العديد من التهديدات والتحذيرات إلى النظام السوري، إلا أنها بقيت عاجزة عن تنفيذها. واقتصرت جهودها في دعم قسم محدد من المعارضة السورية، وقسم محدد أيضاً من الكتائب العسكرية الإسلامية، مقدمة بذلك خدمات كبرى للنظام السوري، حيث زادت من انقسامات المعارضة وفسادها السياسي والمالي، ووفّرت ذرائع للنظام السوري بات يحاجج بها دوليا، بسبب دعمها للكتائب الإسلامية المتشددة. اليوم وعلى وقع النجاح المريح الذي حققه "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات البلدية، متجاوزاً فضائح الفساد التي عصفت برجب طيب أردوغان وحكومته، تبدو تركيا كما لو كانت تصعّد من حدة الصراع مع نظام الأسد، وذلك من خلال دعم غير مباشر لمقاتلي المعارضة الذين يخوضون منذ نحو أسبوعين معارك طاحنة في ريف اللاذقية في مناطق محاذية للحدود التركية. وكان من أهم نتائج هذا الدعم هو إسقاط طائرة حربية سورية على الحدود، حيث تندلع المعارك، ما حرم النظام السوري من إمكانية استخدام سلاح الجو بشكل مريح، ووفر ما يشبه "الحظر الجوي" لمقاتلي المعارضة. لقد خسرت تركيا كل مكاسبها التي تحققت على مدار العقد الماضي في سوريا، وما من شك في أن استعادتها تشكل جوهر السياسة التركية في الشأن السوري. لكن تركيا التي بدت متخوفة ومترددة من المبادرة إلى أي عمل عسكري محدود داخل الأراضي السورية من دون مساندة حلف شمال الأطلسي، بدأت تغادر ترددها وتهدد النظام السوري بعمل عسكري، تارة لحماية أمنها القومي، وأخرى لحماية ضريح "سليمان شاه"، جدّ عثمان الأول مؤسس السلطنة العثمانية. وهي باتت مستعدة لانتهاز فرصة ما قادمة، قد توفرها الولاياتالمتحدة لتغيير موازين القوى جزئياً على الأرض، من أجل الدفع بالنظام وحلفائه نحو تسوية سلمية. عن اليوم السابع