أسئلة الإصلاح التي تطرح نفسها بحدة وبإلحاح، على مغرب اليوم، تجعل الفاصل بين الفساد والإصلاح كالفاصل بين التقدم والتخلف، لا يمكن النظر إليه من زاوية ضيقة، خارج شروطه الموضوعية الشاملة، وهي ذات اتصال وثيق بكل القطاعات والمجالات والقضايا والإشكالات. في المجال الحضاري، كان هذا الفاصل دائما وباستمرار، هو ما يميز منطقة عن أخرى وثقافة عن ثقافة. كان هو «الزر» الذي يتحكم في التغيرات والقفزات الحضارية التي تقود البشرية إلى الأعلى أو إلى الأسفل، ومن ثمة كانت أهمية هذا «الفاصل» وخطورته في تحديد تقدم هذه المنطقة من الأرض وتخلف تلك الأخرى. وبالنظر إلى حركية التاريخ وجدليته المستمرة، وهي حركة مد و جزر، فإن الفاصل بين الفساد والإصلاح، كان هو نفسه الفاصل بين التقدم والتخلف في انعكاساته على الإنسان والحضارة / الإنسان والإبداع / الإنسان والتكنولوجية / والذي قد يتحول إلى سلاح إبادة، في أي لحظة اختل فيها التوازن بين الإنسان وقيمه ومثله وأخلاقه. يمكن التأكيد هنا، أن التخلف الذي تعيشه العديد من بلاد الدنيا والمغرب من ضمنها، بطبيعة الحال، لا يرتبط فقط بالخلل الذي تعيشه هذه البلاد في الصناعة والفلاحة والإدارة والتعليم والصحة والسكن والشغل... ولكن أيضا يرتبط بالفساد الذي يضرب قيمها ومثلها وأخلاق إدارتها ومؤسساتها... وهو ما جعل «التخلف» مرتبطا بقوة مع هذا الفساد ومرادفا له في المغرب وفي بلاد العالم الثالث. تحيلنا هذه الحقيقة على سؤال مركزي وأساسي: ما هي صيغة المستقبل الذي ينتظر البلاد المتخلفة، حديثة العهد بالاستقلال، والتي وجدت نفسها في الغالب تعاني من الفساد، ومن اختلالات عديدة في قيمها الثقافية والأخلاقية؟ إن «المستقبل» بالنسبة للدول المتقدمة صناعيا على الأقل، لم يعد يشكل قضية أو مشكلة، ذلك لأنها، من خلال معطيات الحاضر وأرقامه، أضحت تعرف موقع مستقبلها. أما بالنسبة للبلاد المتخلفة، فالأمر يختلف تماما، ذلك لأن حاضرها الذي ينفصل (في الغالب) عن ماضيها، تترابط حوله العديد من المشاكل والقضايا المقلقة المؤثرة، قضايا الفساد الإداري: الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ والاغتناء الغير مشروع، بالإضافة إلى قضايا النمو الديمغرافي والمديونية والتسلح والتكنولوجيا والتغذية والتشغيل والتعليم والصحة والسكن، التي تحجب الرؤية عن كل آفاق، وهو ما يجعل قضية المستقبل غامضة وشائكة. ما يزيد من قلق هذه الصورة، أن البلاد المتخلفة اليوم، ليس لها أي دخل في الصورة التي وجدت نفسها عليها بعد حصولها على الاستقلال، ذلك أنها استيقظت من إغمائها لتجد نفسها مكبلة بعشرات القيود والالتزامات، قيود الفساد المالي وقيود الفقر والأمية، والمديونية الخارجية والبطالة والتخلف التكنولوجي، والتزامات العمل من أجل البناء والديمقراطية وحقوق الإنسان، والخروج من شرنقة التخلف الحضاري الذي أرغمت عليه بفعل الاستعمار وسياسته. ولتجد نفسها تعاني من انفجارات الديمغرافية السريعة وغير مخططة. تفرض عليها إيجاد المزيد من الخبز والأدوية والمدارس ومناصب الشغل والديون والخبرات الأجنبية، وهو ما يعطي لحالة «التخلف» صيغتها الواقعية في العالم الجديد. لنأخذ المغرب مثالا قياسيا لهذه الحالة، لقد ارتفع عدد سكان المملكة المغربية بين 1956 (عهد الاستقلال) وسنة 2000 من 12 مليون نسمة تقريبا إلى حوالي 30 مليون نسمة. وبذلك ارتفع عدد القادرين على العمل والإنتاج، من مليونين إلى أزيد من عشرة ملايين مواطن. ولأن الزيادة الديمغرافية قد ارتفعت بنسبة تفوق 3,5 % خلال الأربعين سنة الماضية فإن عدد الفقراء وعدد العاطلين وعدد الأميين وعدد المرضى وعدد المجرمين، ارتفع بصفة مهولة، بسبب انعدام التخطيط والفساد الإداري والاقتصادي. وبسبب تخلف وسائل الإنتاج وفوضوية التركيب لطبقات المجتمع المغربي، وبسبب الافتقار إلى البنيات الأساسية للنهوض والتنمية. هكذا أصبحت أزمة الديمغرافية تتميز في المغرب بالقتامة والتشاؤم، لا بسبب الضغوط المالية فقط، ولكن أيضا بسبب عجز سياسات عهد الاستقلال في معالجتها وتذويبها، لتصبح في النهاية عائقا يصعب اجتيازه ومعالجته. إنها وثيرة قد تطيح بأي إصلاح اقتصادي قادم، ذلك لأن تصاعد النمو الديمغرافي كتصاعد الديون الخارجية والفساد والأمية والبطالة، وتعثر التمدرس والتكوين والصحة والسكن والتشغيل، تحديات تواجه كل طموح في الاستقرار والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وإذا أردنا أن نبحث المشكل الديمغرافي، وحده على ضوء أبعاده الوطنية، سنجد أنه استمر في التأثير على القطاعات المنتجة وعلى التوازنات الاقتصادية والاجتماعية عدة عقود، وهو ما أدى إلى عجز الحكومات المتعاقبة، في تقليص الفساد، وبالتالي في الحد من آليات التخلف. السؤال الذي يطرحه المشكل الديمغرافي على مغرب اليوم، والذي يتردد على ألسنة الأخصائيين والباحثين الاقتصاديين المغاربة والأجانب هو: كيف سيصبح الوضع في المغرب بعد الآن...؟ في نظرنا تتعاظم أهمية هذا السؤال في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، أمام الاختلالات المزمنة التي تضرب الإدارة وسوق العمل، والتي لم تتوقف عن التفاقم وبسبب عدم إدخال أي إصلاحات جذرية من شأنها الحد من حالة هذه الاختلالات. وتبرز أهمية هذا السؤال من جانب آخر – أمام المؤهلات المحدودة للاقتصاد المغربي في إيجاد مناصب الشغل، وأمام التقلص المستمر لإمكانيات الهجرة والعمل خارج الحدود، حيث انعدمت هذه الإمكانية، لا بالنسبة لأوروبا والخليج العربي، ولكن أيضا بالنسبة لجهات العالم الأخرى التي أصبحت تعتبر الهجرة خطرا على أمنها الداخلي... وعلى مستقبلها السوسيو اقتصادي. إذن المغرب اليوم، يواجه تحديات متعددة، متباعدة ومتداخلة، وتحديات لا تعني فقط التراكم المستمر للأزمة الاجتماعية / الاقتصادية / السياسية، ولكنها تعني وبالدرجة الأولى، أن مغرب العقد القادم، قد يكون أمام كارثة محققة. تقول المؤشرات، إن عدد سكان المغرب قد يزيد على الأربعين مليونا سنة 2020 وإن نسبة البطالة قد تصل في العقد الثاني من الألفية الثالثة، بين 20 و25 % من إجمالي السكان النشيطين، بمن فيهم الخريجون والعمال الذين لا حرفة ولا تكوين لهم. وتقول هذه المؤشرات أن فئات اجتماعية واسعة، قد تنتقل خلال هذا العقد، للعيش تحت مستوى الفقر، وهو ما يتطلب، حسب خبراء البنك الدولي، إصلاحات سريعة وجذرية في هياكل المؤسسات لخلق ملايين من مناصب الشغل، وإعادة التوازن لخدمات الدولة في التعليم والصحة والسكن وغيرها من القطاعات. بمعنى آخر... إن المغرب الذي هو صورة مصغرة لسلسلة البلدان المتخلفة في أفريقيا والوطن العربي وآسيا، وأمريكا اللاتينية، نتيجة لأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولكي يخرج من حلة تخلفه الاجتماعي فقط ولا نقول تخلفه الشامل، عليه أن يحدث اليوم قبل الغد خمسة ملايين وظيفة عمل لكي يقضي على البطالة، وأن يضاعف عدد المعلمين والأساتذة، والكوادر التربوية الأخرى، ويضاعف عدد الفصول الدراسية في المدراس الابتدائية والثانوية والعالية، سبع مرات على ما توجد عليه اليوم، لتأمين مقعد مدرسي أو جامعي لكل القادرين على التعليم، وهذا يعني أن على المغرب أن يعد للتشغيل وللتعليم مئات الملايير من الدراهم، لبناء المؤسسات التعليمية، ولإيجاد وظائف التشغيل، وذلك دون ما تفرضه عليه حالة الصحة، والصناعة والتجارة، والزراعة والسكن اللائق، والمجالات الحيوية الأخرى، من مصاريف لا حول له بها ولا قوة. في الوقت الراهن تدعي القطاعات الفلاحية والصناعية والخدماتية والإدارية، أنها لم يعد في إمكانها خلق مناصب شغل جديدة لا للخريجين ولا للعمال العاديين. وفي الوقت الراهن كذلك يتضخم عدد العاطلين والمتعطلين، ليصبح انعكاس البطالة واضحا على ميزانية الدولة، في غياب رؤية واضحة لإشكالية النمو الديمغرافي ولإشكالية القضايا الأساسية الأخرى. فازدادت الاختلالات وازدادت تقلصات الإنفاق، وستزداد طالما لم يتوقف النمو الديمغرافي، وما يرافقها من اختلالات وإكراهات. في الوقت الراهن كذلك، وبموازاة مع هذه الإشكالية، أصبحت خدمات الدولة في الصحة والتعليم تتراجع بسرعة، بعدما أصبحت نفقاتها عبئا ثقيلا على ميزانيتها العامة... وأصبحت وتيرة السخط الاجتماعي تتوسع بعدما أصبح «الشغل» مستحيلا بأجهزة الدولة، وبمؤسسات القطاع الخاص وبالمهاجر الأوربية التي أغلقت أبوابها في وجه المهاجرين قبل عدة سنوات، بقرارات لا رجعة فيها. إن مثل هدا التحليل، يعني أن التخلف حالة مستمرة من التنافر بين النمو الديمغرافي وبين ضالة المصادر الاقتصادية التي تصل حد الفقر والجفاف والعوز، وهو ما يعطي للتخلف صفة أخرى يمكن أن نطلق عليها التخلف في التفكير وفي الاهتمامات. ومثل هذا التخلف/ في التفكير والاهتمامات، إضافة إلى انعكاساته السلبية على الأجيال الصاعدة، يعمق الفجوة بين ماضي البلاد المعنية بأمر التخلف، وبين مستقبلها. ويضع الحد النهائي لتراثها الماضي بكل معطياته العلمية والحضارية والاجتماعية، ليوقف جوانب التقدم والإبداع فيها ويبعدها تماما عن روح العصر وآفاقه المستقبلية. يؤكد الباحث المغربي المرحوم محمد عابد الجابري في إحدى محاضراته المتصلة بموضوع التخلف، «أن الإنسان يتميز عن الحيوان، ليس فقط بكونه يعيش لحاضره مدفوعا بالماضي، بل لأنه يعيش مستقبله مدفوعا بالحاضر. فمستقبل الإنسان حاضر أمامه، بقدر ما يتراكم ماضيه حوله، وكلما كان الانسجام بين وقائع الماضي ومعطيات الحاضر وآفاق المستقبل، كانت المشاكل التي يطرحها المستقبل اقل حدة وأخف وطأة». من هذا المنطلق الواقعي... نرى أن الدول الصناعية الغربية / المتقدمة حضاريا، تعيش حاضرها باعتباره نتيجة طبيعية لماضيها، ولهذا فمشكلة المستقبل لديها مشكلة عادية يتم بحثها والتخطيط لها وفق معطيات الحاضر نفسه، أما بالنسبة للدول المتخلفة، فإن الأمر يختلف كثيرا، يختلف من النقيض إلى النقيض، ذلك لأن شعوب هذه البلاد مفصولة عن ماضيها ومقطوعة الاتصال بمستقبلها. أولا بسبب ظروفها الاستعمارية الماضية. وثانيا بسبب ظروفها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية الراهنة. وثالثا وأخيرا بسبب تراكم مشاكل التخلف على كاهلها في الحاضر... وفي المستقبل. إن الدول المتخلفة نتيجة هذه الحالة، تجد نفسها ترفض حاضرها في بحثها عن المستقبل، وترفض ماضيها في تأملها لحاضرها، لأنها - في الواقع - ترفض وضعيتها، فهي لا تعترف بالفساد، كما لا تعترف بالجوع، والجهل، والمرض، والفقر، والبطالة، التي تنهك قواها، لأنها تدرك - من موقعها - أن واقعها ليس في حاجة لأي اعتراف ولا إلى من يعطيه أمثلة ودروسا في الإنقاذ، وإنما هو في حاجة إلى عملية جراحية، تستأصل الداء الخبيث من جسمها الغض. ومن ثمة تأتي حالة الارتباك، وكل الحالات الأخرى التي تدفع بها إلى اليأس. هل يعبر هذا الرفض عن وعي الدول المتخلفة بتخلفها؟ لاشك أن تقارب أجزاء العالم، وتواصل قاراته، وتأثير المناطق الاقتصادية والقومية بعضها بعض، إعلاميا وسياسيا، واجتماعيا، وتكنولوجيا، قد أعطى «لتيار العصر» وضعه المتميز في نفس الإنسان، سواء بالجهات المتقدمة أو المتخلفة، فلم يعد «الوعي بالتخلف» في حاجة إلى الإحساس بالجوع، والمرض، والجهل، والفقر، ليصبح حقيقة أكيدة. وعندما يصبح الأمر على هذا الشكل، يعني ذلك، أن الدول المتخلفة قد أصبحت على أبواب تحولها التاريخي، وأنها بصدد استعمال الشروط الموضوعية والتاريخية، لهذا التحول... وأن العراقيل المادية، هي التي باتت تقف في وجه هذا التحول، ذلك لأن «الوعي بالتخلف» وتعميقه في نفوس الشعوب التي تعاني سلبياته، هو الدافع الخلاق للتحول المنتظر... وللخروج من حالة التقوقع والجمود والانتظار القاتل.