الشاعر الذي يحمل في كفه الوردة التي توبخ العالم شكلت تجربة الشاعر المغربي الراحل أحمد بركات واحدة من التجارب الشعرية التي سبقت زمانها. تجربة لامست أدق تفاصيل اليومي والعابر والبسيط، بلغة أقرب إلى البوح المتألم، الذي يعري ويكشف ويدين، دونأن يفقد هذا الحفر المتأني العميق للقصيدة شرف انتمائها للإبداع. من هنا بقي اسم هذا الشاعر الفذ،الذي رحل وهو في بداية مساره الإبداعي، علامة فارقة في تاريخ القصيدة المغربية الحديثة. بمناسبة صدور أعماله الشعرية، ضمن منشورات وزارة الثقافة المغربية، والتي تشتمل على ثلاث مجموعات: (البدايات، أبدا لن أساعد الزلزال، دفاتر الخسران)، احتضن فضاء المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته العشرين بالدار البيضاء، حفل تقديم هذه الأعمال، بمشاركة عبد الحميد اجماهري وعبد العالي بركات، حيث تم تقديم شهادات حول الراحل، وتسليط الضوء على تجربته الحياتية والشعرية. فقد أشار الشاعر والإعلامي عبد الحميد اجماهري إلى أن «الشاعر الراحل أحمد بركات، عاش سريعا وعاش طويلا وعاش في قسوة ورحل سريعا أيضا، لكن حياته كانت بالنسبة إلي، ذاكرة لحياة جيل، بمعنى أنه كان يمتلك نفس ملامحه، وهو عوض أن ينشغل كثيرا بالأسئلة والماهيات، كان يحتفل بالنصوص التي تتموقع فيها ملامح جيل أو قصيدته الشخصية، فعاش دائما على حافة الألم، وعلى مقربة كبيرة من العذاب، أتوقع اليوم أننا نعيش ميلادا جديدا له، كان يبحث في الواقع عن اللغة التي سيفاجئ بها العالم، وحين لم يجدها في الحياة، ربما وجده في النفس الأخير من العدم، أتوقع كذلك أنه قام بمعادلة قصيدة الشعر والحياة، فقد ترك الحياة وحيدة، تواجه مجهولها اللغوي، أي مجهول جيلنا بكامله، مجهول التجربة الشعرية المغربية بكاملها، بتراكماتها، بتميزها وبمجاراتها،لأنه حاول أن يستخرج منها ما يكفي، كان متسرعا في الحياة، أوصد فكرته عن الحياة بسرعة..». وأضاف اجماهري في شهادته كذلك أن « الشاعر الراحل كان صامتا، كثير الضحك على عكس الصورة التي ترسخت في ذهني، كان جارحا في اللغة، يبحث كثيرا في الأشياء: الأرض، الكرسي، الباب.. الأشياء التي نعيش بها يوميا، لكي يؤسس تجربة متفردة، أعتقد أنه عاش حياة بدون لا وعي، لم يكن في حاجة لهذا اللاوعي، ليؤسس بالضرورة تجربته الشعرية، لم يكن يحتار كثيرا، وهو يكتب، وبصدور هذه الأعمال الشعرية، ستبدأ حياة جديدة..». وذكر الإعلامي والقاص عبد العالي بركات في شهادته في حق أخيه الشاعر المرحوم أحمد بركات أن « سنة 1976 تعد تاريخا هاما في مسيرته الأدبية؛ لأنها السنة التي نشر فيها لأول مرة، وسنه لم يكن يتجاوز السادسة عشر، ولم يكن ما نشره قصيدة أو أي شيء من هذا القبيل كما قد يعتقد الكثيرون، بل كان ما نشره عبارة عن مقال قصير ذي نفحة فكرية إذا شئنا القول، وكان محوره الأساسي يدور حول مفهوم الاشتراكية...». وأضاف عبد العالي أن «سنة 1990 شكلت محطة بارزة في مسيرته الأدبية، حيث شارك في الدورة الأولى لجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب، ونالها في الفئة الخاصة بالشعر عن ديوانه البكر: أبدا لن أساعد الزلزال. هذا الديوان كان ينوي نشره في دار توبقال ولم يكن يفكر في ترشيحه لأي مسابقة أدبية..». وتوقف عبد العالي بعد ذلك عند تجربة المرض التي سرعت برحيل الشاعر أحمد بركات، حيث ذكر أنه «حدث أن غاب المرحوم أياما عديدة، ولم يكن معهودا فيه أن يغيب عن البيت مدة أطول، إلى أن اتصلت بنا زوجته وأخبرتنا بأن المرض اشتد عليه. حين زرته في بيت زوجته، صدمتني الحالة الصحية التي كان عليها، كان شاحبا جدا وهزيلا ولا يقوى على الكلام، أخبرتني زوجته بأنه لم ينم منذ مدة طويلة. كان بحاجة إلى الشمس، هو الذي يشكو من داء السل، حيث تقرر في صباح اليوم الموالي حمله إلى مستشفى 20 غشت، وتم الاحتفاظ به في القسم الخاص بمرضى السل، قسم الجحيم، هذا هو الاسم الذي يليق به؛ فهناك كنا شهودا على وضع شبيه بالكابوس، حيث أن الطبيب نادرا ما كان يزوره، وحيث أن أرملته هي التي كانت تقوم بمهام التمريض، كانت ظروف التمريض عبثية؛ فلم يكن يكف عن التقيؤ والتأوه، ويوما بعد يوم كان يفقد الكثير من وزنه، إلى أن انحدر الوزن إلى عشرين كيلو، ومع ذلك تم الاحتفاظ به في الحجرة ذاتها، وسط قيسارية قسم داء السل، أجل قيسارية، في الوقت الذي كان بحاجة ماسة للعناية المركزة، سيما وأنه بات شبه مؤكد أن علاجه صار ميؤوسا منه، إلى حد أنني فكرت في رفع لافتة أمام الباب الرئيسي للمستشفى، مكتوب عليها: «أنقذوا الشاعر أحمد بركات» وظهر خبر في إحدى الجرائد الوطنية، تحت عنوان: »الشاعر أحمد بركات بين الحياة والموت» وهنا تحرك اتحاد كتاب المغرب خلال ولاية محمد الأشعري، وحمل ملفه الطبي إلى وزارة الثقافة التي كان على رأسها آنذاك علال السي ناصر، وتقرر عندها نقله إلى مصحة الحكيم التي تقع بجوار تلك المستشفى المشؤومة، حيث ظروف أفضل للعلاج، غير أن الأوان كان قد فات، ولفظ آخر أنفاسه هناك».