مناضلون يتذكرون مع أحمد سالم لطافي(3) ترجع صعوبة كتابة تاريخ حزب التقدم والاشتراكية، انطلاقا من نواته الأولى إلى اليوم، مرورا بمحطات محورية في نضالاته، إلى عدة أسباب؛ منها ما يتعلق بقلة المصادر التي اهتمت بكتابة تاريخ هذا الحزب الوطني الكبير، ومنها ما يعود إلى تفادي بعض النخب التي عاشت تفاعلاته مع الشأن الوطني والسياسي والديبلوماسي الحديث أو الكتابة عنه، لإيلائه ما يستحقه بالفعل من اهتمام كمساهم في صناعة مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر. قد يكون لمناضلي هذا الحزب ومفكريه جانب من المسؤولية في عدم العناية بما تيسر من وثائق تاريخية لم تجمع بالشكل الذي يسهل الرجوع إليها، أو ضاعت في يم إهمال جعل الاستفادة منها صعبة. بيد أن نيات صادقة تسعى اليوم لجمع هذا الشتات عبر رؤية حديثة من زواية تبحث في خبايا الحقائق وتقرأ ما بين السطور بحثا عن الحقيقة وعن قراءة وتحليل أكثر دقة وموضوعية اعتمادا على المناهج والتقنيات العلمية لتصفية الرؤية . وإسهاما في هذا الجهد، وتحضيرا لتخليد ذكرى الاحتفال بسبعينية الحزب، ستحاول بيان اليوم، من جانبها، الاطلاع على تاريخ حزب التقدم والاشتراكية وتمحيصه ودراسته من خلال جلسات ولقاءات مع مناضلين عايشوا مرحلتي الحزب الشيوعي المغربي وحزب التحرر والاشتراكية لبوا دعوة الجريدة مشكورين للمساهمة في إعادة كتابة تاريخ المغرب بمناهج ورؤى جديدة تعمل على دحض مجمل الكتابات الملتبسة واللاموضوعية والتي احتكرت كتابة تاريخ المغرب لمدة طويلة كان الهدف الأساسي منها تركيز سيطرة جهة على أخرى، واحتكار صفة الشرعية والتمثيلية. وسيلاحظ القارئ، على مدى هذه الحلقات، اعتماد المتحدثين في هذه الجلسات على مراجع مثبتة تعطي لكل ذي حق حقه سعيا وراء تقديم شهادات واقعية للأحداث. العياشي لم يحمل السلاح داخل منظمة «الهلال الأسود» لقد تمكن الشيوعيون بالمغرب – أغلبية أجانب وأقلية مغاربة- من انتزاع القانونية للحزب وتم عقد الندوة الوطنية في 14 نونبر 1943، وكان بين المؤسسين المرحوم عبد السلام بورقية، وعلي يعتة، وأحمد الماضي. لقد تأسست كتلة العمل الوطني سنة 1934 وتأسس الحزب الوطني في نفس السنة. لقد كان للحزب الشيوعي المغربي موقف وطني شجاع في التعامل مع التحالف الذي أفضى إلى تأسيس الحزب الوطني والذي تحول إلى حزب الاستقلال في سنة 1944. تقول وثيقة الحزب الشيوعي المؤرخة في 4 غشت 1946 ، حول اقتراح إنشاء الجبهة الوطنية المغربية: « إن أرباب الشركات الدولية وسادة الاستعمار الذين ساندوا بالأمس هتلر واستحسنوا أعماله الفظيعة مستعدون اليوم لخدمة أي استعمار كان، بشرط أن يضمن لهم امتيازاتهم المخجلة . لكن الشعب المغربي يعرف مقاصد هؤلاء المستثمرين الخسيسة ولا تخفى عليه براعتهم في فن التشويش والتفريق .إنه يعرف أن النصر نتيجة جميع قوات الشعب في الاتحاد. فلنبعد عنا إذن كل ما يرمي إلى تفريقنا، ولنبحث عن كل ما يجمعنا ويؤلف بين قلوبنا. ولهذا يجب انضمام كل قواتنا في جبهة وطنية مغربية واسعة تضم أعضاء حزب الاستقلال وحزب الشوري والاستقلال والشيوعيين والنقابيين والاشتراكيين وكل المغاربة التقدميين، ثم إلى هؤلاء ينضم من الأوروبيين الذين يعيشون في المغرب من لهم شغف بالحرية...». وتضيف وثيقة الجزب الشيوعي المغربي : « إن كل الرجال وكل الشبان وكل النساء الذين يحبون وطنهم ويودون أن يروه مستقلا في القريب العاجل يجب عليهم أن يكونوا في كل مدينة وفي كل قبيلة وكل قرية لجنا للجبهة الوطنية المغربية. وفي هذا الكفاح العنيد ضد الاستعمار الغاشم، نحن متيقنون بمؤازرة الشعب الفرنسي وخصوصا مؤازرة طبقته العاملة المدافعة عن الحرية.. فالصداقة في المساواة التامة والاحترام المتبادل بين شعبينا هما ضمان لسيادة واستقرار بلادنا. فبكفاح جميع المغاربة وباتحادهم الأخوي سيصير المغرب مستقلا، ضامنا لأبنائه الحرية والسعادة «. وعلى الرغم من راهنية هذا النداء الوطني ومصداقيته، لم تستجب الأحزاب الوطنية المغربية الأخرى . فعلى مستوى الأهداف، كانت كل التشكيلات الحزبية للحركة الوطنية، وخصوصا بعد سنة 1950 ، تناضل من أجل استقلال المغرب». وهو ما يؤكده الدكتور بوعزيز المصطفى و الأستاذ معروف الدفالي في كتاب المقاومة المسلحة والحركة الوطنية في منطقة النفوذ الفرنسي . وبسبب سياسة المقيم العام ايريك لابون القمعية والمتشددة « ستتشكل مجموعة من الأحزاب المغربية خلال سنة 1951 في حلف واحد سمي ب» الجبهة الوطنية». ولم يستثن الحزب الشيوعي المغربي من هذه الجبهة إلا لأسباب إيديولوجية تاكتيكية، إذ كان يتقاسم نفس الهدف ويواجه نفس العدو. وهو أيضا ما يؤكده كتاب «المقاومة المسلحة والحركة الوطنية في منطقة النفوذ الفرنسي». كانت الأحزاب المكونة لهذه الجبهة هي حزب الاستقلال ، وحزب الشورى والاستقلال، وحزب الإصلاح الوطني، وحزب الوحدة المغربية. وفيما بين 1951 و 1956 ساهم الحزب الشيوعي المغربي مساهمة كاملة في كل النضالات الشعبية، مؤديا دوره الطلائعي الثوري.فقد كان على رأس النضال ضد « مخطط الإصلاحات» للإقامة الفرنسية العامة وضد المؤامرة على الحركة الوطنية . ويحق للحزب الشيوعي المغربي أن يعتز. فقد كان له الفضل التاريخي في تنظيم الطبقة العاملة المغربية في أول نقابات عرفها المغرب، وذلك خرقا للقوانين الاستعمارية التي كان جاريا بها العمل والتي تمنع العمال المغاربة من التنظيم النقابي. فبفضل تجربة المناضلين الشيوعيين وإخلاصهم وتفانيهم وشجاعتهم ونضالاتهم أمكن للشغيلة أن تتوفر على حركة نقابية نادت الشعب إلى الوحدة والكفاح فاتحة أفق النصر لقضية الاستقلال الوطني. في هذا الإطار، يقول البيان الذي أصدره الحزب الشيوعي بعد إقدام المستعمر على مؤامرة 20 غشت 1953 : « إن الحزب الشيوعي المغربي يندد بشدة بالمؤامرة التي حاكها الامبرياليون الفرنسيون بخلعهم سلطان المغرب». إن الحزب الشيوعي المغربي الذي كان يطبق تعاليم ماركس ولينين وينسق سلوكه مع الظروف الجديدة عرف كيف يخوض في آن واحد المعركة السياسية والكفاح المسلح، وكان الحزب السياسي الوحيد الذي سهر على صدور صحافته المركزية « حياة الشعب» و» إسبوار» بانتظام وبدون انقطاع، وكذلك مناشير ومطبوعات أخرى. ولم يقتصر الحزب الشيوعي المغربي على هذه المعركة السياسية .فقد أسس، بمعية مقاومين تقدميين المنظمة المسلحة « الهلال الأسود» التي كان من بين قادتها الرفيق عبد الكريم بنعبد الله عضو المكتب السياسي، والطيب البقالي صهر علي يعتة ومحمد السطي الكاتب الجهوي للحزب بالدارالبيضاء ولمفضالي والحداوي. وهنا، وللأمانة التاريخية لم يكن كل أعضاء المنظمة حاملين للسلاح . فقد أكد لي الرفيق عبد الله العياشي أنه لم يحمل سلاحا ناريات قط في حياته، ولم يصوب طلقة ولو في الهواء. كان أعضاء منظمة « الهلال الأسود»، حسب ما جاء في شهادات الرفيق العياشي، خلال إحدى الجلسات معه، يعقدون الاجتماعات بشكل منتظم، أو بشكل استثنائي في حال بروز طارئ. وبعد اتخاذ القرار، كانوا يسندون المهام المتعلقة بتصفية الخونة والمعمرين لمستعمر لرجل يدعونه» المنفذ». بعد استعراض هذه المعطيات، التي حرصت على أن تكون مستقاة من مصادر مؤكدة صونا لتاريخ حزبنا، من الضروري الإشارة إلى أمرين هامين أو إلى خلاصتين أراهما مفصليتين . الأمر الأول: لقد تمت مغربة الحزب الشيوعي المغربي ابتداء من 1946 .والمغربة معناها أن القيادة أضحت في يد مغاربة إلى جانب فرنسيين ملتزمين يضعون استقلال المغرب ضمن أولوية المطالب. وقد أبان الحزب عن موقف وطني كبير تضمنه بلاغ 1946. والأمر الثاني: دخل الحزب المقاومة المسلحة ضد الاستعمار عن طريق الهلال الأسود كمنظمة لا تحمل الطابع الحزبي، على غرار المنظمة السرية عند حزب الاستقلال والتي كان مكلفا بها بنبركة. لقد تميز « الهلال الأسود» بتحريك من المناضلين الشيوعيين وغير الشيوعيين، عن المنظمات المسلحة الأخرى بتوجهه السياسي والإيديولوجي التقدمي وبهيكلة تنظيمية على أسس جدية. وبفضل هذا صار « الهلال الأسود» بسرعة أداة المقاومة المسلحة الأكثر قوة ونجاعة، وكانت عملياته تزرع الرعب في صفوف العدو الاستعماري والعملاء والخونة. والى جانب الهلال الأسود أسس الحزب الشيوعي المغربي منظمة وحدوية أخرى للمقاومة كانت تحمل اسم « لجنة الاتحاد الوطني» والتي كانت تضم مقاومين من مختلف الميولات السياسية وبعضهم كان مرتبطا بمنظمات مسلحة أخرى. في هذا الظرف، بدأت ملامح الوعي السياسي تتضح في ذهني وأنا لا أزال تلميذا يتأثر بشخصية والده، ويلعب مع أقرانه ببلدة تيغمرت، مسقط رأسي، التابعة لإقليمكلميم . نعم كان والدي الذي يحمل اسم عيسى، المستشار الجماعي في بلدة تغمرت مسقط رأسي التابعة لكلميم مؤثرا جدا في شخصتي. كان بطل حرب حقيقي إذ شارك في نزالات طاحنة ضد الأسبان. وبعد الحرب، التحق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية . كان يحكي لي عن مقاومة أحمد الهيبة للاستعمار الفرنسي وعدد من الأحداث التي شهدها إقليمكلميم في ظل هيمنة الحكام الفرنسيين. حكايات بطولات جعلت ذهني يسرح بعيد راسما بحماسة الصغار آفاقا لمستقبلي الذي لا يجب أن أكون فيه سوى مناضلا مدافعا عن وطني وأهلي، خاصة بعد تأثري بإحدى الخصال التي كانت تميز والدي عن الآخربن. فقد كان، رحمه الله، قريبا جدا من المحتاجين ومرهفا السمع لكل القضايا المتعلقة بالكادحين. ظلت أحلامي تكبر خاصة بعد مجيئي إلى الدارالبيضاء ولقاءاتي بأحد التلاميذ الذي كان منضويا آنذاك تحت لواء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . لا أنكر أن اهتمامي كان واضحا بالسياسة، لكنه لم يصل بعد، في ذلك الوقت، إلى درجة التفكير الجدي في الانخراط بحزب سياسي . وستمضي سنوات الدراسة الثانوية بالدارالبيضاء مليئة بالأحداث السياسية وخاصة الإضرابات والمظاهرات وبالتعرف على أساتذة كبار كانوا آنذاك أعضاء في الديوان السياسي للحزب الشيوعي المغربي منهم أستاذي في الفلسفة الرفيق إدمون عمران المالح. بعد ثانوية مولاي الحسن (ثانوية فاطمة الزهراء حاليا) التحقت بثانوية محمد الخامس التي كان يدرس فيها التلميذان عبد الواحد سهيل وعبد اللطيف ادماحما . وللحقيقة دائما، لم يكن الرفيقان معي في القسم نفسه. ولم أتعرف على الرفيق سهيل الذي كان يتابع دراسته في الاقتصاد إلا لاحقا، مع الإشارة إلى أن أستاذه في اللغة الاسبانية لم يكن سوى شمعون ليفي. بعد حصولى على الباكالوريا، شعبة الآداب العصرية، تابعت دراساتي بجامعة فاس . وهناك سأتعرف على محمد أمين العمراني الرفيق الذي كان له الفضل في التحاقي بالحزب سنة 1966 . كنت مهيأ، بل ومقتنعا بمبادئ الحزب وأهدافه. وبعد النقاش مع الرفيق العمراني الذي كان يتابع دراسته بالجامعة ذاته، اتخذت قراري النهائي وأصبحت مناضلا كامل العضوية في حزب وطني كبير .