-1- أجد صعوبة في الحديث عن الصديق أحمد فرشوخ والكتابة عن تجربته؛ باحثا وناقدا وإنسانا مفرطا في دفقه الإنساني، لأن الأفكار والصور والوقائع تتدافع في ذهني وعلى لساني مرة واحدة، وأنا أسترجع بعض ما تلتمع به، ذاكرتنا المشتركة التي نتقاسمها مع أصدقاء آخرين في لحظات ممتلئة من زمن مكناس الثقافي الجميل، الذي أدركناه كما أدركنا بنهره ولياليه. «السي احمد»، كما يحلو لنا أن نناديه، كان ضمن من كانوا في طليعة «صحوة ثقافية ثانية بمكناس» بدأت التماعاتها تنبجس منذ نهاية الثمانينيات، بعد «صحوة» جيل الرواد والمؤسسين: الدكتور حسن المنيعي، الشاعر المرحوم بنسالم الدمناتي، الشاعر عبد السلام الزيتوني، الدكتور عبد الرحمان بن زيدان، الباحث الموسيقي عبد العزيز بنعبد الجليل، الروائي الميلودي شغموم، الشاعر علال الحجام، الناقد بنعيسى بوحمالة، الزجال محمد بنعيسى، الشاعر المرحوم عبد السلام المحمدي، الشاعر رابح التيجاني، وطبعا دون أن ننسى مهندس الشأن الثقافي بمكناس الأستاذ «بنعبد القادر»، وأسماء أخرى في المسرح والموسيقى والتشكيل والكتابة. واستطاع أحمد فرشوخ باقتدار وذكاء أن يلعب دور القنطرة بين هذين الجيلين على مستوى مكتب اتحاد كتاب المغرب بمكناس، ونجح بجديته ومسؤوليته ورزانته المعهودة في تدبير هذه التجربة المخضرمة والانتقالية بدون جروح ولا قطائع، وبما يحفظ الرصيد الثقافي والرمزي لمنظمة اتحاد الكتاب بهذه المدينة.- -2 لا أرى «السي احمد»، وأنا أستحضر مساره التكويني والتأليفي، وأسترجع سنوات طويلة من الصداقة الوثقى التي تجمعنا، إلا في جبة الزاهد الذي أوقف حياته على العلم والمعرفة والتحصيل والتدريس والكتابة والنشر. لا تصادفه في الشارع أو المقهى إلا برفقة حزمة من الكتب في حقول ومجالات لا يقربها إلا الشداد. قدماه تقودانه، وفق خط سير معلوم في تجواله اليومي، إلى كُشك «الحسين» أو إلى إحدى مكتبات شارع علال بن عبد الله أو الحسن الثاني لرصد وتتبع جديد المطابع ودور النشر، لعله يضفر بما سترتوي به نفسه الأمارة بالفضول المعرفي.وأذكرُ أنَّ تبادلَ الحديث مع «السي أحمد» عند اللقاء به، سرعان ما يتحول إلى جولة «مشائية» مفتوحة لا ينهيها إلا تعب الجسد، حيث يُشحَذ الفكر وتُمشكَلُ القضايا ويَنشَطُ ما تختزنه الذاكرة من معارف مسعفة، وهو هنا لا يكتفي باستظهار عناوين الكتب متمسحا بعتباتها، أو استعراض مخزونه من آخر التقليعات الفكرية والنقدية الغربية والعربية، ولكنه يفاجئك دائما بسعة اطلاعه الذي يمتد إلى عمق المفاهيم والتصورات، وبقدرته التركيبية على «الجمع بين أعناق المتنافرات» كما يقال، مراوحا بين القدامة والمعاصرة، ومتنقلا عبر مسالك وعرة تصل كما تفصل بين العلوم والمعارف. -3 تحمل تجربة أحمد فرشوخ الكثير من مقومات ما يُتعارف عليه في الأدبيات السوسيو-اقتصادية ونظريات التطوير الذاتي ب «قصة نجاح» جديرة بالنمذجة والتعميم والتداول، على الصعيد المحلي بمكناس، و كذا على المستوى الوطني .قصص النجاح، من هذا القبيل، توجد في صلب المشاريع المجتمعية الكبرى، نظرا إلى أهميتها في إشاعة روح التفوق، وصناعة نخب المستقبل، وبناء الثقة في حلم أو مشروع مجتمعي. لعله هنا، يمثل في تقديري أحد إبدالات «الحلم المغربي»: حلم عنيد ومتمنع، لكنه ممكن. وألفي أن الأستاذ أحمد فرشوخ بمساراته المتساوقة: مهنيا وثقافيا وأكاديميا، يجسد من حيث لا يدري هو ذاتُه رُبّما، تحققا تجريبيا لما يُمكن أن نسميَهُ ب»نموذج أخلاقي للنجاح الفردي»، في موازنته بين الطموح المشروع إلى الارتقاء الاجتماعي وتحقيق وضع اعتباري ضمن «المجموعة الثقافية»، وبين «واجب القيم» بمفهومها الإنساني الواسع، كما تتمثل في المعرفة والإبداع والاقتسام والعمل والاستحقاق والاعتراف، وغيرها من القيم التي انصهرت من غير تمحل طي السجية البيضاء «للسي أحمد»، وما يتمتع به من انفتاح ذهن في ظل نشأته على طريقة والده الفقيه والعالم رحمه الله. هذه المنظومة التي ما انفك يدرج على هديها، لا تتجلى فقط في سيرة الرجل وفي طبيعة اختياراته الحياتية والمهنية، وإنما تنسحب كذلك على سلوكه كباحث ملتزم بأخلاقيات البحث العلمي، من تواضع متلبس بالاجتهاد، وقلق لا يقنع بالسهل والمتيسر، ودقة ترجع المعارفَ إلى أصولها والفضلَ إلى أصحابه بلا ادعاء ولا إقصاء. بل إن القارئ ليستدل دون كثير عناء على هذه المنظومة القيمية في ثنايا دراساتِه النظرية والنقدية الصادرة في كتب ومقالات. - هامش: بعض ما تداعى إلى الخاطر، مما يسمح به المقام والحيز، خلال اللقاء الدراسي التكريمي حول تجربة الباحث أحمد فرشوخ النقدية والتربوية، الذي نظمه فرع اتحاد كتاب المغرب بمكناس بتنسيق مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة.