ازدهار النقد المسرحي الصحفي رهين بازدهار مسارحنا ببرمجة شهرية دائمة وبوفرة المنتوج المسرحي الذي يتيح المجال للتنافس اسمه الكامل، خالد قاسم أمين، من مواليد مدينة تطوان سنة 1966، يشتغل حاليا أستاذا للتعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان تخصص أدب مقارن ودراسات الفرجة. حاصل على دكتوراه الدولة في الأدب المقارن (تخصص مسرح) وماستر «أف آرتس» من جامعة إسكس بالمملكة المتحدة في الأدب الحديث، تخصص مسرح. مؤسس ورئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة، وعضو الهيئة العلمية للمعهد الدولي لتناسج ثقافات الأداء التابع لجامعة برلين بألمانيا، وعضو المكتب التنفيذي للفيدرالية الدولية للبحث المسرحي. أصدر عدة منشورات ودراسات حول المسرح وفنون الفرجة، من بينها: «ما بعد برشت»، «المسرح المغربي بين الشرق والغرب» (باللغة الأنجليزية)، «الفن المسرحي وأسطورة الأصل»، «مساحات الصمت – غواية المابينية في متخيلنا المسرحي»، «المسرح ودراسات الفرجة». كما ساهم في مجموعة من الكتب الجماعية من بينها: «المسرح ورهاناته» إلى جانب الدكتور حسن المنيعي؛ «مسرح ما بعد الدراما»، مع كل من كريستل فايلر، حسن المنيعي، ومحمد سيف؛ «مسارح المغرب والجزائر وتونس: التقاليد الفرجوية في المغرب الكبير»، مع كل من مارفن كارلسون، وبالكراف ماكميلان. كما أشرف الدكتور خالد أمين على مجموعة من الكتب الجماعية المنجزة في مجال الدراسات المسرحية، أهمها: «الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا»، «المرتجلة في المسرح.. الخطاب والمكونات»، «المسرح المغربي بين التنظير والمهنية»، وهي كلها من منشورات مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، بتطوان. و»الفرجة والتنوع الثقافي»، «المسرح والوسائط»، «فرجة التحولات/ تحولات الفرجة»، وهي من منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة. بالإضافة إلى عدة دراسات ومقالات باللغتين العربية والإنجليزية المنشورة بمجلات محكمة عربية وأوربية وأمريكية. يعتبر الدكتور خالد أمين من بين أنشط الباحثين في المسرح والدراما في العالم، وقدم أبحاثا ومحاضرات في كبريات الجامعات والمنتديات الأوروبية، ويعود له الفضل في نقل المسرح المغربي إلى العالم الأنكلوسكسوني من خلال تراجم ومنشورات ومشاركات في مناظرات علمية في مختلف أنحاء العالم. بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، التقت بيان اليوم الأستاذ خالد أمين بمدينة طنجة، حيث يقيم، وحيث يتواجد المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي يرأسه، وطرحت عليه أسئلة تتعلق بدرجة حرارة المشهد المسرحي المغربي، وإشكالات البحث العلمي والنقد المسرحي، ومعضلة ما أصبح يسمى ب «الفن النظيف»، ومضامين الندوة العلمية لمهرجان طنجة المشهدية في دورته المقبلة.. إليكم التفاصيل: ماذا يشكل لكم اليوم العالمي للمسرح؟ اليوم العالمي للمسرح مناسبة للتأمل في قضايا وأسئلة وبنيات التفكير التي تهم قطاع المسرح والفنون المجاورة. وهو أيضا مناسبة لتأمل موقع المسرح المغربي ضمن السياق العالمي... يعرف المسرح المغربي تناميا مضطردا خلال السنين الأخيرة بتنامي حساسيات فنية جديدة خصوصا من قبل الشباب خريجي المعهد العالي للفن المسرحي أو الشباب الذين تلقوا تكوينا في ورشات مختلفة بالداخل والخارج.. إلى أي حد انعكست هذه الدينامية الشبابية على مستوى الإبداع المسرحي وجودة الإنتاج الدرامي بالمغرب؟ بكل تأكيد، هناك استحقاقات مهمة مع الجيل الجديد وفورة إبداعية تشكل بحق منعطفا فرجويا في المغرب مع بداية الألفية... المسرح المغربي اليوم أصبح يستشرف رحابة حساسيات فنية مختلفة، ولم يعد مرهونا بأسئلة تدفع بعض ممارسيه إلى نوع من الانكفاء على الذات والماهوية المطلقة... وتنوع الحساسيات الفنية الموجودة في الساحة الآن هو نتيجة لتراكم خبرات الجسد المسرحي المغربي... بمعنى أنه لو لم يكن الطيب الصديقي والمرحوم أحمد الطيب لعلج وتراكم تجارب المعمورة ومسرح الهواة فيما بعد إبان الزمن الجميل، لما وصلنا إلى أمثال بوسلهام الضعيف، وعبد المجيد الهواس، وحسن هموش، وبوسرحان الزيتوني، وأسماء الهوري، ومحمد الحر، وجواد سنني... وآخرين. من جهة أخرى، يجب الإقرار بأن المسرح المغربي هو جزء من العالم.. فهناك متغيرات وعوامل موضوعية -على المستوى العالمي- أثرت أيضا في تسريع المنعطف المسرحي المغربي الراهن؛ ولعل أبرزها تفاعل المسرحيين المغاربة واحتكاكهم مع الفنون الأخرى المجاورة مثل فن الأداء والفرجة الخاصة بالمواقع، والتجهيزات الفنية بشتى تلويناتها، ناهيك عن حساسيات فنية أخرى مثل مسرح «ما بعد الدراما»... بالإضافة إلى تأثيرات المنعطف الوسائطي، والتفاعل مع ثورة الثقافة الرقمية وتقنياتها الجديدة أثناء صناعة الفرجة إلى حد الإفراط أحيانا. فمند ستينات القرن الماضي انجرفت الممارسة المسرحية الغربية بخاصة مع التيارات الحداثية العارمة التي خلخلت أسس ونظريات المسرح الحديث. فلم تعد تستقر على حال. وبحلول العقد الأخير من القرن العشرين أصبح المسرح مستوعبا أكثر فأكثر خبرات الفنون الأخرى، وفن الأداء بشكل خاص. وهنا تحديدا يمكن القول إن المسرح المغربي والتونسي، هما معا، أقرب المسارح العربية على مستوى الممارسة لكل تلك الحساسيات الغربيةالجديدة والتي تنحو عموما نحو دمقرطة الفعل المسرحي عبر تفكيك تراتبية السلطة المضمرة في الثنائيات: نص/عرض، مؤلف/ مخرج... إن متابعتنا لما يعرض في المسارح المغربية، تجعلنا نخلص إلى أن أعمال الجيل الجديد التي تقدم في المسارح المغربية مثل «دموع الكحول» أو «شكون انت» يستحيل مقاربتها من منظور النقد التقليدي أو حتى نموذج التحليل الدراماتورجي البافيسي، وذلك ببساطة لانفلاتها عن التسنين المسرحي الخطي، وإرباكها لمفهوم التمثيل داخل المسرح واعتمادها كتابة شذرية وأنساق دلالية ووسائط مختلفة. وهنا يطرح الإشكال، هل واكب النقد المسرحي المغربي هذا التوهج الإبداعي الشبابي خلال العشر سنوات الأخيرة؟ هناك مواكبة واهتمام، لكن أيضا لا يزال جزء هام من نقدنا المسرحي يراوح مكانه، إن لم نقل إنه في وضع حيادي ملتبس... فهو في أغلب الأحيان يتوارى وراء الوازع الأخلاقي لرفض أعمال قد تكون صادمة في علاقتها بالمقدس- سواء من خلال قذفها للجسد الطقوسي في بؤرة ضوء كاشفة، أو استعمالها للغة بذيئة وصفيقة- لكن دون مساءلة هذه الاستعمالات شكلا ومضمونا... منذ إحداث المركز الدولي لدراسات الفرجة، ساهمتم في إرساء تقاليد ثقافية وعلمية وازنة ومنتظمة، من قبيل مهرجان طنجة المشهدية، والمنتدى العلمي الدولي السنوي، وفضاءات للحوار والتفكير، مع ما يرافق ذلك من منشورات وإصدارات... هلا قربتم قراءنا من هذه الدينامية الثقافية والأكاديمية؟ أولا يجب توضيح الأمر التالي: المركز الدولي لدراسات الفرجة هو قبل كل شيء «جمعية مواطنة» خاضعة للقانون المنظم للجمعيات بالمغرب، وقد حملت على عاتقها مجموعة من المهام لأجل النهوض بدراسات الفرجة. والمركز، بقدر ما هو منفتح على جميع الحساسيات والأصوات المغربية والعربية والدولية، فهو لا يدعي تمثيل الباحثين والنقاد المغاربة أو العرب، بل يمثل فقط أعضاءه الفاعلين (حاملي العضوية والتي تتجدد كل سنتين بناء على مسطرة واضحة). والمركز هو أيضا فضاء علمي أكاديمي مستقل، استطاع في ظرف قياسي أن يحقق تراكما فكريا منفتحا على آفاق معرفية جديدة تتفاعل بحيوية مع مختلف الانشغالات المعرفية الراهنة لعالمنا المعاصر. لقد فاقت منشوراته الثلاثين؛ ناهيك عن أن ندوته الدولية يؤمها كبار المختصين من مختلف أنحاء العالم، ويمكن للمهتمين الاطلاع على تقاريرنا السنوية في موقع المركز http://www.icpsmorocco.org، كما يشيد المركز جسورا قوية للحوار الجاد بين مختلف الثقافات ناهيك عن كونه أسس لتقاليد علمية جديدة في المشهد الثقافي والعلمي الأكاديمي المغربي، تقاليد تقوم على العمل المنظم والهادف والمبني على استراتيجية محكمة وواضحة المعالم. سواء على مستوى المشاريع الفكرية أو على مستوى المنشورات. وذلك برؤية تشاركية حيوية وفعالة وجادة (مع أعضائه وليس أعدائه) تنعكس بشكل إيجابي على حضور المركز في الفضاء العلمي والثقافي المغربي والمتوسطي والدولي. لقد حرص المركز الدولي لدراسات الفرجة (من حيث هو امتداد لمجموعة البحث في المسرح ودراسات الفرجة خارج رحاب جامعة عبد المالك السعدي) حرص منذ إنشائه سنة 2007 على تقديم مبادرات علمية وفنية مختلفة من أجل الثقافة المغربية/ العربية في تنوعها وغناها. ومساهمته في هذا المجال لا تخفى على كل متتبع للعمل الثقافي في بلدنا.. ففي الوقت الذي فضلت فيه أغلب المؤسسات الرسمية والمدنية الانسحاب أو الانسياق وراء الثقافة الاستهلاكية، اختار المركز الدولي لدراسات الفرجة المزيد من التورط والمغامرة في المجال الثقافي المغربي والعربي. مدفوعا بإيمان أعضائه الفاعلين (على قلتهم) بقيم رأَوْها مؤسسةً للوعي الحديث ولخدمة الإنسان وتفانيا في المحبة والجميل على هذه الأرض. ولكي يكون عمل المركز إجرائيا في مبادراته شفافا أمام متتبعيه، حرص أعضاؤه على وضع آليات عمل بسيطة ومعلنة، سواء تعلق الأمر بأنشطة فرجة وإشعاع ثقافي مفتوح على العموم، أو اختص بنشاط علمي أو أكاديمي (نشر كتاب أو ندوة) يؤمه المهتمون والباحثون. لا نرى ضررا في التأكيد، ها هنا، على أن هذه الآلية تعتمد الإعلان المسبق (سنة في بعض الحالات) عن كل المبادرات التي يقوم بها المركز وفتح الباب أمام جميع المهتمين (من المغرب وخارجه) للمشاركة عن طريق استمارة توضع على الموقع الرسمي للمركز الدولي لدراسات الفرجة وتنشرها مشكورة بعض المنابر الصحفية المتعاونة.. وحرصا على تنظيم علمي فعال يوكل للجنة من الباحثين فحص الاستمارات قصد اختيار المشاركين ضمن معايير الجدة والإضافة بخاصة. أمثل لهذا بندوتنا المقبلة، فبعد توصل إدارة الندوة باستمارات الراغبين في المشاركة وإحالتها على اللجنة العلمية لسنة 2013، والتي تتكون من: المفكرة الألمانية إيريكا فيشر، ورئيس الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي كريستوفر بالم، وكريستل فايلر، وريتشارد كوف، ومارجوري كانتر، وكارول مالت، وحسن يوسفي، ومحمد سمير الخطيب، وعز الدين بونيت، تم الاحتفاظ ب 14 مشاركة ومشارك في ندوة الباحثين الشباب، و53 مشاركة ومشارك في مجمل جلسات الندوة التي ستصل إلى إثني عشر جلسة موزعة على ثلاثة أيام، مع (الترجمة الفورية في أغلب الجلسات). أعلنتم مؤخرا أن الدورة المقبلة لمهرجان طنجة المشهدية ستكون آخر دورة ينظمها المركز الدولي لدراسات الفرجة، في أفق مأسسة المهرجان... لماذا هذا الاختيار؟ وكيف تتصورون هذه المأسسة؟ لقد أصبحت مسألة مأسسة مهرجان طنجة للفنون المشهدية ضرورية ونحن الآن على مشارف الدورة التاسعة. فابتداء من الدورة العاشرة سيتحول المهرجان إلى مؤسسة مستقلة، مع إمكانية الاحتفاظ بالشراكات القائمة، وفتح آفاق لشراكات أخرى... واقتناعا منا بأن رهان الاستمرارية لا يمكن أن يرتبط بالأشخاص، فقد أصبحت مأسسة التظاهرة أمرا ملحا... لماذا؟ لأن الإعداد لهذا المهرجان يثقل كاهل المركز الذي يريد أعضاؤه أن يركز على البحث والترجمة والنشر وتنظيم ندوات محورية بمعية شركاء المركز... سنمضي في مسيرتنا البحثية، وطموحنا الأسمى هو المساهمة في خلق ثقافة مسرحية جادة ببلدنا؛ لذلك نرى أنه من الضروري استقلالية إدارة المهرجان كمؤسسة مستقلة عن المركز تعنى فقط بتنظيم المهرجان وذلك ابتداء من نسخته العاشرة 1-2-3-4 يونيو 2014. أما دور المركز فسيقتصر فقط على تنظيم الندوة الدولية ضمن فعاليات المهرجان. راهنتم في البرنامج العلمي لمركزكم على استراتيجية الفرجة في شتى تجلياتها.. ماهي مقاربتكم المنهجية في التعاطي مع هذا الموضوع في بعده الكوني؟ وإلى أي حد تستجيب هذه المقاربة لخصوصيات وإكراهات الفرجات المغربية بتنوعها الثقافي والجهوي واللغوي والإثني؟ كلمة «فرجة»، بالنسبة لنا، هي مرادف وليست بديلا لكلمة «أداء». مع العلم أن «الأداء» يوحي بأحادية الإنجاز خاصة حينما يتعلق الأمر بالمسرح، وكأن العرض المسرحي ينجز فقط من لدن مؤدين لصالح جمهور سلبي. فالفرجة، بالنسبة لنا، هي أشمل من الأداء ومن المسرح، ذلك لكونها قد تشمل الشعائر، والاحتفالات، والألعاب الرياضية، والبروتوكولات الجماعية.. لقد اكتسبت كلمة «فرجة» بالتدريج في اللسان العربي المعنى الذي تشير إليه كلمة spectacle، والمتفرج spectateur. وإذا ما تتبعنا المسارات الإيتيمولوجية لكلمة «فرجة» في مختلف المعاجم العربية سنجد أنها تطورت من «الشق بين الشيئين» كما هو وارد في الذكر الحكيم «وإذا السماء فرجت»، أي انشقت، إلى «انكشاف الغم ومشاهدة ما يتسلى به». والحال أن الاستعمال الأخير يتضمن في خلفيته معنى إحداث تأثير في النفس والآخرين (انكشاف الغم، ومشاهدة ما يتسلى به)... كما أن تداول كلمة «فرجة» في المغرب الكبير أكثر قوة من المشرق؛ إنها باختصار تنطوي على القوة الأدائية للفعل. من جهة أخرى، يستوعب مفهوم «الفرجوية/الأدائية» Performativity مفاهيم أخرى من قبيل تنفيذ وتحقيق فعل ما. وهذا الفهم بدوره استيعاب للخلاصات التركيبية التي وصلت إليها الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، والتي تقول في هذا السياق: «تفعل أفعال الكلام الإنجازية ما تقوله في لحظة النطق بها. فهي لا تعد أفعالا عُرفية فحسب، بل تعد أفعالا «طقسية أو شعائرية» أيضا كما عبر عن ذلك أوستين. إنها تفعل فعلها بمقتضى الصورة الطقسية أو الشعائرية التي تكتسيها. تَكرارها في الزمان يجعلها تحتفظ لنفسها بفسحة عمل لا تقتصر على لحظة النطق بها ذاتها. حقا إن فعل الكلام الإنجازي يفعل فعله في لحظة النطق به. لكن بما أن لحظة النطق هذه تندرج ضمن طقس، فإنها لا تكون لهذا السبب لحظةً غفلاً معزولة أو متفردة. اللحظة حين تكون مدرجة في طقس أو جزء من شعيرة تكون عبارة عن تاريخية مكثفة. إنها تتخطى نفسها في اتجاه الماضي والمستقبل». أعتقد أيضا أن كلمة فرجة في المجال التداولي المغاربي هي جد عريقة، لذلك كان من الضروري الارتقاء بها كي تصبح مفهوما قابلا للتداول في الأوساط الأكاديمية... وقد بدأ هذا الاشتغال مع أستاذنا والأب الروحي لمشروعنا الحالم، ومؤسس حقل دراسات الفرجة بالمغرب، الدكتور حسن المنيعي الذي أعاد الاعتبار للفرجة في المجال البحثي مند كتابه الأول «أبحاث في المسرح المغربي» مرورا ب «المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة»... ثمة سؤال قلق يثيره المبدعون اليوم حول الحريات الفردية في علاقتها بما أصبح يسمى ب «الفن النظيف»، وبارتباطها مع الاختيارات الفنية وحرية الرأي والتعبير، هل بلورتم تفكيرا علميا في الموضوع خصوصا وأنكم تنتصرون في أبحاثكم لسلطة الجسد في الفرجات الفنية؟ سؤال قلق بالفعل في ظل الحراك الراهن. قبل الإجابة أدعوك صديقي العزيز الأستاذ الحسين الشعبي وأدعو القارئ الكريم للتأمل في مقولة رائعة لأحد شخوص «أوراق» للمفكر والمؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي: «الفن مبني على قواعد اصطناعية لا يدخل حيزه إلا من رضي أن يطلق، ولو مؤقتا، طرائق الدنيا... وسنن الدين...», من طبيعة «المسرح الذي يفكر» - والإبداع الهادف عموما- تجاوز واقع الحال، أحيانا، ونفيه، أحيانا أخرى، واستفزازه بالأسئلة القلقة شكلا ومضمونا... لذلك، ينبغي عدم التعاطي مع الفرجة المسرحية والتعبيرات الفنية الأخرى بمنطق «قياس الغائب على الشاهد»: (رغم القيمة العلمية لهذا القياس من حيث هو أحد أهم مناهج الاستدلال عند المعتزلة، فقد أوقع الفكر الاعتزالي عموما في متاهات تشبيه الذات الإلهية بمخلوقاته الفانية). فأحكام الواقع المعيش، لا يمكن إسقاطها على واقع متخيل؛ وهذا تحديدا ما ساقه العروي في المقولة التي ذكرنا قبل قليل. وإذا كان المراد من الفن، بالإضافة إلى وظيفته الجمالية والتهذيبية، إزاحة الأقنعة والكشف عن العيوب والانحرافات، والمصالحة مع إنسانية الإنسان، والبحث عن جوهر الشرط الإنساني وما إلى ذلك من الأهداف النبيلة...، فإنه ينبغي أن نسائل التجارب الفنية داخل سياق تحققها مع إلمام كبير بآليات اشتغال خبراتها الجمالية. أما مقاربتها من وجهة نظر أخلاقية صرفة، فقد يؤدي إلى نتيجة عكسية، وبالتالي سيسيء للعمل الفني بنفس درجة الإساءة للمنجز النقدي الذي يخفي عجزه وراء شجرة «الأخلاق»، والتي تخفي بدورها غابة بأكملها من الرموز في انتظار من يفك شفراتها من خلال علم المسرح. استفزاز الأنماط الجمالية السائدة، واعتماد لغات صادمة للحواس، وتحويل العري الجسدي إلى عري وجودي، نفسي، اجتماعي... كلها رهانات إبداعية وأسئلة وجدت في مسرحنا مند الستينيات مع نبيل لحلو، ومحمد الكغاط، وعبد الحق الزروالي، وآخرين... لكن الجيل الجديد، أمثال بوسلهام الضعيف، وجواد سنني، والمجموعات الشابة من خريجي المعهد مثل «دابا تياتر»، «نحن نلعب»، و»داها واسا»..، هذا الجيل قد استفاد من جماع خبرات جسدنا الفرجوي واستوعبها في أفق تجاوزها؛ كما أنه يراهن على استشكال علاقتنا بالطابو بواسطة «سميأة الجسد، وهي «سميأة»، حسب منظور جوليا كريستيفا، تخلخل النظام الرمزي رغم تعايشها الحتمي معه. ففي الوقت الذي يحيل فيه النظام الرمزي إلى القانون الناظم للغة، يحتوي الأفق السيميائي على كل العناصر المنزاحة الثاوية في تخوم السيرورة الدلالية. ما الجديد في مسرحية «كفر ناعوم»، أو»ديالي»، أو «تمارين في التسامح»؟. لماذا أثير هذا النقاش الحاد في المجال العام المسرحي المغربي حول أخلاقيات الفن المسرحي في ظل الحراك؟ يقودنا هذا الجانب إلى الحديث عن هاجس الجمع بين الرهان الجمالي، والرهان الدلالي في مسرحية «ديالي» مثلا، والتي حظيت بحصة الأسد من التنكيل والقذف وصل ذروته مع وصفها بأنها «مسرحية بورنوغرافية» (والمفارقة هي أن أغلب من كتبوا عنها بيانات وفتاوى مجيشين وجدان مريديهم لم يشاهدوا المسرحية ولم يقرؤوا نصها الدرامي). والمتتبع لعروض «مسرح أكواريوم»، لا يفاجأ بحجم الجرأة التي يقدم بها جسد المؤدي/ المؤدية على الخشبة... وواقع الحال أن «ديالي» مسرحية تعالج الصمت الذي يكتنف عوالم الجنسانية الأنثوية، والنظرة السائدة للسلوك الجنسي الأنثوي، وموضوع التعنيف الممنهج الذي يمارس على ضحايا الاغتصاب بخاصة، ونظرة المجتمع للشرف من حيث هو قيمة سامية، واللغة اليومية، وعنف النظام الرمزي.. من جهة أخرى فالحراك الحالي هو أيضا حراك من أجل تأنيث الفرجة المسرحية. يتمحور الموضوع المركزي للندوة العلمية للدورة القادمة لمهرجان طنجة المشهدية حول «الفرجة والمجال العام»، ما هي الرهانات التي سيحققها تناول هذا الموضوع؟ أو ليس ثمة تداخل بين السياسي والفني عندما يتعلق الأمر باختراق للمجال العام؟ ندوة «الفرجة والمجال العام» هي ندوة مفصلية ضمن أنشطة المركز، وهي مهداة للممثلة والفنانة الاستثنائية ثريا جبران. والندوة هي تتمة لنقاشات الدورات السابقة مع التركيز على العلاقة المتبادلة بين الفرجة وبين مفهوم «المجال العام» باعتباره مفهوما مركزيا في الندوة. فالندوة ليست اجترارا للحديث حول أنماط وأشكال من الفرجات في ثقافتنا وفي ثقافة الآخر والتعريف بها، كما أنها ليست نقاشا مفتوحا حول قضايا سياسية وثقافية عامة، وإنما هي تحليل ومقاربة معرفية لبعد محدد ودقيق هو علاقة الفرجات بالمجال العام. ظهر «المجال العام» بموازاة مع التحولات البنيوية في المجتمعات البرجوازية الأوربية ليصبح شكلا من أشكال التجمع في «الأماكن العامة» بهدف التداول الحر في قضايا الشأن العام. ومع ذلك، فالمجال العام هو أيضا حلبة تتصارع فيها العديد من التجمعات الجماهيرية المتنافسة، وسرعان ما يتحول إلى ميدان قتال، كما أكدت ذلك شانتال موف ذات مرة. من هنا، يستعمل ثلة من الفنانين الثائرين «المجال العام» للفت الانتباه إلى وجهات نظرهم السياسية، مثلهم في ذلك مثل المتمردين الذين يتفننون في أساليب الاحتجاج. فمن خلال الجسد الفرجوي يبرزون مواقفهم السياسية علانية ودون مناقشة أو تداول حر مع الأطراف الأخرى التي تخالفهم الرأي. وفي هذا السياق، تتشكل فرجة الاحتجاج من حيث هي نموذج للفعل السياسي الذي يقع خارج نطاق توافق الآراء السياسية الحزبية، كما أنه لا يخضع مؤسسيا للأحزاب أو النقابات أو المنظمات الأخرى. أكيد أن الفرجة، بصفة عامة، والفرجة المسرحية بخاصة، لها وظيفة بارزة في مجال عام مضطرب وشديد التوتر. نمثل لهذه الوظيفة بفرجة الدمى العملاقة بمدينة سياتل أثناء مسيرة الاحتجاج ضد منظمة التجارة العالمية سنة 1999، وحركات «احتلوا»Occupy المناهضة لكل أشكال الليبرالية المتوحشة، واحتجاجات «الربيع الديمقراطي»، ومنتديات مسرح المجتمع، وظواهر فرجوية أخرى بما فيها ظاهرة الاحتراق بالنار في الأماكن العمومية. ولعل القاسم المشترك بين كل هذه الفرجات هو تقمص الأدوار داخل «المجال العام»، كسلوك سياسي مفعم بالباروديا والغروتيسك والكرنفالية. وعليه، فقد شكل فعل الاحتراق بالنار الشرارة الأولى لما سمي ب «الربيع العربي» في الإعلام الغربي، وهي الشرارة التي أطلقها محمد البوعزيزي من تونس مقدما جسده كفضاء مشهدي غروتسكي وموضوع في نفس الآن ضمن فرجة احتجاج قاسية وملتبسة: كونها قاسية، فذلك لأنها قدمت مؤديها قربانا لمتفرجين حاضرين في عين المكان، لكنهم غير مستعدين للتعاطي مع بشاعة «الحدث الفرجوي» سواء كجمهور أو شهود عيان. هؤلاء المارة تحولوا قسريا، وليس عن طيب خاطر، إلى جمهور لفرجة البوعزيزي دون سابق إنذار، أو تواطئ ممكن. أما كونها ملتبسة، فلأنها نقلت الجسد القربان إلى بنيات مجتمع الفرجة وإيواليات الإنتاج والاستهلاك الإعلامي، فأصبح هذا الجسد فرجة مشيئة ولا إنسانية، وعرضة للاستهلاك في النشرات الإخبارية والوصلات الإشهارية لعالم مولع بأخبار الدمار الشامل... كما أن الفضاء الذي تشغله الفرجة يتميز ببعده الرمزي؛ فهو لا يقيم القطيعة بين عوالم العام والخاص عبر فصل الممثلين عن الجمهور؛ بل أكثر من هذا، تستدرج أغلب فرجات «المجال العام» جمهورها للمشاركة في صناعة الفرجة عوض الاكتفاء بالتلقي السلبي، وهذا يعني أن جمهور الفرجة سرعان ما يتحول إلى صانعها. لا يوجد حد فاصل بين الوهم والحقيقة. وهذا ما يجعلها تراوح بين القدسي والدنيوي، العام والخاص. إنها ببساطة، تتموضع في فضاءات المابينية. ف «المجال العام» بدوره يعبر المجال الخاص ومجال السلطة العمومية من خلال آلية الرأي العام الذي ينبه الدولة لحاجيات المجتمع. اهتم البحث العلمي بالفن المسرحي منذ أن عرفت رحاب الجامعة المغربية الدرس المسرحي، ويلاحظ بعض المهتمين أن تنامي هذا الاهتمام جاء على حساب تراجع النقد المسرحي ببلادنا، بمعنى أن الكتابة حول المسرح والتفكير فيه انحصرا فقط في الباحثين الأكاديميين والجامعيين فيما اختفى نقاد المسرح.. هل يشكل ذلك نوعا من القطيعة بين الباحثين والنقاد أم أنه يمكن تدارك الأمر بإحداث نوع من التكامل بين البحث العلمي في المسرح وبين النقد المسرحي؟ يتميز مجال البحث العلمي الجامعي المرتبط بالمسرح بالحيوية ورحابة الأفق. فرغم ارتهانه، أحيانا، لبنيات التفكير التي تتوزع المشهد المسرحي المغربي، إلا أنه يتوق إلى آفاق مشرعة على استشراف علم المسرح الذي ينظر إلى الممارسة المسرحية في ارتباطها بباقي التبادلات الثقافية والرمزية من جهة، وحركية المجتمع من جهة أخرى. من هنا، يمكن اعتبار البحث العلمي في المجال المسرحي بنية للتفكير بصيغة الجمع في أوضاع الممارسة المسرحية تتجاوز الشرح والتحليل والتوثيق إلى التوجيه والتفاعل الإيجابي... فمنذ «أبحاث في المسرح المغربي» لأستاذ الأجيال الدكتور حسن المنيعي، اتجه البحث الجامعي صوب نقد أوضاع الممارسة المسرحية بالمغرب في ارتباطها بإشكالية التأصيل انطلاقا من مسرحة السلوكات الفرجوية المتجذرة في الوجدان الشعبي للمغاربة دون إغفال حضور مسرح الآخر الغربي في متخيلنا المسرحي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: إلى أي حد ما تزال الممارسة المسرحية المغربية تتفاعل مع درس حسن المنيعي والثلة الكريمة من الباحثين الجامعيين؟ وإذا ما تأملنا آخر إصدارات المنيعي، الجماعية والفردية: «النقد المسرحي العربي»، «المسرح ورهاناته»، «مسرح ما بعد الدراما» ... سنستنتج بأن البحث المسرحي عند المنيعي يسعى جاهدا لتجديد دمائه من خلال استشكال علاقته بالمشهد المسرحي المغربي الراهن وربطه بكل الحساسيات المسرحية الوافدة... لكن هذا لا يعني أن البحث الجامعي كله يحمل على عاتقه مسؤولية مرافقة الحساسيات المسرحية الراهنة... هناك من اختار التقوقع والانكفاء واجترار مصطلحات من معجم بافيس، رغم كونها لم تعد تحمل نفس المعاني والأسئلة... «من هو الناقد المسرحي الحقيقي؟»... هكذا يبدأ الدكتور حسن المنيعي سفره الممتع ضمن كتاب «النقد المسرحي العربي». إنه سؤال وجودي يهدف استشكال ماهية النقد المسرحي من حيث هو لغة واصفة للإبداع المسرحي نصا وعرضا، بنفس الدرجة التي يسائل فيها آلياته وبنياته من داخل الممارسة النقدية. فالناقد المسرحي الحقيقي، حسب حسن المنيعي، «هو الذي يستطيع إدراك آليات اشتغال العمل المسرحي وتحديد أصولها ومستجداتها اعتمادا على ثقافته الشخصية.» بهذا المعنى، يكون النقد المسرحي عند المنيعي متفاعلا مع الجسد المسرحي؛ ولكن أيضا «لا يجب على المسرح أن يمتص الفعل النقدي. وإنما يلزمه أن يعمل على إدراجه في الفعل المسرحي.» على حد تعبير الدكتور حسن المنيعي في كتابه «النقد المسرحي العربي». وعليه، فالبحث المسرحي له مجال اشتغاله، وجزء مهم منه مواكب لما يجري في الساحة المسرحية. ويعبر عن نفسه أكثر في المجلات المحكمة والكتب والدوريات الجامعية والأطاريح... أما النقد المسرحي الصحفي، فإنه ينتمي إلى مجال تداولي آخر؛ كما يعبر عن نفسه من خلال المقالة أو العمود سواء في الملاحق الثقافية أو إحدى صفحات الجرائد... وفي اعتقادي الشخصي المتواضع فإن مسألة تراجع هذا النقد مرتبطة ببنيات التفكير التي تتوزع مشهدنا المسرحي. لو كانت المقالة التي ستصدر غدا حول عرض مسرحي ما ستغير مساراته أو تؤدي إلى إنجاحه أو إفلاسه وستؤثر على شباك التذاكر لاعتنينا أكثر بهذا المجال... باختصار، ازدهار النقد المسرحي الصحفي رهين بازدهار مسارحنا ببرمجة شهرية دائمة وليست موسمية، وبوفرة المنتوج المسرحي الذي يتيح المجال للتنافس... من جهة أخرى، وبحكم طبيعة العمل الصحفي، يتجه جزء من هذا النقد نحو تحقيق «سكوب صحافي»، من خلال التعليق على صورة للطيفة أحرار مثلا، وهو بذلك غير مهتم بموضوع المسرحية ولا حتى كلف نفسه تصفح ديوان ياسين عدنان.. ومع ذلك يكتب لأجل الإثارة...