لا يمكن لأي كاتب أن ينمي كتاباته دون إصغاء جيد للنقد تواصل شعبة اللغات بالمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل التابعة لجامعة عبد المالك السعدي أنشطتها الثقافية، التي تروم-حسب بلاغ الشعبة- في هذا الموسم الثقافي الجديد خلق تواصل مع مختلف الحساسيات الإبداعية الجادة، بما فيها الأجيال الجديدة التي تستحق الاحتفاء من داخل قلب الجامعة؛ لما حققته من تراكم يستدعي منا الإصغاء إلى نبض متخيلها المخصوص. وقد أكد البلاغ أن من غير المستساغ أن تغض الجامعة نظرها عن مواكبة هذه الحساسيات الإبداعية، وإخضاع منجزها إلى البحث الرصين، هذا إلى جانب الإلحاح على جعل الثقافة مكونا رئيسا من مكونات التكوين، وإثراء رصيد الطالب على مستوى تعرف محيطه الثقافي ورموزه، بما يفضي إلى تطوير ملكاته وقدراته المختلفة. كما تسعى الشعبة أيضا، إلى الاحتفاء أيضا برموز الأدب المغربي عن طريق فتح حوارات بينهم وطلبة المدرسة العليا للأساتذة، وذلك بغاية فتح جسور أمام المبدعين والنقاد للتعريف بمشاريعهم، وتقريبها من الطلبة. افتتحت الحلقة العشرون من سلسلة «تجارب إبداعية» باستضافة الروائي المغربي البشير الدامون صاحب روايتين جميلتين وجذابتين هما «سرير الأسرار» و«أرض المدامع» بتعبير الناقد عبد اللطيف البازي الذي أطر اللقاء باقتدار منطلقا من تساؤلات تهم «لغز» أو «ظاهرة» اسمها البشير الدامون، حيث قدم لحد الآن روايتين أثارتا الاهتمام هما «سرير الأسرار» و«أرض المدامع»، وإن كان اسمه لم يتداول من قبل إلا بين أصدقائه وصديقاته. إلى أن فاجأنا برواية قادمة من بيروت ومتبناة من لدن دار نشر عريقة هي دار الآداب. وقد رحب بها الكثيرون، واندهش البعض. والمثير في حلة الكاتب الدامون أنه لم ينتم قبل نشر روايته الأولى «إلى المؤسسة الأدبية بالمغرب، فهو لم يدرس الأدب بالجامعة»، ولم ينشر بالملاحق الثقافية، ولم يسع إلى الحصول على عضوية اتحاد كتاب المغرب مثلا. وتساءل الناقد عبد اللطيف البازي عن سر قدومه إلى عالم الكتابة؟ وما الفرق بين تشكل «سرير الأسرار» و«أرض المدامع»؟ وماذا عن علاقة الكاتب بالنقد؟ وما الذي يستفيده من حديث النقاد عما يكتب؟ وهل البشير الدامون يعد كاتبا تطوانيا، كما كان الراحل محمد شكري يعد نفسه كاتبا طنجاويا؟ وعما إذا كان يمارس الكتابة متحررا من سطوة اللغة؟ وهل نكتب لننسى أم لنتذكر؟ انطلق الروائي البشير الدامون في لقائه المفتوح شاكراً الدكتور عبد الرحيم جيران على محبته وإخلاصه للمبدعين، مبرزا أنه لا يدري بالضبط من أين أتى للكتابة أو كيف ذهب إليها، فهو متأكد من أنه أحسّ في زمن من عمره بالاختناق بما سكنه، وأن ما سكنه يعذبه ويستحيل الخروج منه دون البوح والصراخ بطريقة تجعل -الآخر- يشاركه معرفته، معتبرا أن رواية «سرير الأسرار» جاءت لتعبر عن هذه الحالة، ثم تلتها «أرض المدامع»، وذكر في هذا الصدد بما خاطبته مديرة دار الآداب حين سلمها رواية «أرض المدامع» قصد نشرها بمعرض الكتاب بالدارالبيضاء: «هل شفيت مما تحمل بكتابتك سرير الأسرار؟»؛ ليجيبها بأنه «لم يشف تماما حين كتب سرير الأسرار فواصل البحث عن شفائه في أرض المدامع»، وأكد الدامون أنه ما زال يحاول الشفاء من روايته الأولى في رواية ثالثة تحمل عنوان «هديل سيدة حرة». كما أكد أن رواية «سرير الأسرار» كانت كتابة الصرخة، ورواية «أرض المدامع» لا تقل صرخة عن سرير الأسرار، إذ هي تتمة لها، وإن كانت رواية قابلة للقراءة بمعزل عن الأولى. انتقل بعد ذلك الدامون إلى الحديث عن محتوى الروايتين، فقال بأن سرير الأسرار تتحدث عن حياة طفلة تعيش و تكبر في قلب ماخور، وهي فتاة ذات كبرياء ترفض الحياة التي تسود الدار الكبيرة حيث تعيش، وكذلك نوع الحياة بمحيط الدار الكبيرة فتشرع في الحكي لتتخلص من ثقل المعيش. أما في «أرض المدامع» فقد كبرت الساردة وولجت الجامعة، واعتنقت حلم النضال والعثور على الكنز الأسمى (العدالة الاجتماعية الكرامة). تهرب الساردة من الاعتقال وتختبئ في أحد القصور الكبيرة بمدينة تطوان حيث صاحبه - الذي سيصبح ساردا- يحكي عن هوسه بكنز للملك بطليموس في العصر الروماني بالمغرب والمدفون تحت سراديب القصر. وكما لكل كنز ثمن فالساردان سيواصلان البحث عن كنزهما على الرغم من علمهما أن الطريق إليه حارق. بعد ذلك أكد الدامون على أن كل كاتب أو مشروع كاتب عليه أن يتعامل مع النقد ويتفاعل معه، فالنقد يبين الثغرات الفنية والجمالية داخل النص الإبداعي، منبهاً في هذا الصدد، إلى أنه لا يمكن لأي كاتب أن ينمي كتاباته دون إصغاء جيد للنقد. وقد نفى أن يكون في ما يقدم عليه من كتابة يعتمد على أي نظرية أو رؤية نقدية قبل كتابة الرواية؛ فأثناء الكتابة يصغي إلى أحاسيسه ويترك تداعي ما تراكم في لا شعوره من فكر ولغة و رؤى وأحداث يتشكل وفق حساسيته الخاصة، والشرط الوحيد الذي كان يراعيه هو أن يشكل ما يكتبه نصا جذابا وممتعا للقارئ، ويكتسي قيمة مضافة سواء على مستوى المادة الحكائية أم على مستوى اللغة أو الشكل أو الرؤية؛ فالأهم عند البشير الدامون هو أن يحس القارئ أنه خرج بعد قراءة النص ليس كما دخله، وأن إحساسا ما جديدا يحمله من جراء قراءته النصَّ. ولم يفت الدامون وهو يتحدث عن الكتابة أن يعرج على أهمية الفضاء مؤكداً على أن النص المتمكن من لغة السرد هو النص الذي يجعل القارئ يحس، و كأن ذلك الفضاء ما خلق أو تم الحديث عنه إلا لذلك السرد؛ ومن ثمة تعد مدينة تطوان ذات حضور قوي في رواياته. فحتى الرواية الثالثة التي سترى النور قريبا تحت عنوان «هديل سيدة حرة»، فهي تدور حول حياة الأميرة السيدة الحرة التي حكمت تطوان، وضواحيها في بداية القرن السادس عشر، في أوج الاضطرابات السياسية العالمية آنذاك. أما في رواية «أرض المدامع» فهناك فضاء آخر ألا وهو مدينة فاس حيث تقضي الساردة دراستها الجامعية، وهي المدينة التي تابع فيها الدامون دراسته الجامعية. وحول سؤال ما إذا كان قد استشعر بأنه سيكون كاتبا أم لا؟ أشار الدامون إلى الدهشة التي كان يحسها، و هو طفل صغير يتنقل بين فضاء مدينة تطوان، وفضاء باديتها وأحوازها حيث كان يقضي مرحلة من عمره، فتلك الدهشة الباهرة هي التي جعلته يتخذ مدينة تطوان ملاذا لكتاباته. كما أن التاريخ الحضاري للمدينة وغناه يجعلانها منجما لمن أراد كتابة الرواية. أما بخصوص نوعية اللغة في أعماله، فيقول إنها تتم بطريقة تلقائية دون أي تحديد مسبق. وأنه لا يفكر إلا في لغة سلسة تجعل المتلقي يفهم ما يقرأ بيسر وجمالية، وتمكنه من إتمام قراءة النص واستشعار لذته ومتعته، ولم لا الشعور بالانتشاء. «ربما حين أكتب فأنا أعرض ما ترسخ في لا شعوري وما اختزنته من قراءات سواء أكانت نثرا أم شعرا. إنني أحس لما أقتحم عالم الكتابة أنني لا أفعل ذلك إلا من خلال ما راكمته من قراءة». وأنهى البشير الدامون كلامه عن تجربته الإبداعية بالحديث عن إشكال الكتابة والنسيان بوصفهما معادلة صعبة. ومن ثمة فهو يكتب وفق جدلية أن ينسى وأن يتذكر في الآن ذاته. * كاتب مغربي