كما وأن لا أحدا يستطيع أن يقتني الفضاء فلا أحد يستطيع أن يقتنى شاعرًا أو شاعرة. فالشاعر والشاعرة هما لاشك لقمة كبيرة تقف في حلق من يحاول أن يلتهمها. أو جرعة صعبة يغص بها من يحاول شربها فيموت: ستموت / وتحط عليكَ حمائم ص 51، من فتاة تجرب حتفها مجموعة الشاعرة د.سهير المصادفة، والتي تقع في مائة قصيدة وهى من إصدارات دار المسار للدراسات الاقتصادية والنشر الشارقة دولة الإمارات العربية المتحدة 1999 من القطع المتوسط.وهى المجموعة الثانية للشاعرة ؛بعد مجموعة (هجوم وديع) التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997.وعنوان «فتاة تجرب حتفها» عنوان صادم، فهل الحتف يمكن أن يُجرّب،مثله مثل الحظ أو النصيب والبخت؟ إذن لابد لهذا من دلالة أو دلالات.ويحمل الإهداء أكثر من مائة اعتذار، ولهذا أيضا دلالته وعلاقاته اللا شعورية لديها؛ فالمعنى دائما في بطن الشاعر وإن كنتُ لا أرى في بطن الشاعرة إلاّ مجموعتها الحشوية، إذن علام يدل ذلك؟!إن المائة هنا ليست بالقطع سنوات عمرها فالشاعرة لا تزيد على الأربعين إلاّ بقليل، وأيضا ليست هذه سنوات عمر المهدي إليها هذه المجموعة العروس: سهام المصادفة.إذن فإلى ماذا تشير هذه المائة ؟هل هي مائة يوم مائة ساعة، مائة دقيقة ثانية، هل هي عمر تجربة الحتف؟!إذا كان هذا كذلك فلِم َلا تكون مائة شهر أو مائة أسبوع مثلا، فهي تكفى لتصطلي بنار التجربة، ومن ثمّ تكون هذه المائة قصيدة .وإذا افترضنا صحة هذه الفرضية، فما هي هذه التجربة البشرية التي دخلت فيها بإرادتها؛ وخرجت منها أيضًا بإرادتها؟أو تأرجحتْ قيها بين المائة يوم، أو أسبوع أو شهر يعنى قرابة ثمان سنوات ونصف، وهى كافية لأية فتاة أن تجرب بختها أو حظها أو حتفها مع عريس الغفلة: في ارتباط مشروع ?الفارس الذي أحببت؛ رماني بلا رحمة قصيدة أسباب البكاء ص 46? يؤكد هذه الفرضية المفتاح المفتتح.. صورة الغلاف:زهرة منسحقة؛لاشك داستها قدم، تناثرت بعض بتلاتها على أرض شراقى عطشى؛ في إهمالٍ شديد.إننا أمام تجربة شرسة أولها (سحْلٌ)، وأوسطها (مرثية) وآخرها (حكمة شيطان رجيم): ولكل واحدة منهن / لون حتفها المحتوم، وبين الأول والآخر تناثرت المائة أغنية التي تقول إن الشاعرة ( تحب الحياة ما استطاعت إليها سبيلا )ص 41، والإشارة هنا تشير إلى بيت (محمود درويش) الشعري: ونحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا، وفى هذا التضمين أو الاقتباس ما يعطى أبعادًا ودلالات إنسانية أخرى غير التي قصد إليها درويش؛ قادرةً على طرح التناقضات والتساؤلات، تؤكد محور الجدلية بين الأنا الشاعرة وبين الآخر (الأنتَ)الفارس الذي أحبت..الأنا التي تفتتْ قرابين على عتبات هذا الذي غالها، تتبع خطاه / وتترك على كل عتبة/ من عتباتهِ جزءًا من بهائها..هذه الأنا الشاعرة تتناثر عبر المائة قصيدة بين الخفاء والتجلي، تختفي لتتجلى؛ وتتجلى لتختفي؛ بين تكرار لفظي يؤكد الحدث والمعنى، وتكرار معنوي يؤكد المعنى ويوسع الدلالة... وبين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب: بما يسمى في اللغة بالالتفات،وهو ما تجيده الشاعرة د. سهير المصادفة، إذ تقول لكَ لا تقترب إلاّ إذا كنتَ مسلّحًا بأدوات تنجيك من الحتف أو تدفعك إلى مغامرة فتاة تجرب حتفها . هذه الروح التي تعانى من الوحدة الشديدة جدا.. إنما تعانى معاناة تجربة مريرة.. تجربة شرسة؛ إذ ليس من السهل أن يُسحلَ قلبٌ أخضر.والشاعرة لا تتركك تتوه في جدلية الصراع بين الأنا والأنتَ؛ إنما تحدد لكَ المفتاح الذي تدخل به وهو في (عازف البيانو) ص 8وفى آخر النص إذ تقول (تعزف بأصابعي).جملة تامة تبنى الجدلية بين تاء المخاطب؛ وياء المتكلمة: معًا يعزفان أغنيةً طويلة هي المائة قصيدة.وها هي ذي الشاعرة الذكية إن لم تحيدك في هذا الصراع؛ تأخذك بهدوء إلى حتفها حين توجه خطابها الشعري إلى ضمير المتلقي؛ إلى إنسانية إنسانيتك.. (أيصح؟! أن يضع رجُلٌ/ في كفه فتاة تشبه زجاجة الكولا /منداةً/ ليلقيها بهدوء في عين الشمس؟!ص 79) لاحظ كلمة بهدوء كأنه لم يفعل شيئًا، وفى عين الشمس الحمئة.. وكلمة منداة، وكلها تدلل على قسوة الرجل، وإنها كانت في يده في متناوله ؛إلاّ أنه وزعها على كل النساء، فأصمى قلبها وأفقدها الثقة في الآخر، إذ قذفها في بئر مظلمة (قذفني عمري بلا ورع ٍ/ في بئر الظلمة) ص 38 فبدت وكأنها لعنة لاحظ كلمة عمري ومدلولاتها وإشعاعاتها.ومع كل هذه الهزائم والإحباطات، وفقدان الثقة والإهمال المتعمد، وما من شيء تتعلق به، لتبكي قصة حُبّ تسيل من عينيها؛إلاّ وأنها وهي الشجرة الصامدة يمكنها أن تقبض على أحلامها ..صحيح ما لها من باب تغلقه على هذا الجحيم؛ وهذه النوازل واللعنات ؛إلاّ أنها وهي الأرض البكر توجه خطابها الشعري لتتلمس الضوء في أحراش الظلمة وحدائق البنفسج.. ذلك الحزن المرير الذي أقامت له تمثالا.. إنها تريد أن تكون نفسها أي شخصانية (جنتي أصنعها على هواي ص 59)، تريد أن تكون نفسها، وتواجه الكون بما حوي، وخاصة أنتَ الخاسر؛ إذ تخصّك دون غيرك (بأربعين طريقة للموت ص 60) أو أربعين طريقة للقتل, فقالت:(ما أحلى غناءه، وما أرخص قرابينها ص 61).ومع أنها وهى الأنا الشاعرة نعتته بالغباء إلاّ أنها تعاتبه ( لماذا قشرت حبي عن قلبكَ/كتفاحةٍ/اسودت تحت هجير مايو؟ ص 47)، وهل لمايو هجير؟!، إلا أنها بداية النهاية وهو مزدحم بالنساء كازدحام القاهرة.. متخم بالعلاقات بينما هي، تشبه مقعدًا فارغًا / في حديقة موحشة/تعانى من وحدة مدقعة ص 17? هذه فتاة تريد أن تكون نفسها، قابضة على أحلامها التي تقبض الصدر.. أو لنقل كوابيس، ولكنها ملونة في لون الليل الطازج بنار الحتف،والحيف.. تتدفق في لحظات نابضة بالرؤية الجريئة الحرة للشعر..، لا يهمها أن تتبع خطًا دراميًّا بعينه، ولا يعنيها أن يصل معنى ما لمتلقٍٍ: وهذا هو جوهر الشعر.إن الشاعرة د. سهير المصادفة ليست شاعرة عادية.. شاعرة لها عالمها الخاص ومفرداتها الخاصة ومفاتيحها المتفردة.. لحاضر نقىّ تعيشه شعرًا ذا حركات طيِّعةٍ في إيقاعات حرة مرنة؛ تدمج جميع المدركات حسية ومعنوية في كٍّل ٍمُتعَضونحتى لتبدو المائة قصيدة؛ وكما فلتُ سابقًا وكما قالت هي في عازف البيانو (قصيدة طويلة) مرتكزة في ذلك على طاقتها المتجددة والمستمدة من نواتها الصلبة رغم هشاشتها ، فهي الشجرة الصامدة في مواجهة العدم بكل مظاهره.. إبداعًا يخرج باللحم والدم والروح؛ إذ ليس في الأفق إلاّ الشعر.هذا ليس تفسيرًا سببيًا تفرضه انفعالات وتفاعلات مع كل قراءة لهذه المجموعة سواء أكان تماسًا أو تطابقًا، أو حتى تضادًا.. غير ممنطق.إذ إن الحساسية للعمل إنما تنبع من تأثيراته على الحساسية الرادارية مرورًا بفلاتر الإدراك.فلا الشكل؛ ولا الأسلوب هما اللذان يحددان قواعد الجذب تلك التي تمسك بالأحاسيس والمشاعر والانفعالات التي يبثها خطاب الشاعرة الشعري وأبسط ما يقال فيه أنه يقود عبر دروب مظلمة إلى مراقي الحكمة والضوء في حكمة سادن البحر (يا سادن هذا البحر/تلك الفتاة / التي يحدد وجهها مسار الغيم/هل كانت حقا حزينة إلى هذا الحد؟!ص 13)ها هي ذي قد وقفت وحدها منتصف البحر.. مشرعة.. بعد أن تخففت من أحمالها وما يثقل صدرها بعد أن نفضت قلبها من ذلك الحب المدمر الذي باعت من أجله ضفائرها وكأن لكل أيوب نعسته باعت ضفائرها من أجل تميمة تعلقها على بابه ليكون لها وحدها. إلاّ أنه أهدر دمها بين عشيقاته وهى في ريعانها ..ورغم أنها حطت على أسرارها كجبل لتكتمها عن الآخرين ولأخريات؛ إلاّ أنها باحت بمكنون صدرها لذلك الوغد الموسيقى أو المغنى وقطعا (ستموت/ وسوف تحط عليكَ حمائم سوداء كثيرة/وتسيل منك الروح / دفعة واحدة كما الشياطين)، ثم انظر قولها (ويصير وجهك / كصورة مسئول كبير / في صفحة الوفيات / لا يتعاطف أحد معه) كأنها تشير في تشبيهها هذا إلى انحيازها للفقراء والمهمشين. ومع ذلك تراها عودًا على بدء تقول (يا أيها الغبي؛ فالوحيدة التي ستبكيك أنا..)(ولسوف أستمتع بهجاء الشعر لي ) ولم لا لأن الشعر قطعًا لن يتركها؛ لأنها نسفت كل ما ادعته من شفائها فالوحيدة التي ستبكيك هي أنا .هذه المجموعة الثرية بما استخدمت الشاعرة من أقنعة ورموز أعطت العمل قيمته..أفاقًا للتدليل، إذ جمعت بين المصري الفرعوني إيزيس وأوزوريس والكاتب المصري، وبين الإغريقي أورفيوس ويوريدكا في العالم السفلى، وكذلك العربي القديم العباسة وزرقاء اليمامة وزرياب، والعالمي الحديث والمعاصر: نجاة الصغيرة ومحمود درويش ولوركا وديانا.. على أن أهم الأقنعة هو قناع الفتاة العربية التي لخصت فيها كل عذابات المرأة العربية وتاريخها الماضوى والحاضر والمعاصر وحتى المستقبلانى. إذ حطت الفتاة العربية بين نارينمقصلة الهوى وهوان الاسترقاق. ومع قدرتها على التمييز والفصل بين آهتين: آهة الألم وآهة المتعة فهي الوحيدة القادرة على ترويض الوحش؛ رغم أنه النهار يا حبيبي ) في معجزات إبريل. إلاّ أن نقطة الضوء الوحيدة في حياتها هي (لؤي ) ابنها إذ ترى فيه حُسن يوسف .وقد بقى أن أشير إلى :1 بعض أسطر جاءت موزونة على وحدة المتدارك والمتقارب والرجز والبسيط قصائد:أغنية للأمير ص 27،عزف ص 75،صحراء ص 91 ،إعصار ص 96.2 بعض القصائد تتبع التقفية غير المتكلفة الحب ص 40?.3 فهرس الموضوعات يختلف مع الصفحات وهذا عيب المطبعة والمراجعة.ومع هذا فقد استمتعت بهذه المغامرة التي أجلستني فيها الشاعرة د. سهير المصادفة فوق أشواك وحسك في حجرة أو في بئر مظلمة،وفجأة انفلش النور.