الثقافة ليست سلعة بل عنصر ضروري في تنمية الشعوب ونهضتها أكد محمد بن عيسى الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة أن الإشعاع الذي حققته هذه المدينة على الصعيد الدولي طيلة السنوات الأربع والثلاثين من موسمها الثقافي، جعل منها مرجعا ثقافيا حداثيا وتنمويا، من خلال مساهمتها في تطوير آليات مقاربة قضايا المغرب وإرساء أسس حوار وتواصل كوني بين مختلف النخب السياسية والثقافية والاقتصادية في الشمال والجنوب. وأضاف بن عيسى في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء على هامش فعاليات الموسم الثقافي لأصيلة في دورته الرابعة والثلاثين أن هذه المدينة ساهمت في خلق توجه الانفتاح التأصيلي، المرسخ لقيم الحوار والتفاعل والتواصل مع الآخر، مستثمرة بذلك النهج الاعتدالي الذي يميز المغرب، ومن خلال ذلك أقامت مؤسسات وأطلقت مبادرات لإبراز سبل الاعتماد على الذات وعلى الإمكانيات المتوفرة لتثبيت هذا الخيار. وفي نفس الوقت، شدد بن عيسى على دور الرعاية الملكية السامية لهذا المشروع حيث أنه " لولا الدعم المادي والمعنوي والتشجيع الذي لقيناه من جلالة الملك محمد السادس منذ كان وليا للعهد وإلى اليوم ما كان لهذا المشروع أن يحالفه النجاح." ومن جهة ثانية أبرز وزير الخارجية الأسبق معالم الاستراتيجية التي على أساسها نهض وانطلق مشروع مؤسسة منتدى أصيلة المرتكز على ترسيخ وتعميق جسور التواصل مع الآخر، وذلك في فترة نهاية السبعينيات من القرن الماضي، التي تميزت بالحرب الباردة والاستقطاب الإديولوجي الحاد والظروف السياسية الخاصة حينها. وأوضح أن بناء هذا المشروع ارتكز منذ البداية على ضرورة "أن نجعل من هذه المدينة منارة تضيء فضاءات العالم الآخر بالقدرات التي يتوفر عليها عالم الجنوب في الفنون التشكيلية والآداب والفكر والاقتصاد والعمارة، علاوة على ترسيخنا لضرورة التعامل مع الآخر والتفاعل معه في فترة سادت فيها الدعوة إلى مقاطعة الشمال الاستعماري الامبريالي...وهو التوجه الذي عارضته على الدوام على اعتبار أن القطيعة سلوك بدائي، وكنت دائما أقول إنه يتوجب علينا أن نبني طريقا سيارا ذا اتجاهين". وقال في هذا الصدد "عندما أسسنا لهذا المشروع الثقافي منذ البداية كان لنا هاجسان يتمثلان في كيف يمكننا أن نوفر موردا لتنمية مدينتنا التي كانت في حالة متدهورة سواء على مستوى بنياتها التحتية أو نوعية الحياة البيئة إلى غير ذلك، ثم كيف يمكن أن نقيم أرضية للتلاقي مع الآخر". وأضاف بن عيسى "لقد راودني بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة قضيتها خارج الوطن والدراسة والعمل في المنظمات الدولية وعودتي إلى المغرب حلم إنشاء مكان يلتقي فيه أهل الجنوب مع أهل الشمال، ويكسر تلك القاعدة التي كانت سائدة، والتي كانت تفرض على الدوام أن يتجه الجنوب إلى الشمال في كل ما يتعلق بنواحي الحياة بما فيها الاعتراف بقدرات الآخرين..." . لم تلق الفكرة في البداية - يقول بن عيسى- كل القبول بالنظر إلى تخوف الفاعلين على مستوى المدينة من عدم القدرة على تحقيقها، معتبرا أنه بعد هذه السنوات الأربع والثلاثين "يمكن القول إننا استطعنا أن نحقق جزءا من الأحلام لتصبح أصيلة مرجعا ثقافيا وتنمويا وخاصة في جنوب العالم المصنع، ورأس جسر في التواصل بين النخب والمفكرين والمبدعين والسياسيين في العالم ". ومن جهة أخرى أبرز أمين عام منتدى أصيلة الدور التنموي المركزي الذي اضطلعت به المؤسسة على أساس الشعار الذي رفعته منذ التأسيس، والمتمثل في الثقافة من أجل التنمية، موضحا أن الثقافة " ليست سلعة، بل هي الممارسات اليومية في مختلف قطاعات الحياة، وعنصرا ضروريا في تنمية الشعوب ونهضتها". ونبه إلى أن "الثقافة هنا تأخذ أبعادا شمولية تتجاوز الآداب والفنون لتشمل التربية والتعليم والمعرفة والعناية بالقدرات الإبداعية لدى الإنسان" مشيرا إلى أن هذا التوجه تمت ترجمة أهدافه على مستوى مدينة أصيلة من خلال صقل مواهب الطفل وتوفير سبل استعمال وتوظيف قدراته في مراكز ثقافية صغيرة وورشات الإبداع مثل ورشات الرسم والصباغة للطفل التي تقام طيلة السنة، وتنظيم ورشة خاص بكتابة الطفل في الرواية أو الشعر أو القصة ثلاثة مرات في السنة، بإشراف أساتذة جامعيين متخصصين. هذه العناية المتعلقة بترسيخ هذا المفهوم الشامل للثقافة في بعدها التنموي شملت أيضا، حسب بن عيسى، "هيكلة البنيات التحتية من وسائل الاتصالات وبناء مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية وإصلاح قصر الثقافة وبرج القمرة، وتشييد مكتبة الأمير بندر بن سلطان، ونحن بصدد افتتاح مكتبة جديدة خاصة بالشباب وأخرى بأحد الأحياء داخل مشروع كبير اسمه /دار التضامن/، علاوة على الشروع قريبا في تشييد مركز للفنون في أصيلة، إلى غير ذلك". كما تم تفعيل هذا الخيار عبر بناء حدائق متعددة تتميز بها أصيلة والطرقات التي صممها فنانون من أمثال محمد المليحي وفريد بلكاهية ويونس الخراز وغيرهم، فضلا عن جهود الدولة في إرساء البنيات التحتية من قبيل تعميم الماء الصالح للشرب والكهرباء علاوة على المشاريع المدرجة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وكذا مساهمات بلدان شقيقة من خلال مشاركة مفكريها في ندوات الجامعة الصيفية أو بناء مشاريع اجتماعية وثقافية وتربوية وصحية. وخلص محمد بن عيسى إلى أن هذه الحركية الثقافية والتنموية واكبتها حركية اقتصادية وتجارية وعمرانية شهدتها المدينة خلال هذه العقود، ستتعزز قريبا بالشروع في بناء منطقة اقتصادية مندمجة بها منطقة صناعية على مساحة 60 هكتارا، مما سيتيح إمكانية خلق فرص للشغل. فلسفة بن عيسى في الحياة وفي مشروعه بأصيلة، خلاصته من تجربة حافلة وممتدة، تكثفها حكمة مفادها "العمل المجدي لابد أن تكون فيه جرعة الحب أنا أعشق مدينتي...".