المدن كلّها تكبر، ونحن بداخلها يوما عن يوم نتضاءل. أنا مشّاء، وبهذه الطريقة العزلاء و الأكثر سلمية ووداعة أواجه ضآلتي داخل المدينة. أستطيع إذا أن أقهر غول المسافات بقدماي هاتين، و أن أمدّد كياني داخلها إلى أوسع مدى، لولا هذا اللعين المدعو بالزمن. الزمن لا يتحمّل مزيدا من الانتظار، لأنّه يتحوّل، و ياللهول ، إلى بعد آخر للامتداد المكاني للمدينة. فأنت لا يمكنك أن تخلّص نفسك من سلسلة المواعيد المرتبطة بالعمل والبيت و لقاء الأصدقاء والتسوق... وما إلى ذلك من مهام روتينية وأخرى طارئة، دون مراعاة هذين البعدين المشدودين مثل قوسين داخل المدينة. بعد يمتد و يمتدّ هو المكان، و بعد يضيق و يضيق هو الزمن. إذا لابدّ من حلّ لهذه المعادلة أو بالأحرى إجراء مصالحة ممكنة. أن أسوق سيارة على أربع عجلات، أو درّاجة بعجلتين بنار أو بهواء أمور مستحيلة و فق عقيدتي الرامبوية، فمذ عرفت آرتور رامبو و أنا مشّاء بنعال من ريح، لا أستطيع – رغم مهارتي المشهود بها- أن أسوق حتّى بهيمة مهجورة خارج سوق القرية. إذا، لابدّ من التاكسي و إن طال العناد. *** كان من المعروف أنّ الحلاقين في عمومهم ثرثارون، أو لعلّها الصورة التي يحبّ المغاربة أن يقدّموا بها هذه المهنة الرائعة والتي ترعى الجمال فوق رؤوس الناس وعلى ذقونهم. لكن هذا غير صحيح، ربّما في زمن قديم، أمّا اليوم صالونات الحلاقة يحوطها صمت بارد لا تتسيّده سوى شاشة تليفزيون منعكسة صورها على المرايا، و أنت وحظك مع الحلاق، فهناك الحلّاق الرياضي والسياسي و الولوع بالأفلام، و الشغوف بالبرامج الوثائقية... إنّ الثرثار الحقيقي هو سائق التاكسي، فهو بمجرّد الضغط على العداد، و تعديل موجات الراديو حتّى يدخل في مونولوج غير منقطع حتى لو شاركه راكب أو اثنان...فهو كما يأخذ المقود بقبضة من حديد فهو يسيّر الحوار الذي ليس في النهاية سوى مونولوجه الداخلي. *** كانت أعمار السائقين فيما مضى متقدمة، أمّا اليوم فهم من صغار السن أو متوسطي الأعمار. في السابق كان سائقو التاكسي الصغيرة هم من تخلّوا عن سياقة الشاحنات الكبيرة و الحافلات التي تقطع المسافات الطويلة، وبعد أن أعيتهم حياتهم المضطربة بين المدن و الجهات، و استنزفتهم الزيجات و العلاقات الملتبسة بنساء من هنا وهناك، و العلاقات العابرة التي تخلقها الطريق المفتوحة دائما على الكثير من المفاجآت، هاهم الآن قد خلدوا إلى حياة شبه مستقرة، و يكتفون باختصار المسافات عبر دروب المدينة وشوارعها، و ما تبقّى لهم من ذكريات هي موضوع ثرثراتهم مع زبنائهم المفضلين. اليوم، سائقو التاكسي الصغيرة في غالبهم شبان، بعضهم مجاز، وآخرون متعلمون... وجدوا أنفسهم في المهنة بالصدفة، مثل محطة من بين غيرها من المحطّات، وما أن يتزوّجوا ويصير لهم أبناء حتّى تحاصرهم مهنة التاكسي، ولا يجدون مخرجا...إلّا إذا حدثت معجزة في الطريق، و قد تحدث. الكثير من تلاميذي صادفتهم سائقين للتاكسي، تقول لي زوجتي: «هذا هو الدليل الفعلي بأنّك أستاذ فاشل». كيف لي أن أقنعها بأنهم من أفضل تلامذتي، وإذا كان هناك فشل ما، فسيكون فشل التعليم برمته. *** أخذني التاكسي عند بوابة الحانة، كان الوقت قريبا من ساعة الإغلاق التي يسمّيها الشرّيبون بالساعة الحرجة. كان الفصل باردا، لذلك كان سائق التاكسي ملتفعا بشال صوفي، و عند إغلاقي باب السيارة نزع شاله كاشفا عن لحية شرسة توحي تماما بما يفكر شخص مثله... دخل مباشرة إلى ما توقعته منه، أي مواعظ ظاهرها الودّ وباطنها وعيد. كان عليّ أن أرسم خطّة دفاعية في ردودي لما شرع و دون توقف في كيل الشتائم إلى المسلمين الذين يسمحون بوجود هذه الأماكن التي تنشر الرذيلة وتحضّ على الموبقات، ولو كان لي الأمر – قال- لوقفت عند أبواب هذه الأماكن لأوقع بهم الحدّ الشرعي، ولكن – قال- أين هم المسلمون؟ وهل نحن في بلاد الكفار؟ عند الوصول، أجبته بقولة محمد عبده – دون أن أذكره بالاسم تاركا له أن يتوهّم بأنّي صاحبها- « في بلاد الغرب مسلمون بدون إسلام، وفي بلادنا إسلام بدون مسلمون « قال لي: صح صح... أرجو أن يهديك الله، و رفع يديه بأدعية ركيكة مألوفة في تلك الكتيبات المعروضة في الأسواق. دخلت البيت وأنا مازلت تحت تأثير خطابه، لكن سرعان ما انتبهت إلى نفسي، ورحت أعدد ما تبقى من فكّة في جيبي. لقد احتسب اللعين أجرة توصيلي مضاعفة ثلاثة مرّات، قلت أن يضاعف الأجرة هذا شيء معقول، ومفهوم وفق اللوائح القانونية، غير المفهوم هو تثليثها. أخيرا، عرفت مبرّر القسط الثالث، لقد نال منّي اللعين الجزية جزية الذمي الذي هو أنا .