خلف نافذة سيارته، تراءى له الشارع في حلزونيته القاتمة. فوضى الأشياء تتناثر هنا وهناك، أبواق السيارات والحافلات وحائط سجن اغبيلة المهترئ والباعة وأبواق الموسيقى الصاخبة، الكل يمتزج داخل هذه الحلقة الأرضية أو داخل دائرة برمودا كما يحلو لصديقه اعبيدو أن يسميها، تتراكم الأجساد والبنايات والمتلصصون وصائدو مؤخرات النساء، ونساء منتصف النهار، واللصوص، والمتشردون وأصحاب الكاسكروتات، والشرطي ذو الشارب الطويل الذي آلف المارة صفارته. داخل هذه الدائرة البر مودية تراءى له عري كل هذه الموجودات. هي هستيريا تنتابه كلما مر من هناك، أو ربما هو خرف السنين، أو الشيخوخة، هو زها يمر الذاكرة. لنكن متفائلين ونقل ربما هو كأس القهوة التي تتفنن زوجته في صنعه له كلما فكر في الخروج مع الأصدقاء لأمر ما، ولمَ لا يكن البن المستورد من ايطاليا أو من أمريكا اللاتينية أو لنقل تجاوزا من بعض دول جنوب الصحراء. داخل هذه الدائرة البرمودية ووسط هذا الصخب، تراءى له صديقه كمال والذي حفر حائط سجن اغبيلة اسمه عليه. كمال المناضل الاوطيمي الذي ُاختلطِف من بيت والديه يوما ما، ولم يظهر له أثر إلا على كرسي متحرك. حكايات كمال ذلك الكائن، الذي حوله نضاله إلى كومة من لاشيء، كائن يمتص حياته وهو يحكي عن غرائب ذلك الحائط، ويرتشف بألم رشفة عميقة من كأس قهوته، وسيجارته الدخنة تلوح بجروحه الدفينة، ربما تذكره بشيء ما، يرمق بعينيه الغائرتين مرة تلو أخرى القنينة الزجاجية الموضوعة على المائدة المربعة لمقهى الأزهار. كنا نتابع بألم شديد تلك الحكايات ونحسب الأرقام المالية التي سيتسلمها كتعويض عن سنوات الاختطاف ومعها رسالة اعتذار من الجهات الرسمية، وتعويض من لجنة المصالحة والإنصاف، لكن قدر ما سرقه وبدد حساباتنا الذهنية. ببلاهة كبيرة، حاول أن يتحدى فضوله، ويسائل سيراعلى نهج السلف من أجداده الكبار (اللي تلف يسول) كيف سُمح لهؤلاء جميعا أن يتعروا في الشارع العام، وما سبب هذا العري؟ الثقاة من الناس قد ييسرون له الأمر، والشرطة من الثقاة المعول عليهم، والشرطة كذلك في خدمة الشعب، وعري الشعب من عري الشرطة. وقد يختصر الشرطي الأمر، وقد يستهزئ به عن بلادة السؤال، وربما قد يتجاوز الأمر ذلك إلى اتهامه بمحاولة إزعاجه أثناء تأدية الواجب، وقد تسانده الحكومة في الأمر، فبمعادلة بسيطة الشرطي يمثل الحكومة. وانتقاما هذا الفضولي المتسائل ستُكال له التهم، وستنتقم منه كل القنينات التي كسرها وهو يراهن أبناء حيه عمن يستطيع أن يصيبها من مسافة بعيدة. فرك عينيه مرة أخرى، وخطط باستراتيجية فعالة للتساؤل. مادام هو عضو ضمن الشعب لم لايتقاسم أمثاله من الآدميين عريهم، سيقتحم تلك الدائرة البرمودية، قد يتطاول عليه البعض ويرمي عليه شكوكه، فكيف لهذا الذي يلبس بذلة وربطة عنق يندس بينهم، ربما هو عميل للمخزن، اوعميل لحزب ما أو جبهة ما أرسلته ليغرس سموم الفوضى بين الناس، وقد يعرضه ذلك لأمر ما، قد يشتكيه هؤلاء إلى المنظمات الوطنية أو الدولية وسترفع الشعارات ضده وقد ترفع دعاوي في اكبر المحاكم الدولية وقد تُتخذ ضده إجراءات الاعتقال بتهمة الاندساس، وتضييق الحريات، وستتسابق كبريات الصحف الالكترونية والورقية في أخذ صور له وهو مخل بحياء ارتداء البذلة والربطة وسط كائنات عارية وقد يتهم بالدكتاتورية، وسيحاكم بأعلى العقوبات اقلها الإعدام، وبذلك وهو الموظف البسيط الذي يناضل من اجل لقمة عيشه، ومن أجل الترقية والرتبة والكرامة والبرستيج سيصبح عرضة لما جلبه عليه شكه وخرفه وشيخوخته أو كأس القهوة أو لنقل البن المستورد. لازالت الأشياء تتماهى في عريها أمامه. حتى حائط اغبيلة الذي يحفل بتاريخ الدائرة البرمودية الصاخبة تعرى الآن. وأصبح قبلة لأحرار العري. فرك عينيه مرة أخرى عله يستفيق ..أغمض.. فرك.. أغمض.. فرك وفرك.. لكن أذنيه التقطت أصوات أبواق السيارات، وأصوات السب واللمز، وصفارة الشرطي ذو الشارب العريض. انسحب في هدوء وهو يلعن شياطين الدنيا والآخرة ويتفقد المسافة الفاصلة بينه وبين القنينة الموضوعة داخل دائرته البرمودية.