صراع القهر والانهزام في مسرحيات صلاح عبد الصبور، بحث للناقد الدكتور إبراهيم جندراي. تناول فيه المسرح الشعري للشاعر المعروف الراحل صلاح عبد الصبور (1931-1981). إذ أثار المسرح الشعري العربي قضايا كثيرة ومن أبرزها ما أنجزها الشاعر ودل عليها في مسرحياته التي كتبها وأصدرها بين عامي 1964 و1975. وكانت امتدادا لشعره الغنائي من حيث المحتوى والهم الإنساني. واعترافا من الشاعر عن قدراته الإبداعية وثقافته الواسعة، مع الإقرار بان عبد الصبور من أهم الشعراء المحدثين معاناة وإحساسا بالغربة، والقلق والتوتر والحزن والخوف والضغط الاجتماعي والانعزال. تلك الظواهر والحالات الإنسانية التي كان الشاعر يبثها في قصائده واستحوذت عليه في مسرحياته الشعرية. خمس مسرحيات شعرية حملت عناوين: مأساة الحلاج، مسافر ليل، الأميرة تنتظر، ليلى والمجنون، بعد ان يموت الملك. وتعكس الكلمات في العناوين، (مأساة، ليل، انتظار، مجنون، موت)، صورة الصراع الذي عاشه الشاعر وعبر عنه، وتشرح مفتاح القراءة إلى مضامين المسرحيات وربما وصولا إلى رسالة الشاعر فيها. وقد تعطي، من جانب آخر، قدرة الشاعر على التعبير عنها بحيوية وراهنية المعاناة والبحث عن سبل اخرى تواجهها وتمارس فعلها. لخص الناقد إبراهيم جنداري في بحثه ومدخل كل مسرحية اتجاهاتها العامة وفصل في مستوياتها الفنية والآراء في إمكاناتها ومحور الصراع فيها بين القهر والانهزام والخوف والأمل. فمسرحية مأساة الحلاج تتألف من فصلين باسمي الكلمة والموت، وكل فصل يتكون من عدة مناظر وتعالج مأساة الحلاج بقتله وصلبه في ساحة من ساحات بغداد. ورأى الباحث فيها: ان عبد الصبور في هذه المسرحية مع تجربة روحية هائلة، وهي التجربة الصوفية واتخاذها استبطان الذات سبيلا يحقق الوصول إلى المعرفة الحدسية. وأشار إلى أن الشاعر جعل من الحلاج مثالا للمفكر وهو يصارع ضميره الاجتماعي وتجربته الباطنة، أي ان الحلاج لم يكن صوفيا متفانيا في محبة الله غارقا في تجربته فحسب عند عبد الصبور، بل جعل التجربة الصوفية مدخلا لإصلاح العصر ورفع الظلم مستندا في ذلك إلى كثير من الحقائق التي وردت في سيرة الحلاج التاريخية». (ص22-24). في تحليله لنص المسرحية ولغتها وضع الناقد توزع الصراع الداخلي فيها ورؤاه في تكوينات دائرية لإكمال الصورة وإثراءها حسا بالابتهاء والوفاء والتحقق. تدور مسرحيته الثانية مسافر ليل بجو أشبه بكابوس خاطف تتداخل فيه الأحداث تداخلا يتوافق مع الخوف الذي يسحق الإنسان في أزمنة القهر والتسلط والطغيان. بحيث وجد الناقد ان تطور المسرحية عن طريق تداعي الرموز، وليس على أساس المنطق، وينجح عبد الصبور في تطوير الصورة الشعرية للحقيقة الإنسانية القائلة بان البشر جميعا يروحون ضحايا للطغاة، وشخصيتي الراكب وعامل التذاكر شخصيتان خياليتان متنافرتان أحداهما في منتهى الضعف والانكسار والأخرى مرعبة إلى حد لا يصدق، لكن عبد الصبور يخرج بدفاع بليغ الجذوة الإنسانية من خلال الإدانة الصارمة لحكم الطغاة. وقد اعتمدت المسرحية ذات البناء البسيط والقضية الواضحة على شخصيتين غريبتين. وإضافة عبد الصبور لشخصية الراوي بهدف تكثيف الإحساس بالقهر وضروراته في نفس عامل التذاكر (الطاغية) ومرارة المذلة والانهزام في نفس الراكب. وفي تذييل الشاعر للنص إشارة لذلك. كتب: أنا اعتقد ان الراوي شخصية رئيسة من شخصيات مسرحيتي، فهو بدل الجوقة إذ انه يوضح ويعلق ويشير، إما دوره الرئيس فهو ممثل لكل من هم خارج المسرح. اعتمدت مسرحيته الثالثة (الأميرة تنتظر) عن قصة من الموروث التاريخي وحكايات ألف ليلة وليلة وتبدأ بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما على الحدث الأساس الذي تدور حوله، حيث تنزوي أربعة نساء - أميرة ووصيفاتها الثلاث- في كوخ مظلم، في واد مجدب، نفين فيه بعد تحطم قلب الأميرة من هوى السمندل الذي وهبته ذاتها ومكنته من مقاليد الأمور في المملكة وقتل أباه الملك وعجز عن منحها الطفل الذي تتوق إليه. وأشار الباحث ان النقاد اجمعوا على اعتبار المسرحية أفضل مسرحيات صلاح عبد الصبور وإحدى درر المسرح الشعري العربي. أو كما كتب عنها محمود أمين العالم: المسرحية «في وحدة بنائها وحبكة أحداثها ترتفع إلى ذروة عالية من التأثير الدرامي.. فهي تلعب بالأقنعة وبالتمثيل داخل التمثيل وبالرمز المكثف وبالاغراب وبالإيحاء لكن في إطار حدث واحد يتحرك وينمو ويتعقد ويحل، وفي إطار مضمون مؤثر يقترب منا حينا بدلالة سياسية واجتماعية مباشرة ويرتفع بنا حينا آخر بدلالة إنسانية عامة». خلت مسرحية ليلى والمجنون في فصولها الثلاثة من الأسطورة أو التاريخ، واعتبرت مسرحية واقعية دارت أحداثها في غرفة تحرير إحدى الصحف الثورية الصغيرة في الفترة التي سبقت ثورة تموز/ يوليو 1952، وشخصياتها من الشباب المثقف، باستثناء رئيس تحريرها، ومنه ارتفعت نسبة الانهزام بينهم. وقدمت المسرحية تنويعات اخرى على القضية التي ترددت أصداؤها في مسرحيات عبد الصبور وهي قيمة الكلمة وفاعليتها في التغيير. حاول عبد الصبور فيها ان يكون واقعيا ومعاصرا، البس القصة القديمة الشائعة ثوبا مناسبا لمقاييس عصره. ورغم انتقاد النقاد لها إلا ان الباحث رأى فيها براعة تصوير لأزمة الجيل الذي انتمى إليه الشاعر، ومسرحيته هذه شهادة عن جيل هرم على دكك المقاهي والمواخير. كما ان أبطالها كانوا أكثر امتلاء والتصاقا بالحياة المعاصرة وتاريخها السياسي وثقافتها، وقابليات كل منهم في الاتفاق على ضرورة التغيير والاختلاف في أسلوب المعالجة. وخلص الباحث ان لعبد الصبور قدرة فائقة على كتابة شعر حقيقي يعبر عن أفكار أبطاله وبالتالي عن قضايا إنسانية كثيرة تهم القاريء المعاصر وبقدرة كبيرة على بناء مسرحي وحبكة وتتابع مشاهد بشكل جميل. في مسرحيته الأخيرة وفي فصولها الثلاثة أيضا جمع عبد الصبور خيوط مسرحياته السابقة ووصل بها إلى غاياتها العليا فنيا وفكريا. لاسيما في الصراع المتصاعد عن القهر، كما عبر عنه في مسرحه الشعري. بدأت المسرحية بتقديم نثري ومناخ شعري يبحث عن الحب والحرية والعدل في مواجهة البطش والقهر. ورصد فيها حركة العالم المحكوم بأزماته، والعالم الموصول بأدق اختلاجات الإنسان العربي الحائر بين الكلمة والسيف. ووجد الناقد ان هذه المسرحية خاتمة مقصودة لأعمال عبد الصبور السابقة، ففيها تجمعت الخيوط على نحو من التكثيف للتجارب الأولى، ومثلت النهاية التي رسمها الذروة فيها، بانحيازه النهائي إلى الكلمة المقاتلة بالسيف. واختار لها أداء لغويا عاليا وتصويرا قويا لبشاعة الطغيان والقهر والسخرية من المهزومين والمنافقين والمتذللين في شعر سلس حافل بالصور الفنية، الغنائية والدرامية أيضا. بحث الدكتور إبراهيم جنداري في مسرح الشاعر صلاح عبد الصبور باعتباره إضافة شعرية لحركة الشعر العربي وبناء فني متطور ومعبر عن هموم إنسان عربي معاصر، توثيق وتقديم نقدي للمسرح الشعري وللشاعر الراحل ومكانته في هذا المجال.