سينما تبدأ حينما ينتهي الكلام فيلم «أياد خشنة» جديد المخرج المغربي محمد العسلي، الذي يأتي بعد فيلمه الأول «الملائكة لا تحلق فوق الدارالبيضاء» (2005)، ويواصل هذا المخرج تعامله مع الواقع المغربي ويستكشف بأسلوبه الذي يمزج بين الحكي السردي والصور الجمالية الدالة خبايا المجتمع من خلال التعامل مع الفضاء والإنسان وقضاياه، فالفيلم مختلف من حيث تأكيده على الهوية والخصوصية المغربية، وتفرده في بساطته العميقة ومراهنته على المحلية. استهل المخرج الفيلم بلقطة غاية في الدلالة، مشهد يعطي على أقفاص للطيور فوق سطح إحدى العمارات، وفي الخلفية تظهر المنازل الباردة المصطفة التي لا تختلف عن تلك الأقفاص، لقطة البداية كانت ابداعية حيث تختصر مضمون الفيلم، فلكل طائر غناؤه ولكل شخص عالمه. فمصطفى الحلاق (محمد بسطاوي) بطل الفيلم، الذي يحلق لنخبة المجتمع من وزراء وقضاة ومسؤولين كبار، ويساعده سعيد (عبد الصمد مفتاح الخير) الذي يتكفل بتقليم الأظافر، على أنغام موسيقى تعزف على آلة القانون، يتكفل بذلك مساعد ثان ولهذا دلالة أيضا، يستعمل مصطفى سيارته الصغيرة المهترئة في تنقل طاقمه، وهذه المهنة/المهمة تسهل على مصطفى الاستفادة من علاقات زوجة الوزير السابق أمينة (أمينة رشيد)، لحل مشاكل الناس والحصول على التراخيص والخدمات مقابل عمولات لها ، ويستفيد منها هو أيضا. أما سعيد فانه صامت وغامض وحيد يعشق الطيور ويهتم بها ، يمارس القمار ويعمل مخبرا لجهة سلطوية، وزكية (هدى الريحاني) مدرسة الروض، التي تحتاج إلى عقد زواج ودفتر الحالة المدنية مزورين، للسفر لجني توت الأرض بالحقول الإسبانية، للحاق بخطيبها إدريس المهاجر بدون أوراق، فيما تتكفل والدتها رحمة (ميلودة صموكي)، ب «تخشين» يديها وهذا شرط أساسي للحصول على عقد العمل، لأن الإسبان لا يرغبون إلا في البدويات اللواتي يتوفرن على أياد خشنة قادرة على العمل، وعندما يكتشفون خدعتها فإنها لم تعد تحلم بالهجرة، وإنما بزوج يعقد عليها وبعرس تحضره فرقة أحواش وجولة بسيارة مكشوفة حمراء ليلة الدخلة. فلكل شخصية عالمها الخاص، فمصطفى الذي يفرض عليه عمله الاتصال مع علية القوم حيث لا مجال للعواطف، حيث برودة العلاقات الاجتماعية، ولا مجال إلا للمال والسلطة أو بقاياها، فانه بالمقابل يهتم بوالدته الضريرة (عائشة ماهماه)، وحتى عدم زواجه لحد الآن هو انه لا يريد أن يعكر صفو علاقته بأمه بوجود زوجة قد تطلب منه يوما أن تفرقه عن أمه، وطموحه في التعلم ضمن صفوف محو الأمية. زكية الشابة التي بمجرد أن تم رفضها نزعت غطاء الرأس لتظهر على حقيقتها، كما تريد هي لا كما يريدونها هؤلاء ، فكرامتها بالنسبة لها ليست مجالا للمزايدة. إن الفيلم يندرج ضمن مقاربة المواضيع الضاغطة وصياغتها سينمائيا مسكونة بهاجس التعبير عن الإشكالات والهموم الحقيقية للإنسان المغربي، الحالم بالهجرة وتحسين ظروف العيش ، واعتبارا من كون السينما الجادة هي التي تغوص في المجتمع وتعكس صورته الحقيقة بكل فنية واحترافية، لا نسخة من الواقع بل تعبيرا عنه، فالفيلم من هذا المنطلق يحاول رصد كل حالات الخلاص التي يبحث عنها الإنسان، فزكية تبحث عن الخلاص في السفر إلى الخارج ولو بأوراق مزورة، وسعيد يبحث عن خلاصه في القمار لعله يفوز به، أما زبائن مصطفى فإنهم يلجؤون إليه بحثا عن خلاصهم، وأمينة تنتظر موت زوجها الوزير السابق لتتخلص منه. لقد تم التركيز على الحس الجمالي في أرقى تجلياته بين عالميين، عالم الفقراء الباحثين عن حياة أفضل، وعالم الموسرين الذين هم بحاجة دائما إلى من يخدمهم عندما تخونهم صحتهم. لقد تفوقت لغة الكاميرا في بانوراميات جميلة وعميقة، والقطع المونتاجي الكثيف المرتكز على الإيقاع الموسيقي والإيقاع الفني والنبض الداخلي، الذي يبرز التقابل بين هذين العالمين، ساعد في ذلك التحكم في آليات السرد السينمائي، وتماسك السيناريو، أما الصورة فقد ساهمت في إغناء الخطاب السينمائي، بتحرير النص الفيلمي من سطوة الحوار واللغة، والاعتماد أكثر على ما هو بصري، وإيلاء الأهمية لبلاغة الصورة والعناصر المكونة للتعبير الفيلمي، الإضاءة والموسيقى وحركة الكاميرا والتمثيل الصادق وتوظيفها بطرق وأساليب جديدة، وفي هذا السياق فان جان رينييه من جماعة السينما الحديثة في فرنسا يقول: «إن السينما تبدأ حينما ينتهي الكلام»، إن وظيفة الصورة جمالية وتأثيرية وإدراكية في الآن نفسه ومن تم فان اختيار زوايا التصوير وحركة الكاميرا يكون له بالغ الأثر في صياغة مستويات من التقابلات للحكاية والأحداث، ومن اللقطات التي أعطت بعدا جماليا للفيلم حين يطلب مصطفى من زكية كتابة رسالة إلى خطيبته، متضمنة شروطه، أهمها الاهتمام بأمه الضريرة، وقد ترى زكية هذه الشروط معقولة، والخطيبة المحتملة التي لن تكون إلا زكية، كما لو أنها ستكتب الرسالة لنفسها. وكفضاء مكاني للفيلم فقد اختار العسلي مدينة الدارالبيضاء، لأنه يعرفها، فهي بالنهار مليئة بالضجيج والزحام سريعة متوثرة وعنيفة، أما بالليل فهي ساكنة هادئة موحشة غامضة، لهذا كان للفضاء دور أساسي في إبراز هذه التناقضات. لقد أبدع المخرج في جعل الفيلم سلسا، تجمعت فيه عددا من المزايا الجمالية واللقطات المحملة بالأحاسيس والانفعالات، ساهم في إيصال رسائلها بنجاح حبكة السيناريو وجمالية الصورة ودلالية الديكورات وإبداعية إدارة الممثلين الذين تفوقوا في أداء أدوارهم بصدق، والموسيقى التي أضفت لمسة فلكلورية وإيقاعية على المشاهد، ومن المؤاخذات على الفيلم التي سجلتها هو عدم الاهتمام وتطوير شخصية سعيد، فلم تعطى مساحة للتعبير عن همومها وأحلامها وتطلعاتها، فهو مخبر وعاشق للطيور دون أفق أو مستقبل. إلى متى نلتجئ للوساطات والتزوير لتحقيق أحلامنا؟ والى متى نلجأ إلى تخشين أيادينا الناعمة للوصول إلى طموحاتنا؟ هذا هو المغرب العميق، الذي قد نتمنى أن نصل يوما ما إلى حلق رؤوسنا تحت أنغام «القانون».