منازعات المعارضة في حاجة إلى شيء من الرصانة تطفو على سطح النقاش حالياً عدة مقاربات يغلفها رداء أكاديمي محترم، مفادها أن الحكومة الجديدة دشنت عهدها بمراكمة الخروقات السافرة للدستور، مما يؤشر على عهد حكومي جديد يلفُّه الاستخفاف بقُدسية القاعدة القانونية، وهي مؤشرات مُتلاحقة لا تبشر بالخير! إن تواتر هذه الانتقادات على لسان أقطاب المعارضة يطرح أكثر من تساؤل حول موقع و أدوار وأدوات اشتغال المعارضة في المرحلة السياسية الجديدة، وبالضبط يطرح سؤال: هل كل الدفوعات وكل الحُجج وكل الذرائع صالحة لمناهضة الحكومة الجديدة؟ ليسمح لنا إخواننا الأعزاء في المعارضة بكل أطيافها، والذين نكن لهم كل الاحترام والتقدير، أن نقول لهم: ما كل شيء يقال، خاصة إذا كانت تعوزه الحجج العقلانية، لأن غيرتنا على مصداقية دور المعارضة تقرض علينا أن نُنبههم إلى ضرورة التحلي بأكبر قدر من الحيطة والحذر لاجتناب السقوط في متاهات العبث السياسي، ذلك أننا على يقين أن نجاح التجربة الدستورية والسياسية الجديدة رهين بتكامل الأدوار بين الأغلبية والمعارضة المفروض عليهما احترام بعضهما البعض، وفي ذلك خدمة تربوية ومعنوية وسياسية للحقل الاجتماعي والسياسي الوطني الذي ما فتئ يبحث عن بوصلة موثوقة يهتدي بها. إلاّ أن الخرجات الأولى للمعارضة تبدو لنا وقد زاغت بعض الشيء عن هذا التأطير المبدئي، حيث أن الخطير في الموضوع أن البحث عن تبخيس العمل الحكومي استعمل حطباً له، مجموعة من الاتهامات الخطيرة بخرق مزعوم للقانون الأسمى للمملكة، وهذا اتهام لا تلتجئ إليه المعارضات في الدول الديمقراطية عادة، إلاّ عندما تكون قد تأكدت منه تأكيداً قاطعاً بالنظر لأبعاده المؤسساتية. بتعبير آخر لو تأكد أن اتهامات المعارضة للحكومة هي صحيحة، وجب حينذاك حجب الثقة عنها والمطالبة بإعفائها لأنه لا يستساغ من حكومة بلد ديمقراطي أن تدوس مقتضيات الدستور. لكن الواقع مخالف لذلك تماماً لأن كل انتقادات المعارضة يكتنفها خلل في منهجية التحليل، وبالتالي تبدو في طابعها الحقيقي: اعتراضات سياسوية ليس لها من الجودة القانونية إلاّ القشرة الشكلية الفوقية، وهي بالتالي اعتراضات عديمة الجدوى والتأثير، اللّهم من قضاء وظيفة التشويش (والمرحلة تغني المعارضة المسؤولة عن أي نزوع للتشويش المجاني). الانتقادات الأربع يمكن اختصار النقاش في أربع انتقادات أساسية توجهها المعارضة للحكومة، وهي: 1 - الحكومة الجديدة، حكومة لا دستورية لأن تشكيلتها تضم، فضلاً عن الوزراء، وزير الدولة ووزراء منتدبين، وهي مناصب غير واردة في النص الدستوري. 2 - مراسيم تسليم السلط من لدن الوزراء السابقين إلى الوزراء الجدد، مخالفة للدستور أيضاً لأنها تمت قبل التنصيب البرلماني. 3 - اجتماع مجلس الحكومة يوم الخميس الماضي 5 يناير، هو نفسه اجتماع لا دستوري لأن البرلمان مازال لم ينصب الحكومة، وبالتالي فالمجلس عديم السند. 4 - إعلان رئيس الحكومة عن النية في إحالة موضوع البرنامج الحكومي على أنظار المجلس الوزاري، يُعتبر خرقاً للدستور في حد ذاته. الحقيقة أنه لو ثبت فعلاً أن هذه الانتقادات كان لها ما يسندها سياسياً وقانونياَ لوجب استخلاص الخلاصة الأساسية بأن هذه الحكومة مكونة من مجموعة من الهواة الذين لا يفقهون شيئاً في السياسة وفي القانون، ولو ثبت ذلك لتواجد المغرب أمام امتحان في تدبيره للحكامة الديمقراطية. لكن الانتقادات الأربع سالفة الذكر تبقى انتقادات مهزوزة لا ترقى إلى مستوى النقاش الدستوري العميق. وسنوضح مدى مجانبتها للصواب تباعاً 1 - من الخطأ القول إن التشكيلة الحكومية الحالية خارقة للدستور لأن هذا الأخير لا يتضمن ضمن لائحة الفصل 87 «وزير الدولة» و»الوزراء المنتدبين». ذلك أن أصحاب هذا الرأي فاتهم أن يتمعنوا في قراءة هذا الفصل الذي يتحدث عن «الوزراء». فهل وزير الدولة والوزراء المنتدبون ليسوا وزراء!! أما عن المنازعة في انتماء الأمين العام للحكومة لهذه التشكيلة فلا يعدو أن يكون الأمر مجرد تقليد دستوري دأب عليه النظام الدستوري الوطني منذ عشرات السنين دون أن يكون النص الدستوري يشير صراحة إلى عضوية الأمين العام للحكومة، بحيث أن هذه الأخيرة استفادت دوماً من انتمائه إليها ومن الخدمات القانونية الهامة التي يقدمها لها أثناء مزاولة مهامها. أضف إلى ذلك أننا لم نسمع أبداً في الماضي أي صوت يرتفع للمنازعة في عضوية الأمين العام للحكومة. فلماذا فجأة يَستيقظ البعض للتنديد بما كان الجميع يستأنس به ويعتبره عادياً طيلة عقود وعقود؟ 2 - من الخطأ الدفع بلا دستورية تسليم السلط بين الوزراء السابقين والوزراء الجدد على أساس أن الحكومة الجديدة لم تحصل بعد على التنصيب البرلماني. وسمعنا المنتقدين يوجهون سهام اعتراضاتهم للعملية بحجة أنها لن تستقيم وتصير سوية إلاّ بعد أن يصوت مجلس النواب على الحكومة. لنوضح أولاً أن الدستور، خلافاً لما قرأنا هنا وهناك، لم يتحدث أبداً عن «التصويت على الحكومة»، بل الحديث عن «التصويت على البرنامج الحكومي» والفرق شاسع بين الأمرين! فمتى إذاً، وكيف تتم صياغة هذا البرنامج الحكومي الذي تنصب الحكومة ارتكازاً على مضامينه؟ الحقيقة أن المنتقدين يقدمون لنا جواباً غريباً في هذا الصدد حيث يُستخلص من كتاباتهم وتصريحاتهم أن أعضاء الحكومة الجديدة كان عليهم، فور تعيينهم من طرف جلالة الملك أن يرجعوا إلى بيوتهم وألا يلجوا أدراج الوزارات التي عينوا على رأسها، وألاّ يمارسوا مسؤولياتهم لأن البرلمان مازال لم يمنحهم الثقة، وبالتالي أن يتركوا أعضاء الحكومة المنتهية ولايتها يستمرون في مباشرة مهامهم إلى ذلك الحين!!! والملاحظ هنا أن المنتقدين لم يوضحوا منحاهم المنطقي بتقديم الجواب على السؤال المحوري التالي: إذا كان يمنع على الوزراء الجدد أن يمارسوا سلطتهم، فمن الذي سيهيئ البرنامج الحكومي ليعرض على أنظار البرلمان. حسب منطقهم، الجواب هو: لا أحد، لأن الحكومة الجديدة لا يمكن تسليمها السلط، والحكومة القديمة انتهت مهمتها، بتعبير آخر يقولون لنا، على المغرب أن يبقى دون حكومة، ولا أحد مخوّل له تحضير البرنامج الحكومي!!!. مقاربة دستورية مهزوزة ها نحن إذاً نلج مدارج العبث المطلق، باسم مقاربات دستورية مهزوزة. الواقع أن عمليات تسليم السلط تظل مطابقة على طول الخط للدستور، منطقاً ونصّاً وروحاً. ذلك أن الفصل 47، من خلال التنصيب الملكي يمنح الوزراء شرعية واضحة (في انتظار استكمال التنصيب برلمانياً)، ثم إن الفصل 88 الذي يستظلون بظله، هو نفسه يدحض موقفهم، لأنه يسير في العمق في اتجاه التنصيب المزدوج للحكومة، من طرف الملك وهو سلطة التعيين، والبرلمان، وهو سلطة استكمال التنصيب، بحيث أن القفز على إحدى هاتين المحطتين يبطل العملية من الأصل. وهذا هو كنه النظام الدستوري المغربي، في أبعاده الديمقراطية الجديدة التي جاء بها دستور 2011. من باب التبعية، فإن الحكومة تباشر كامل اختصاصاتها في أفق تحضير أساس التنصيب البرلماني، أي في أفق تحضير البرنامج الحكومي (ما عدا الالتزامات الإستراتيجية الكبرى التي لن يتأتى لها الخوض فيها إلاّ بعد اعتمادها من طرف مجلس النواب). 3 - كان هناك دفع ثالث لا يقل سطحية من السابق، وهو القائل إن اجتماع مجلس الحكومة يوم الخميس الماضي، هو في حد ذاته خرق للدستور لنفس السبب الذي عالجناه في الفقرة السابقة، أي، بعلة وروده قبل التنصيب البرلماني. إن أصحاب هذا الرأي لم يقولوا لنا، إذا كان محرماً على أعضاء الحكومة أن يجتمعوا، فمن الذي سينجز برنامج الحكومة، وما هي صفة السيد عبد الإله بنكيران لمخاطبة غرفتي البرلمان، إذا لم تكن مدعمة باجتماع دستوري لمؤسسة مجلس الحكومة؟ 4 - اعتراض رابع تم الترويج له بقوة، في الأيام الماضية، وهو القائل أن إحالة مشروع البرنامج الحكومي على أنظار المجلس الوزاري برئاسة الملك، هي إجراء خارق للدستور، باعتبار أن الفصل 49 لا ينص على ذلك! لا شك أن الخطأ المنهجي الذي سقط فيه بعض المحللين الراغبين في تغذية أطروحات المعارضة، هو عدم القيام بقراءة مندمجة للفصلين 88 و49. فالفصل 49 يعالج موضوع القضايا المحالة على أنظار المجلس الوزاري، بينما الفصل 88 يعالج مسألة التصريح الحكومي المتضمن للبرنامج. فإذا كان الفصل 88 لا يصرّح تحديداً بوجوب عرض البرنامج الحكومي على المجلس الوزاري، فإن الفصل 49 يفرض صراحة إحالة «التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة» على المجلس الوزاري. فهل يا ترى من عاقل يقول إن برنامج حكومة جديدة، حاملة لمشروع حكامة جديدة، حكومة سيرهن برنامجها مستقبل البلاد للخمس سنوات القادمة، هل يقول لنا هذا العاقل إن ذلك لا يدخل ضمن خانة «التوجهات الإستراتيجية للدولة». رجاءاً أيها المنتقدون، أفتونا في معنى التوجهات الإستراتيجية! بسبب كل ما سبق تبيانه، يبدو لنا أن كل المتدخلين في النقاش السياسي والدستوري، الجاري، مطالبون بإعمال أقصى حد من الموضوعية والوجاهة، عسانا نساهم جميعاً، أغلبية ومعارضة، في إرساء قواعد جدل سياسي رفيع المستوى، يسمو بالممارسة المؤسساتية الوطنية إلى أعلى مراتبها التي ستسمح للمغرب بإنجاز المشروع الكبير الذي اتفقت عليه الأغلبية والمعارضة، مشروع التنزيل الديمقراطي النزيه والطموح للدستور الجديد، الذي لن يستقيم شأنه إلاّ عبر بوابة النقاش الصريح الذي يتغذّى بالنية الحسنة التي تظل على كل حال قيمة سياسية لا غنى عنها.