عندما يزدحم رأسي بالهواجس، عندما تحاصِرُني الأفكار كأنني لِصة أو مُختلة أحاوِلُ استِعمارَ نفسي وجَسَدي، عندما أتَعاطى الحُزنَ كمُدمنٍة مَحرومة، أوقِفُ الزَمَنَ وأنزِعُ عني ذلك الرأسَ كأنهُ قَميصٌ مُتَّسِخ، أرتَدي عَقلًا جديدًا في كل مَرّة وآذَنُ للحَياةِ أن تَلِدَني من جَديد. فأنا الابنة المُتَجًدِّدة دَومًا، الابنة التي تَلَقّى أكبرَ قَدرٍ منَ الصَفَعاتِ التي أطاحَت عَزيمَتها مِرارًا، الابنة التي أسقطَت نفسها مَرّاتٍ على قارِعةِ الطَريق. أنا تلك التي تَبَرَّأ منها انعِكاسُ صورَتها وبصَقَت المرآةُ على سحنَتها، تلك التي جلسَت تراقِبُ القِطاراتِ دونَ أن تركَب، لكنها كل يَومٍ تتَخَطّى، وفي يَومٍ ما… في يَومٍ ما قَرَّرت أن تستَنشِقَ آخرَ ذَرّاتِ الأمَل وتصنعَ حياتها الجَديدة، ولكن هذه المَرّة، قرَّرت أن تكتبَ القصّةَ بنفسها. إلى المدن الخالدة. إلى شوارِعها المُنظمَة إلا مِنْ تنظِيم صفوف الغربَة فِينا إلى الحزن المتكوّن للمرّة الأولى أمامي حقيقة تَرصُدها عينَياي كما المرّة الأولَى التي يأخذُني فيها عَنْ الواقع .. إلى المدفئَة التي غمرَت كلّ شَيء حولي بِاعتدالْ وَعجزَت عَنْ موازنَة درجات الحَنينْ الملتهبَة في رسائلي.. في حشرجَة صَوتي وفِي أوراق التقويم التي أرمقها بعين الرجاء أن تسبق ولو بخطوَة واحدة مَشيَ السلحفاة إلي.. مِنْ كلّ الأشياء التي تجمّدتْ بعدي.. ومنّي.. أفتقدني والله ويفتقدني كلّ شَيءْ الشوارع.. الحَيْ.. وَمنزلنا الذي انخطَف مِنْه ضجيج.. (مُزاحي) الذي يأتي في غير توقيته وغضبِي اشتقت إلى عراكاتي ونفسي .. إلى الخِصامْ.. ومبادرتي وذاتي إلى الصُلحْ والذي غالباً ما يأتي في توقيتْ واحد إلى بسمَة أمّي ابتسامتُها النابعَة مِنْ العُمق غير تلكَ التي تظهر بها أمامنا بِصمود مُتصنّع إلى صَوت أبي الآمِنْ وعينَيهِ الصافيَة مِنْ نظرات القَلق حينَ يُذكَر اسمي إلى إزدحامُ اجتماعاتنا بِي ومعي.. وإلي. ففي ظِلِّ الحزنِ تموتُ رباطةُ الجأش وتنتَحِرُ الواقِعيةُ شَنقًا بحَبلِ الشُعور. في بُقعةِ الحُزنِ يَذوبُ العقل، ويصبِحُ الإنسانُ بنصفِ عقلٍ تقريبًا. نحن شعبٌ يحزَنُ بكل قوَّته، يبكي فتَعصِرُ العيونُ نفسَها حتى القطرةِ الأخيرة. نحن نحزَنُ بأقصى طاقتِنا، فنُتَّهَمُ بالضَعف. انتظر على مهل وأنا محملة باللهفَة على أجنحةَ فجرٍ، عينَاي نوافِذ تطل على بحرِ أمنيات، أصبح معها قلبي كالسماءِ، تسبح فيها أسراب ضَوءٍ يُهدهد الشروق، كي يغير مجرى انتِظاري. وجدت ضحكتي تتطاير على وقع صداها الفراشاتِ. أركض في أرض الشوق. الذي تَغُوصُ في رملِه أصابعي، كي تنبش الماضي، حين يضرب الحاضر، ويهذي معه حيز الذكريات. تأتي كالعاصفة تأخذ فؤادي، لأيام البراءة كي أمرح في أروقة الخَيال. تَتَخَللني نسمةٌ هاربةٌ، من ربيعٍ رأيت فيه قلبي الجريح يزف البهجة، ويَعود مع الأماني من جديد، كي ينتشر النور في ظلام ليلي. فيزايدني على حُلمٍ دفن في قبر حنيني، حين صارَ شَوقي مِداداً. يصف نبضي بشعرٍ يشهد كل حين على احتضاري. حين تتساقطُ حروفي، عاريةً تراقص عزائي، في مهب الريح، حينها لا ينتمي الحب لخارطة ولهي. وحدها حكايتي تقف خلفَ ألسنٍ خرساء صماء، تنعي الصراخ في صَدري. المسافات بيننا طويتها. و أنا أعرج لسدرة روحي. فغدوت في سمائي بلا جناح. كنت أحتاج الهروب مني إلي. مع أهداب ليلٍ، لأرتل رسائل الشوق. ومع زفرةٍ كالجمر، أعيش في بريق وهجها ليحترق النسيان من لهيبها. تبا لكل هذا، أسيرُ وفي أعماقي صَرحةٌ شَرِسةٌ على وَشكِ الانتِفاض! أوَدُّ أن أصرخَ في وَجهِ الأرضِ التي ما تَزالُ تَبصُقُ المَزيدَ من الأحجار، بل إنها تَتَقَيَّءُ البشَرَ المُتَحَجِّرينَ في مِغسَلةِ أقداري بعد أن شَرِبَت زُجاجةً كامِلةً من التَصَنُّع. كل أبناءِ تلك الأرضِ يرتَدونَ الصُخورَ بدلَ وُجوههِم، في حَفلةٍ تنَكُّريةٍ تُحييها الأصولُ المُجتَمعية. أسيرُ في الشارِع، في تلك الحانةِ حيثُ تَنهَلُ التَقاليدُ حَقيقةَ المارّة، وهالةُ المَمنوعاتِ تَتَحَلَّقُ حَولي. وفي الشارِعِ آلافُ الكاميراتِ الخَفيةِ التي تَتَفَحَّصُ كلَّ سُلوكٍ صادِرٍ لتَتأكَّدَ من أنهُ خالٍ منَ العَيب، الجَميعُ هنا يَسيرُ بنَفسٍ مُهَذَّبةٍ ومُمَشَّطةٍ بإفراط. وأنا… ما زلتُ أبحثُ عن تلك الطِفلةِ التائِهةِ في دَهاليزِ النُضوج. وفي حاجَة ماسَة إلى شَحن مَقدرتِي على فِراقي الطَويلْ وإلى أن.. إلى أنْ أعُود سلاما علي…