لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل. فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً. فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا. هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع. قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه. نصف البرتقالة عاش البشر مشوّهين وهم أنصاف، فحاولوا من دون جدوى أن يجدوا أنصافهم الأخرى ليتحدوا معها، فيتبادلوا القبل والأحضان كم أن التاريخ غريب ونافذ الرؤية في آن واحدا وكم من منحنيات كبرى تعرض لها. يرى أرستوفان أن الإنسان في الأصل كان فلكاً، وكان يتجلّى في ثلاثة تمثلات هي: ذكر وأنثى وخنثى. ويشتمل الأخير على اثنين آخرين. إذ يمتلك أربع أيد، وأربعة سيقان، ووجهين، ورأسا واحدا، وعضوي تناسل وكي يتوالدوا، اتحدوا على الأرض كما فعلت البطاريق. وحين يركضون كانوا يبدون ككرات تتدحرج على الأرض. وهكذا انتظموا في فريق وامتلكوا قوة رهيبة أصابتهم بالغرور، ودفعتهم لتسلق السماء ومحاربة الآلهة، التي وجدت نفسها في حيرة حقيقية فإما أن تقتل البشر وتفقد القرابين التي يقدمونها لها، وإما أن تتسامح مع هذه الفظاظة وهو أمر غير مقبول. حينئذ قسمهم زيوس إلى قسمين «كما تقسم الشعرة البيضة». أخذ أبولو يدير الوجوه ونصف الرقبة ناحية القطع، حتى يظل الإنسان، في حياة الخلود، محتفظاً بذكرى عقابه أمام عينيه ويصير أكثر خزياً. ثم يجمع الرب الشافي الجلد المعلق على البطن بأكمله، ويثبته بقوة «كما نثبت أكياس جمع الثمار في الحبل الذي يحملها» ولا يترك غير فتحة صغيرة نطلق عليها اليوم تسمية السرّة. عاش البشر مشوّهين وهم أنصاف، فحاولوا من دون جدوى أن يجدوا أنصافهم الأخرى ليتحدوا معها، فيتبادلوا القبل والأحضان. ولد إيروس من هذا الافتقاد الذي جعلهم يحنون إلى من فقدوهم. كما تولدت من الشعور ذاته بحور الشعر والأدب الوفيرة التي ظهرت منذ القدم: فالإنسان في الأصل كيان ناقص، وعليه أن ينطلق بحثاً عن «نصف البرتقالة» عله يجد السلامة. ولكن مع هذا الموقف البائس، وفي خضم بحثه عن اكتمال كيانه، يرفض أن يظلّ نصفاً دون الآخر. فالأنصاف ترضى بالموت جوعاً. وحين يموت نصف فإن النصف الآخر الذي كان يحييه يبحث عن نصف آخر جديد ليعانقه. ثم يخبو الجنس البشري شيئاً فشيئاً. أما زيوس فقد أخذته الشفقة بهم، وخشي أن يفقد عشّاقه، فبدل لهم أعضاءهم الجنسيّة من الخلف إلى الأمام. فأصبحت المتعة الجنسية لا تساعدهم على الإنجاب حين يكتمل الاتحاد بين الذكر والأنثى فحسب، بل تمنحهم وسيلة مداواة ألمهم، وتواسيهم في فقدهم المريع أيضاً. وتصير النشوة هي نسيان الذات الزائلة لصالح ذكرى النقصان الدائمة التي تجتاحهم. إنها برهة من الراحة الشاطحة والنابضة. ومع كون العناق متعذراً لغياب المعشوق جسداً، فسيحتل أفكارنا، بدافع من الضرورة ذاتها، وننشغل به وكما كتب رولاند بارت في « شذرات من خطابات عاطفية» فإن العاشق الذي ينسى– أحياناً- يموت بسبب الجموح الفكري، والتعب، وعبء الذكرى. حتى وإن ظلت بعض لحظات «عدم الوفاء» الذهني ممكنة، فسريعاً ما نفيق من النسيان ويصدر صوت واحد عن الجسد، يعبر عن كل مشاعر الغياب إنها التنهيدات ويكمل بارت قائلاً: «إن نصفي الخنثى يتنهدان النصف تلو الآخر، وكأن كل تنهيدة، ناقصة، ترغب في الذوبان في الأخرى إنه العناق الذي طالما امتزجت من خلاله الصورتان لتصبح صورة واحدة . ويمثل المرء، من خلال هذا الغياب العاطفي، صورة مجتزأة جافة ذابلة منكمشة على نفسها. كنصف فلك لن يكتمل بالاستدارة أبداً. ومع الاعتقاد في نظرية أرستوفان، الذي لا يبدو مجنوناً بدليل أن غالبية البشر يحملون بداخلهم هذا الاعتقاد اللاشعوري منذ تلك الدراما الأولية، فسوف نحيا مدفوعين نحو البحث عن «توأم الروح»، إذ يعيد لقاؤه طبيعتنا الأولى، ويؤكد على سعادتنا. إننا محكوم علينا بالحب. ويقول أفلاطون ساخراً: «ها هم أناس يقضون حياتهم معاً من دون أن يستطيعوا البوح بما ينتظره كلُّ واحد من الآخر!». بعد عدة قرون، صارت تلك الملحمة التأسيسية بمثابة الأثر لأندريه بروتون في كتابه «الحب المجنون» من خلال صورة «حذاء سندريلا»، الذي يمثل في الفولكلور الغربي هذا الكيان الفريد المجهول، الذي ينتظرنا في مكان ما. ويؤكد الكاتب، أن كلاً منا يعرف أن الحب يرتكز على الفكرة القائلة بأن هناك شخصاً واحداً هو من يتعلّق بنا. ولكن لأن «الظروف الاجتماعية للحياة» تبدو كأنها العدالة الوحيدة الممكنة، فإن غالبية البشر تيأس، تماماً، من الحب. «فهم يتعثرون في ذكريات مخادعة، يذهبون معها كي يدعموا أصل سقوطهم الأزلي، ولكي لا يشعرون بالذنب. ومع هذا، فبالنسبة لكل شخص فإن الوعد بما هو آت يتضمن سر الحياة، ويتجلى، يوماً ما، وفقاً للأقدار، في كيان آخر، كيان متفرد تماماً في عيون بروتون، ويتجلّى ببهاء ليثبت أن الحب حقيقي وخالد.