برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة ابن زهر بأكَادير ألقى الباحث المغربي عبد الله ساعف درسا افتتاحيا برسم الموسم 2012/2011 في موضوع: «عناصر الجيوستراتيجية الجهوية»، وذلك مساء يوم الجمعة 28 أكتوبر. في بداية المحاضرة، التي شهدها جمهور غفير من الطلبة والباحثين والصحفيات والصحفيين ورئيس الجامعة وعمداء الكليات ومهتمين بالشأن الثقافي والسياسي، تناول الأستاذ ساعف بالوصف والتحليل الظاهرة التنازعية التي تطبع جنوب البحر المتوسط، بتجلياتها المختلفة ثقافيا واقتصاديا واستراتيجيا، محاوِلا الإجابة عن سؤال إشكالي: هل هناك عقلانية في النزاع؟ وللإجابة عن السؤال، شرَّح مظاهر النزاع في التوتر والمواجهة المسلحة وغير المسلحة والمقاومة السلمية وغيرها، معتبرا النزاع -أولا وقبل كل شيء- تفاوضا بين فاعلين أفرادا وجماعات، دولا ومجتمعات، حول أفكار وقيم ومصالح... بعد ذلك، توقف المحاضر عند منظومة إشكالية النزاع، مبينا أن هذا المجال تتعدد التخصصات في مقاربته؛ فهو مجال لتدخل السياسة والعلاقات الدولية وسوسيولوجية الفاعلين والاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية التي تهتم بالهوية والدين، وتاريخ العلاقات، والتاريخ المعاصر بما فيه التاريخ المباشر. ولدراسة قابلية قراءة النزاعات في هذه الخريطة المعقدة، تم التوقف عند السؤال الجوهري المطروح في البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة: إلى أي مدى يمكن القول إن إدارة النزاعات عقلانية أو تعرقل مسألة التنمية أو تعمق مسألة الاستنزاف وتشتيت الجهود؟ تكشف النزاعات وقائع كثيرة جدا عن دول المنطقة: نزاع، حرب، عنف الآخر. وكل هذه المفاهيم بدرجاتها المتفاوتة تنم عن معرفة عميقة بما يحدث في هذه المجتمعات، كما تسمح بمراقبة التحولات في المنطقة، وكذا برؤية شمولية لمكونات وواقع المنطقة. وبالتالي، تسمح بتركيب نظري يمكِّن من مواكبة الوقائع ومراقبتها في منطقة لا يُفترض فيها التجانس؛ فهناك وقائع لها منطقها الخاص بكل بلد من البلدان، الذي له هويته الثقافية واللغوية. والملاحظ أن هناك اهتزازات وتفاعلات وتداعيات يمكن أن تُقرأَ في حد ذاتها. لقد وقف تقرير 2002 حول المنطقة - بدقّة - عند النزاعات، وهي حلقة قوية في ما يقع. والأمر نفسه يقال عن التقرير حول المرأة، وتقرير 2003 في موضوع المعرفة، وفيهما تظهر أيضا مسألة النزاعات: (الفلسطينية، السودانية...). وكل هذه التقارير تبين راهنية هذه الزاوية التي اختارها د. عبد الله ساعف لدراسة جانب أساس من واقع مجتمعات الجنوب. عرفت المنطقة أجيالا من النزاعات، وهي تتعامل معها وكأنها لم تتغير منذ الحرب العالمية. فاستمرت مسألة الأمن القومي ومسألة المقاومة؛ وهذا النوع من الحرب فيه أطروحات متعارضة: (المقاومة الإسلامية، الحركة السياسية السلمية، الانتفاضة، نموذج المقاومة اللبنانية، نماذج حرب المدن من تجربة جينين إلى الفلّوجة...). بعدها تناول المحاضر جانبا جديدا من المنظومة الجديدة للنزاعات. وتلك هي النزاعات الحديثة الممتدة بلا فاصل بين فاعل داخلي وفاعل خارجي، وهي نزاعات اجتماعية تحاول الإجابة عن مدى قدرة الدول للاستجابة للحاجات الأساسية للأفراد. لقد أصبحت الأمور تختلط، وبدأنا نشعر جميعا بضرورة إعادة ترتيب الوقائع. ولقراءة خريطة النزاعات المحيطة بنا، علينا أن نتساءل: ما هي النزاعات التي تداهمنا في كل وقت وتخلق اضطرابا في علاقاتنا الثقافية والاقتصادية والسياسية...؟ فمن جهة هناك نزاعات مركزية حادة وممتدة، لها تأثير على المنطقة بكاملها، ويديرها عدد كبير من الأطراف؛ ومن جهة أخرى هناك نزاعات مهمَّشة لا تُخَصُّ باهتمام الفاعلين، وتُدار من طرف عدد محدود من الدول، لكنها غير هامشية بحكم تأثيرها على المجال الجهوي على المدى الطويل؛ وأخيرا هناك التكاليف والتداعيات الإقليمية والدولية للنزاع: (ومثال ذلك النزاع اللبناني - اللبناني، والنزاع العراقي، والعنف السياسي في الخليج العربي...). وما يميز الصراع في شمال إفريقيا، هو فشل نموذج الدولة الريعية والإصلاحات المختلفة وأزمة المشروعية وتفاقم المشاكل الاجتماعية. وعموما، ميز الباحث وهو يقوم بترتيب النزاعات بين النزاعات التي تُدار بالمواجهة: شمال اليمن وجنوبه، والنزاعات التي تُدار بالحياد كموقف دول الخليج تجاه اليمن، والنزاعات التي تُدار بالتجاهل كالصومال نظرا لضعف التفاعلات، والنزاعات الجيوسياسية كالنزاع حول الماء في الأردن، ونزاعات الزعامة بمعايير أصبحت الآن قديمة ومتجاوزة: العراق سوريا، الجزائر المغرب، السعودية إيران...)، والنزاعات حول الحدود. ولا شك أن لهذه النزاعات جميعها تكلفة جيو سياسية وحيوية واقتصادية أفرزت عسْكرة المجتمعات.