نجاح الحوار الاجتماعي، وخاصة في الظرفية الراهنة، ضرورة ملحة لا بديل عنها، لما يقوم به من دور في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو مقياس لنجاح الحكومة أو فشلها، ولا يمكن الحديث عن الدولة الاجتماعية دون ذلك، وسأتناول هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور وفق ما يلي : 1- تقييم المرحلة الممتدة من 1996 إلى 2011 2- تقييم المرحلة من 2012 إلى 2021 3- المرحلة من 2022 إلى 2026 المحور الأول: تقييم المرحلة الممتدة من 1996 إلى 2011 بعد نضالات ومجهودات كبيرة ظلت تقوم بها الحركة النقابية منذ نشأتها في مرحلة الاستعمار الفرنسي بدعم من القوى الوطنية والديمقراطية، عرفت فترة 15 سنة الممتدة من 1996 إلى 2011 تطورا كبيرا في مجال الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية، حيث تم إبرام أربعة اتفاقات منها التصريح المشترك لفاتح غشت 1996، واتفاق 19 محرم 1421 (23 أبريل 2000)، والاتفاق الاجتماعي 30 أبريل 2003، واتفاق 26 أبريل 2011؛ وكانت كل محطة من هذه المحطات تختلف عن سابقتها سواء في سياقها أو في طبيعة المطالب المطروحة أو في تركيبة الهيئات التي تعاقبت على المسؤولية، وقد تميزت بتعاون كبير بين الحكومة والاتحاد العام لمقاولات المغرب والمركزيات النقابية، رغم حدة النقاش واختلاف وجهات النظر في العديد من القضايا التي كانت مطروحة على مائدة الحوار، إلا أن الجميع كان مقتنعا بأن الحوار هو أنجع وسيلة لإيجاد الحلول لمختلف القضايا وفق ما يخدم مصلحة المقاولة، والاقتصاد الوطني، وحقوق الأجراء، وتوفير الاستقرار، حيث كان كل طرف لا يكتفي فقط بالدفاع عن الجهة التي يمثلها، بل كان بالأساس يعمل من أجل إيجاد الحلول للقضايا المطروحة والتي تطلبت 71 ساعة من النقاش خلال الفترة من 3 يونيو إلى فاتح غشت بالنسبة للتصريح المشترك، وبالنسبة لاتفاق 23 أبريل 2000 استغرقت جلسات الحوار أيام الجمعة والسبت والأحد 21 – 22 – 23 أبريل متواصلة، وبالنسبة لاتفاق 30 أبريل 2003 استغرقت جلسات الحوار شهرا كاملا ابتداء من فاتح أبريل من خلال خمس لجان موضوعاتية، ونفس الشيء بالنسبة لاتفاق 26 أبريل 2011 الذي استغرق هو الآخر جلسات طويلة من النقاش، وقد نتج عن هذه الاتفاقات الأربعة التوصل إلى نتائج ذات أهمية كبيرة ومنها : * مأسسة الحوار الاجتماعي بعقد دورتين في السنة بشهر أبريل وشهر شتنبر، مع وضع جدول أعمال قبل بداية كل جولة بشكل متوافق عليه، واعتماد الحوار القطاعي على مستوى الوزارات والقطاع العام والمؤسسات العمومية والقطاعات المهنية للقطاع الخاص، وعلى مستوى الجهات والأقاليم، وعلى مستوى المقاولة وتقوية دور الاتفاقيات الجماعية ووضع آلية لمعالجة نزاعات الشغل الجماعية وإحداث وتقوية الهيئات الاستشارية للحوار الاجتماعي، وإحداث لجنة ثلاثية للسهر على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه. * التزام الحكومة بالعمل على فرض احترام الحريات النقابية. * الزيادة في الأجور والتي تضمنتها جميع الاتفاقات الأربعة. * دعم التشغيل ومحاربة البطالة * التوافق على مدونة الشغل * تخفيض ساعات العمل من 48 ساعة إلى 44 ساعة في الأسبوع مع تقاضي نفس الأجر. * توفير التكوين المهني والتكوين المستمر. * تعميم وتقوية دور الحماية الاجتماعية على الأجراء * تقوية دور الحماية الاجتماعية بالقطاعات الوزارية والمؤسسات العمومية * إصلاح ودمقرطة المؤسسات الاجتماعية * إصلاح صناديق التقاعد * إحداث قانون التعويض عن فقدان الشغل كخطوة أولى في أفق تطويره نحو الأفضل، غير أن تنزيله على أرض الواقع عرف تراجعا عما كان يجب أن يكون عليه. * تقوية الجهود لإيجاد الحلول لنزاعات الشغل والوقاية من حدوثها * تسريع وتيرة إصدار وتنفيذ أحكام قضائية صادرة في حق العمال * دعم جهاز تفتيش الشغل قصد توفير الإمكانيات والوسائل التي تجعله قادرا على القيام بمهامه على الوجه المطلوب. * القيام بالتدابير والإجراءات لترقية وترسيم الموظفين المستحقين * إيقاف التوظيف في السلالم من 1 إلى 4 * التزام الحكومة بدعم النقابات على أساس التمثيلية وفق مقتضيات التشريعات الوطنية والدولية * تمكين النقابات والمشغلين من استعمال الإعلام السمعي والبصري العمومي. * توفير السكن الاجتماعي للأجراء بمساهمة الدولة والمشغلين * المصادقة على العديد من الاتفاقيات الدولية * ملائمة التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية وغيرها. كما أن هذه الاتفاقات ساهمت في إحداث وتطوير العديد من القوانين في مجال تنظيم علاقات الشغل والحماية الاجتماعية. وأثناء مناقشة وضع دستور فاتح يوليوز 2011 تمت الاستفادة من هذه التراكمات التي تضمنتها الاتفاقات الأربعة حيث تمت ترجمتها في فصول الدستور مما أعطاه قوة كبيرة سواء في الجوانب المتعلقة بالحريات النقابية أو بالحق في الشغل أو الحقوق القانونية والحماية الصحية والاجتماعية. وأكتفي بما أشرت إليه من هذه الإنجازات والتي تتطلب القيام بدراسة شاملة حول ما تضمنته هذه الاتفاقات لما لها من أهمية في تقوية العلاقات المهنية والاقتصادية والاجتماعية. ومن حق الفرقاء الاجتماعيين أن يفتخروا بهذه الإنجازات الكبيرة والتي تحققت بفضل المجهودات التي تم بذلها من طرف الجميع، حيث كان الهدف هو الوصول إلى حلول متوافق عليها، ويمكن للمغرب أن يفتخر بما يتوفر عليه من رصيد كبير في مجال الحوار الاجتماعي والتشريع الاجتماعي المحور الثاني: تقييم المرحلة من 2012 إلى 2021 ومن أجل تقوية دور الحوار الاجتماعي عرفت الفترة الممتدة من 2012 إلى 2021 عدة خطوات وتنقسم إلى مرحلتين: الفترة الأولى من بداية 2012 إلى 2017 إبان حكومة عبد الإله بنكيران، حيث تم القيام بمجهودات كبيرة من طرف المركزيات النقابية: الاتحاد المغربي للشغل، والكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والفيدرالية الديمقراطية للشغل ثم الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، تمثلت في التنسيق الذي قطع أشواطا مهمة من أجل تقوية العمل الوحدوي ومن أجل إيجاد الحلول للقضايا المطروحة، غير أنه لم يتم تحقيق مطالب الطبقة العاملة، ويعود سبب ذلك إلى المنهجية التي تم اتباعها من طرف الحكومة، وكان من مصلحتها إنجاح الحوار خلافا لما حصل. ثم الفترة الثانية: مرحلة سعد الدين العثماني (حكومة الكفاءات) من 2017 إلى 2021 حيث تم إبرام اتفاق 25 أبريل 2019 غير أنه لم يتم تفعيل ما تم الاتفاق عليه مثلما حصل بالنسبة للجان الموضوعاتية، كما عرفت هذه الفترة لقاءات مكثفة من أجل إصلاح نظام الوظيفة العمومية، غير أن هذه اللقاءات لم تنته إلى نتائج. ولا داعي للوقوف طويلا عند هذه المرحلة لأنها لم تأت بجديد، ولكون الوضع ظل على ما كان عليه. المحور الثالث: الآفاق (2022 – 2026) ومع مجيء الحكومة الحالية سارعت إلى إبرام اتفاق وميثاق 30 أبريل 2022 إلا أنها لحد الآن لم تقم بما يتعين عليها القيام به من أجل الترجمة الفعلية لما تضمنه الميثاق الوطني لمأسسة الحوار الاجتماعي بما في ذلك القضايا التي لا تتطلب تكاليف مالية، ومنها عدم إحداث المرصد الوطني للحوار الاجتماعي مما أدى إلى عدم إصدار التقرير السنوي حول المناخ الاجتماعي في شهر مارس، وعدم إحداث أكاديمية التكوين في مجال الشغل والتشغيل والمناخ الاجتماعي، وعدم تفعيل اللجان الموضوعاتية، وعدم تفعيل الحوار بجل القطاعات الوزارية وبالجهات والأقاليم وغيرها، وقصد تجاوز هذه الوضعية يتطلب الأمر وضع برنامج لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه من خلال القيام بالخطوات التالية : 1- تفعيل الحوار الاجتماعي وفق منظور شمولي كما يلي : عقد اجتماعات اللجنة العليا للحوار الاجتماعي بجميع أعضائها والمتكونة من رئيس الحكومة والأمناء العامين للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية ورئيس الاتحاد العام لمقاولات المغرب، وأن تتم الاجتماعات الثلاثية الأطراف بجميع مكوناتها بحضور رئيس الحكومة والوزراء ذوي العلاقة والمكاتب التنفيذية للمركزيات النقابية وقيادة الاتحاد العام لمقاولات المغرب وتفعيل اللجان الموضوعاتية، وتفعيل الحوار على مستوى القطاعات الوزارية بالقطاع العام وعلى مستوى الجهات والأقاليم والقطاعات المهنية للقطاع الخاص، وتقوية دور الاتفاقيات الجماعية، وتفعيل آليات معالجة نزاعات الشغل الجماعية إذ لا يمكن خلق الثقة المتبادلة إذا لم يكن الحوار المباشر، على أن يتم إصدار بلاغ حول النتائج المتوصل إليها عند نهاية كل جولة. 2- الملاءمة بين الأجور والأسعار من خلال : * مراجعة الضريبة على الدخل والتي لا زالت غير متوازنة رغم التعديل الذي أدخل عليها في السنة الماضية. * الزيادة في الأجور في القطاع العام والخاص. * تطبيق الحد الأدنى القانوني للأجر على جميع أجراء القطاع العام غير الخاضعين لنظام الوظيفة العمومية، وبالأخص منهم عمال وعاملات الإنعاش الوطني والتعاون الوطني والعرضيين والذين يشكلون نسبة كبيرة من العاملين بالولايات والعمالات والجماعات الترابية مع تسوية وضعيتهم القانونية تطبيقا لما تنص عليه المادة 3 من مدونة الشغل وهو ما يؤدي إلى وضع حد للموظفين الأشباح. * وعند الزيادة في الأجر الأدنى يجب أن تشمل العمال الذين يتقاضون أكثر من الحد الأدنى مع الأخذ بعين الاعتبار الكفاءات التي يتوفرون عليها علما أن القطاع الخاص أصبح يشغل نسبة كبيرة من حملة الشهادات خريجي الجامعات والمعاهد، كما أن هناك نسبة كبيرة من العمال لا يطبق في حقهم الحد الأدنى في غياب بيانات الأجر، وهو ما يمس بحقوقهم وبحقوق المقاولات التي تطبق القانون. * وضع برنامج لمراقبة الأسعار 3- تعميم وتقوية الحماية الاجتماعية من خلال : * تعميم التصريحات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع إزالة العيوب التي تعرفها حيث أصبحت نسبة التصريحات غير السليمة تمثل الثلثين، كما أن هناك نسبة كبيرة من الأجراء غير مصرح بهم أو مصرح بهم ضمن فئة المهنيين غير الأجراء. * التوافق على إصلاح صناديق التقاعد. * مواصلة الخطوات لإصلاح مؤسسات الحماية الاجتماعية. 4- إحداث لجان موضوعاتية ثلاثية الأطراف فيما يخص القضايا التالية : * مراجعة نظام الوظيفة العمومية * إقرار قانون النقابات * مراجعة القوانين المنظمة لانتخابات الأجراء * تعديل مقتضيات مدونة الشغل مع مراعاة التطورات التي عرفتها الحياة المهنية والحقوق الاجتماعية والحفاظ على المكتسبات والإبقاء على شكلها فيما يتعلق بجمع القوانين المتكونة منها بما فيها المفاوضة الجماعية وقانون النقابات. * التوافق على قانون الإضراب :ويمكن الوصول إلى التوافق حول جميع هذه القضايا بشكل متوازن دون صعوبة باعتماد ما تحقق من تراكمات من خلال الممارسة على أرض الواقع، وما يتوفر عليه الفرقاء من تجربة وخبرة كبيرة في هذا المجال، علما أن إحداث القوانين وتطويرها يعني الجميع وليس طرفا دون آخر. 5- دعم المقاولة وتقوية الاقتصاد الوطني : وبالرجوع إلى ما أشرنا إليه في المحاور الثلاثة السابقة يتضح أنه يمكن للحكومة، من موقع مسؤوليتها عن تدبير الشأن العام، أن تستثمر ما تحقق من تراكمات في المراحل الماضية، وهو ما يتطابق مع ما جاء به الميثاق الاجتماعي، من خلال تفعيل الحوار الاجتماعي وفق منظور شمولي، وتلبية المطالب الممكنة مع مراعاة التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، وتعميم الحماية الاجتماعية، ووضع برنامج استكمالي للتشريع الاجتماعي، وبذلك يتم الرفع من المردودية، وتقوية العلاقات المهنية، ودعم المقاولة، وتقوية الاقتصاد الوطني، وتقوية الأوضاع الاجتماعية وهو ما يساعد على الوصول إلى تحقيق الدولة الاجتماعية.