في ذاك الزقاق الملهوف، دقت نسائم عتيقة على أجراس الليل كالعادة، وبكل وضوح معلنة فكرة التعري من المخاوف كلها، بعيدا عن عذرية الخجل اسكب اغوائي على بياض انتصار حافل بالتعثر، وكل القصائد يتيمة، نكاية في أصابع تكابد الارتباك، وبخطى ملوثة بالفتنة متوشحة بفن غابر يُمَارسُ خلسة في الحلم، كل المفاتيح باتت كفيفة. أكتب بانتفاضة ثائرة أتعبتها الخطوات، بموناليزا سماوية الإلهام والملامح تتعربد بألوان المتعة مكنونة في فكرة أعجوبة ولا بيت للقصيد يضم دمع عينينا. بأبجدية امرأة تحدثني يمامة ارتدت حروفا قصيرة وراقصت خصر العدم لتنال انصياع الكون وتهتك بنبوءات اللحن كتمام قلبي المعلق على ترانيم عشق قاتل وهمهمة صوت خافت أجد صعوبة في غربلته، ما بالها الساعات تتثاءب في ضيق هكذا كأن أرق السفر أعياها ! يبدو أنها تخطط لمؤامرة عظيمة! گأن توسمني بندوب جديدة ! كل أصابع الاتهام تختلط بمخاض اللحظة وترهن ابتسامتي الباردة على أنها ملحمة تضرم إثارة الموت، وتفتل بضمأ الخراب الذي أهلك أهل الأرض ! قبل أن ألتقي بك كنت معرضّة لحب هائل لا يسع الوهم، أستوعب خفة الأشياء التي تغادرني بسرعة مودِعة أحلامي في حيرة مؤجلة، ولا أبواب سمعت طرق كفينا، أستقبل الضربات المتوالية في غمرة انتظاري لتوهج يليق بصبري لم يعد هناك وقت متاح يمهلني المجازفة مرة أخرى ! فقد عُطبت كل أزرار الرغبة في المباغتة، في المحاولة في الاحتكاك بعقارب التجربة، كأن الأمر خرج عن السيطرة، وكل الحظوظ لم تعد على مقاس يقيني.. لطالما گنت امرأة جريئة تجلد الأشياء التي لا تهزها بالتخلي، أتفاقم داخل بيادق المراوغة، وأركض بين طيات الصمت حتى أصيبه بالذعر فيكشف عن هذيانه كما الآن .. تضوع روحي إلى الخروج من لعنات كبيرة، لا تسع امرأة مجنونة مثلي، إلى كتابة سعادات كثيرة مغلفة بالحب بالنكد والغيرة، إلى إحداث جرح عميق أمام رغبتي العارمة في طعنك بالكتابة يا هذا، فأنتَ الذي أخبرتني أنك تثق بي وبالنجوم فقط ! وهذه نشوة العمر المعتّق ترقد بين جفني السهر، بورطة الحلم تدفعني إلى مزارب الوجهات البعيدة، إلى لحظات الإدراك القصوى ونباهة الخطى، كستني بالصمت والنضج والجرأة، أرنو بولهِ المآقي العطشى إلى البللِ، أفيض من دير الرتابة وأكشف عن الحقائق كلها، أنبعث من ملامح الدهشة كالوحي، وأٌصيبها هي الأخرى! جالسة القرفصاء أدخن سيجارة التقطتها من جيب الأسى، وأتأمل جسد الكون العاري من الأيام المبهجة، وأسرح في لمس التفاصيل المخبوءة، وظل دالية الدار يغطي الحلم. تخبرني أن الفراشات استيقظت مبكراً لتعانق الأمل في رحلة ملكوتية في بٌعد آخر، أُخامر قسمات رجل بلا ملامح يلقي بكتفه على ظلي ويتعجب من قامتي الطويلة ! يخبىء وجهه بين راحة يديه ويسأل! أثمة مُسّكِن لهذا الارتباك فقلب هذا الفتى صار لهبا؟ جسده المهزول يتبدى كالغيم فوق الثرى. كيف لوجهها الوضيء أن يصبح بدرا؟ كيف لها أن تركض بخفة فراشة داخل مخيلتي، ومن شفتيها تزهر شقائق النعمان وحقول النرجس ! امرأة تثمر بورع داخل أوردتي، وتتكاثر كخلية النحل، تتطاير مع غبار الريح وبلا ضجيج تمدّني إلى العصر الفيكتوري، وتُجلسني على عرش الحب الخالص تغافلني بكيد نساء العالمين، وترفع حاجبيها لتقبلني بعينيها، تدهشني برقة صوتها حين تفتح كتابا، وتقرأ دورها داخل رواية كتبتها عنها قبل أن أعرفها. وهززنا أرجوحة الطفولة مرات ومرات.. وفي تؤدة تطبطب على هزيمتي النكراء أمام حٌسنها السمهري، وبعد رعشة عنيفة رافقها خمود الحواس، وكلالة الجسد، اختلطت المشاعر كلها.. رُحت أتأملها من جديد في مشهدٍ طاغي، عابرا لتفاصيل قدّها الميّاس وهي تجدل ضفائرها بسجية طفلة ينبت الكرز من وجنتيها، وجداول النيل تنحت فناً صامتا بين عينيها. يا لها من فسحة برزخية أموت فيها وأُبعث من جديد !! وفي غمرة هذا الانزواء اللامنتهي، أمد أصابعي الطويلة وأعبث بمواكب النجوم المولودة حديثا، مشكّلة مهدا من الحيرة والقلق والحضارة الآفلة، أقطف منها عبير النارنج الفوّاح من باحات السماء الوسيعة، وأستمتع بخلوة الشعور المتمدد على المحك، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة. وأن شجرة الليمون همست للعصافير، أن تنقر على خد النوافذ المنهكة.. تصقلني دياجير الليل قبل انطفاء الفوانيس، وتتسابق روحي إلى مواساة العتمة، لطالما كنت ملطخة بلون العزاء، أقيم مراسم دفن الأحلام، أربت على سُكرها الذائب وأواريه داخل نعش أفكار أضناها الجوى. لعلها من لدن الغياب تجلب ريحهم، لكنا قبلنا الذكريات ألف مرة…