علمتنا نظرية الأجناس الأدبية أن كل جنس أدبي يتميز وينماز بخصائص محددة، تميزه عن باقي الأجناس الأخرى، وبحكم تجربتي في الكتابة الأدبية، والتي انتقلت فيها ما بين عدة أجناس كالقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والرواية والمسرحية والشعر، أستطيع أن أزعم أن الرواية تمنح الكاتب مجالا أرحب لتصريف كثير من الأمور التي تشغله على مستوى تكنيك الكتابة ومضامينها، فللرواية رحب صدر يتسع ليشمل، من دون تذمر، جميع أنواع القول وفنونه، فبين دفتي الرواية يتجاور الحوار مع الوصف مع روح الشعر، التي إن افتقدتها الرواية أضحت جافة لا يتعاطى معها القارئ بكثير من الشغف، أتحدث هنا عن الشعر بمعناه العام، الذي يمكن أن نلمسه في كثير من الأعمال حتى تلك التي تبدو ظاهريا أبعد ما تكون عن الشعر، هذا لا يعني بالمرة أنني أنتصر إلى اللغة الشعرية في الكتابة الروائية، التي ميزت الكثير من كتاب الرواية خاصة في مرحلة ما من تاريخ الرواية العربية، والتي انزاحت بالرواية نحو التكثيف الشعري، فأصبح معها الحديث عن «الأجناس العبر نوعية» له ما يبرره، بل أميل إلى توظيف لغة سردية، محايدة قدر المستطاع، حتى لا تشغل القارئ عن باقي مكونات العمل الروائي، فلدي -فضلا عن إيماني بالحدود الفاصلة بين الأجناس- اقتناع تام بأن اللغة ليست في الأول والأخير سوى وسيلة، وعنصر ضمن عناصر أخرى، يتعين عدم إغفالها في الكتابة الروائية، لهذا أقبل بكثافة على قراءة الرواية العالمية المترجمة، التي ألمس فيها نضجا على مستوى التكنيك، مرفوقا بوعي جلي بالحدود الفاصلة بالأجناس، إذ أن هذه الرواية تعطي لكل عنصر حقه، فنجد أنفسنا أمام شخصيات وأمكنة وأزمنة واضحة المعالم، مؤطرة برؤيا الكاتب العميقة، إذ أن كل عنصر يؤدي وظيفته بشكل منفرد، وفي علاقته مع باقي العناصر، وهذا الكلام لا ينفي الإبداعية عن كثير من الروايات العربية، التي استوعب أصحابها بعمق مفهوم الرواية ووظيفتها الفنية والجمالية والاجتماعية، فلا غرابة إذن أن يتوج نجيب محفوظ مثلا بجائزة نوبل للآداب، كما أن رواياته تحقق أرقاما قياسية في المقروئية، في الوقت الذي يشتكي منه الجميع من أزمة القراءة ومحدوديتها، فروايات محفوظ كما يعلم الجميع تقدم الفن الروائي بأصوله العالمية. كما أعتبر أن الحكاية من أهم العناصر في الرواية، فهذا المعطى في البناء الروائي أعتبره أساسيا، ومتى تخلت الرواية عنه فقدت كنهها وماهيتها، وفقدت بالتالي جمهورها، الذي يبحث غالبا في الرواية التي يقرأها عن حكاية ما تظل عالقة بذهنه بعد الانتهاء من قراءة الرواية، قد تكون هذه الحكاية سلسة وتقليدية لها بداية ووسط وعقدة ونهاية، أو حكاية معقدة، ومتشظية في بعض الأحيان تعتمد على البياضات التي يملأها القارئ بتأويلاته، أو تخترقها الاسترجاعات «الفلاش باك»، لكن لا بد في رأيي من توفرها -أعني الحكاية-، ومن هذا المنطلق أحرص شديد الحرص على أن تتوفر روايتي على حكاية ما، لكن تقديمها للقارئ لا يعتمد على طريقة واحدة، فإيماني الراسخ بأن الأشكال أكثر عمقا من المضامين، يحفزني على أن أحاول أن أقدم الحكاية في الروايات التي أكتبها بتقنيات وأشكال متنوعة، حتى أتفادى التكرار والنمطية، كما أن تعدد هذه التقنيات تولد لدى القارئ جملة من التساؤلات والأحاسيس، وتدفعه بالتالي إلى المشاركة الفعالة في توليد الدلالات العميقة للمتن الروائي، والتي غالبا ما يطلق عليها «المعنى الثاني»، فلقد حاولت مثلا توظيف تقنيات التداعي الحر في رواية رجال وكلاب، التي كان توظيفها بنيويا ووظيفيا، بما يعني أن طبيعة النص الحكائي فرضت علي استعماله، إذ أن البطل مصاب بمرض الوسواس القهري، وبعد أن يحكي للقارئ إحدى حالته المرضية، يدعوه ليتقمص شخصية الطبيب النفسي، حتى يتسنى له تحليل الحالات المرضية للسارد، المرتبطة بأحداث يتوهمها ظانا أنها أحداث واقعية، فكان لزاما أن يحكي له حياته انطلاقا من أصوله الضاربة في عمق البادية، التي يمثلها في الرواية جده الذي كان فلاحا يعيش على خيرات الأرض، فأصيب بمرض نفسي عضال أدى إلى وفاته في ظروف محزنة، ومرورا بأبيه الذي انتقل إلى المدينة فطاردته لعنة المرض النفسي، ووصولا إلى الشخصية الرئيسية/السارد، الذي طوقته ظروف اجتماعية ونفسية، أدت به إلى أن يصبح ضحية المرض المذكور أعلاه، أما فيما يخص رواية، «عائشة القديسة» فحاولت أن أقدمها بشكل مختلف، جاعلا من أسطورة «عايشة قنديشة» عمادا لها والنواة الصلبة للحكاية التي تتضمنها، من خلال ربطها بالواقع المعاش، التي تضطرب في أتونها ااشخصيات، والمعلوم أن هذه الأسطورة تهيمن على عقول المغاربة، وخاصة أولئك الذين يقطنون على الساحل الأطلسي، إذ يغلب على جلهم الاعتقاد بوجود جنية، تتجول ليلا على ضفاف شواطئ الأطلسي، فتسلب الرجال عقولهم بجمالها وفتنتها، فيقعون ضحية لإغوائها، يتبعون خطواتها دون إرادة منهم، فتصيبهم بالأذى، وقد كان توظيف هذه الأسطورة محكوما ببعد تنويري، يتمثل في وضع المجتمع أمام مرآة ليرى نفسه، من خلال الكشف عن عقلية الإنسان المغربي خصوصا والعربي عموما، الذي يحيا ضمن ثنائية متناقضة، ففي الوقت الذي يدعي فيه الحداثة والعقلانية، نجده يلجأ إلى الخرافة لحل أول مشكل يواجهه في حياته. أما بخصوص روايتي «ليلة إفريقية» فلقد اعتمدت فيها على توظيف تقنية «الميتا سرد» بما يعني السرد الشارح، وقد تمثلته في المتن السردي بما يعني أن الرواية وهي تنكتب تفكر في ذاتها، من خلال إشراك القارئ في التفكير في التقنية التي سيعتمدها الروائي في كتابتها، وهذه التقنية تسعى -بالإضافة إلى طابعها التجديدي في الكتابة السردية- إلى إشراك القارئ في العمل الروائي، حتى يتخلص من سلبيته، لتكون قراءته واعية وفعالة، ومنتجة كذلك، كما اعتمدت في نفس الرواية على تقنية رواية داخل رواية، فبطل الرواية « يحيى البيضاوي، وهو روائي من الجيل القديم وجد نفسه متجاوزا إبداعيا يلتقي في لقاء «الرواية بين الأمس واليوم» المنعقد بمدينة فاس بروائية شابة تدعى «أمل المغيث»، فيثمر لقاؤهما مشروع رواية مشتركة، يتفقان على أن تكون بطلتها الفتاة الكاميرونية «كريستينا» التي التقيا به في مهرجان الرقص الإفريقي، فيشرعان في التخطيط للرواية وأحداثها ومراميها تحت أنظار القارئ. وخلاصة القول إن الرواية جنس أدبي يسمح للكاتب بتجريب عدد من التقنيات والأساليب، كما يمكنها أن تستوعب جميع المضامين، حتى تلك التي تبدو أكثر تعقيدا، ومن حق الروائي أن يذهب في هذا المجال مذاهب شتى، لكنني أعتقد أن فهما عميقا للرواية ووظيفتها الفنية والاجتماعية تلزم كاتبها بالمحافظة على الحد الأدنى من عناصر العمل الروائي كما هي متعارف عليها عالميا، خاصة فيما يتعلق بالعنصر الحكائي، وتوظيف لغة سردية واضحة وفعالة، أما ما دون ذلك فلا يؤدي الاختلاف حوله إلى أن يفسد للود قضية.