الحلقة 19 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. من الألعاب الشهيرة عند الرحامنة: «العروسة» و«علّي وشلّي» و«شقيلب» و«الفرفارة» أصول لعبة الكرة لا نبتغي أن نتكلف رد هذه العادات المثيرة إلى أصل واحد، لكن يمكننا الجزم بأنه قد كانت لأهالي منطقة شمال إفريقيا منذ العصور القديمة بعض التواريخ في السنة الشمسية يقبلون فيها على خوض معارك حقيقية، من غير أن نقدر على تحديد أصل لهذه الممارسات. فلاغرابة إذن أن تكون عندهم لعبة الكرة بأوقات معلومة من العادات الثابتة. وتكون عندهم هذه اللعبة في صورة معركة حقيقية، وقد رأينا أنهم في المغرب يجعلونها بحق نزالاً في غاية الخطورة. فما السبب وراء هذا الاقتتال والتطاحن عندهم في لعب الكرة؟ ربما دعانا هذا الأمر إلى استحضار أحد الاحتفالات السحرية، فالقدرة السحرية للضربات على طرد الأرواح [الشريرة] اعتقاد شديد الشيوع في أنحاء المعمور، وهذا أمر وقف عليه الباحثون في السنوات الأخيرة. كما أن هنالك أقواماً آخرين كثيرين يقيمون احتفالات سنوية لطرد الأرواح [الشريرة]. لكنه تفسير لا نراه كافياً. بل نحسب أن من الأجدر بنا أن نفكر ههنا في تلك الاحتفالات الفلاحية التي كانت [الأقوام البدائية] تقيمها في بداية السنة والتي كانت هي الأصل الذي منه خرجت مهرجاناتنا. فقد كانوا يمثلون في تلك الاحتفالات لصراع فصل الصيف وفصل الشتاء بمعارك ومآس. فربما كانت لعبة الكرة تمثيلاً من جملة تمثيلات أخرى لتلك المعارك. ويجدر بالملاحظة في هذا الصدد أن فصل الربيع قد كان هو مبتدأ السنة، وأنه كان من الناحية الفلاحية هو الفترة التي يتم فيها البذر؛ ذلك بأن عملية البذر التي تقع في فصل الخريف إنما هي ممارسة حديثة العهد في تاريخ البشرية، وأما تل العملية عند البدائيين فقد كانت تجري كلها في فصل الربيع. وعليه فقد كان فصل الربيع هو أنسب الأوقات كلها لإعمال جميع الممارسات السحرية المراد بها تكثير المحاصيل. وتتبوأ الصراعات والمعارك موقع الصدارة في الاحتفالات الاستعراضية عند مختلف شعوب المعمور، ولا تزال ترى الاستعراض الذي يقيمه الكاثوليك في الوقت الحاضر يخوضون فيه في معارك حقيقية مستعملين فيها شتى أنواع القذائف؛ فهم يتراشقون بالبيض والفواكه، كما أنهم قد أصبحوا على أيامنا يتراشقون بالنثارات الملونة. وقد جاء مانهارت بتصوير للألعاب التي يقبل عليها القرويون الأوروبيون في مختلف فترات السنة؛ كشأنهم في عيد الفصح وعيد التقدمة وأعياد الميلاد، وبين نسبها إلى الطقوس الشمسية التي كانت تقام بغرض الاستكثار من المحاصيل الزراعية. فالراجح أن تكون لعبة الكرة هي آخر ما تبقى تلك الاحتفالات. واللافت للنظر أنه بينما انحط شأن الكرنفال كلياً فصار شيئاً في متناول العامة، بقيت لعبة الكرة في بعض الحالات امتيازاً يختص به الطُّلبة، فهم يعتبرون بطبيعة الحال الورثة المباشرين لطبقات السحرة الذين كانوا عند الأسلاف في عصور ما قبل الإسلام يرأسون الاحتفالات العمومية. وأما من جهة أخرى ففي الحالة التي يكون لعب الكرة بغرض الاستسقاء فالثابت أنها تكون تدخل في الطقوس السحرية المتداولة على صعيد المعمور لتحقيق هذا الغرض، ولسوف نرى أن من خصائص هذه الطقوس أن تكون ضاجة صاخبة وأن تتخللها عراكات، بله اقتتالات. ألعاب الاقتراع وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن لعبة الكرة تدخل فيها طرائق أخرى وأساليب نراها في المغرب في جميع الأوقات وعند جميع فئات المجتمع. فهي تشكل إلى جانب لعبة الفروسية والمصارعة والمسايفة واحداً من أكثر الألعاب التي يقبل عليها العموم. وإلى جانب هذه الألعاب الرياضية تجد لديهم ألعاباً أخرى هي من المراهنة الخالصة، وإن تكن من الأشياء التي تحرمها الشريعة الإسلامية. وتجد واحدة من هذه الألعاب قد بلغت شأواً بعيداً عند الرحمانة، وهي المسماة عندهم «السيك»، واللافت للانتباه أنهم لا يقبلون على هذه اللعبة في غير شهر رمضان، ولم نهتد إلى معرفة السبب في الاقتصار عليها بهذا الوقت دون سواه. وتكون هذه اللعبة بأن يقف كل لاعب أمام صفين من الحفيرات ويجعلان يممران اثني عشر حجراً بين تلك الحفر باتباع مجموعة من القواعد بالغة التعقيد سنعفي أنفسنا من الخوض في تفسيرها. وتتمثل اللعبة في أن يحاول كل من اللاعبين أن يدخل الحجارة التي بيديه في الحفيرات التي تعود إلى خصمه. ولذلك يجعلان يدفعان تلك الحجارة قدماً حسب عدد من الخانات حسب النقاط التي يحصل عليها كل واحد، وذلك بالاقتراع أمام كل حفيرة بواسطة أعواد من القصب أو الكلخ. فهم يستعيضون بهذه الأعواد عن قطع النرد، ويأخذون ستة من تلك الأعواد فيجعلون يقذفون بها في الهواء وينظرون كيف تسقط. فإذا سقطت جميعاً على وجه واحد فهي الضربة التي يسمونها «بكرة»، وإذا سقطت خمسة منها على الوجه المحدب وواحد على الوجه المقعر، أو سقط واحد على الوجه المحدب وخمسة على الوجه المقعر فهي الضربة المسماة لديهم «السيك»، وإذا سقط أربعة على وجه واثنان على آخر فهي الضربة التي يسمونها «دار ربعة» أو «الفاسدة»، حسب الأوجه التي تسقط عليها. وأما إذا سقطت ثلاثة من تلك الأعواد على وجه وثلاث على آخر فتسمى ضربة «دار ثلاثة». وأما أفضل تلك الضربات فهي «السيك» التي تفضي بالحجارة إلى الخانة الرابعة عشرة. وتنتهي اللعبة باكتساح اللاعب الخانات التي تعود إلى خصمه بعد سلبه قطعه جميعاً. وما دمت بصدد هذا الموضوع فسأهتبل الفرصة للحديث في ما يلي عن مجموعة من الألعاب قد وقفت عليها في مناطق عديدة من المغرب، ورأيتها خاصة عند حاحا والشياظمة. فلعبة الحظ التي يلعبونها بقطع خشبية («أعواد» في العربية و»تاكشحوط» في الشلحة)، لعبة شديدة الشيوع عندهم. ولديهم لعبة شعبية بأن يجتمع عدة أشخاص لأكل عنقود من العنب، فيجعلون يتناولون منه حبة تلو أخرى، فمن كانت الحبة الأخيرة من نصيبه فهو الخاسر، ويلزم بأداء الخسارة. وهي تكون بأن يدفع ليرة واحدة أو بشراء سلة عنب. وهنالك لعبة أخرى هي المعروفة باسم الفلبينية أو «ياداس»، وهي تكون بأن يجذب كل واحد طرفاً من عظم الدجاج الذي على هيأة v، وتعرف هذه اللعبة في منطقة شمال أفريقيا باسم «فريوات»، ولم أقف على هذه اللعبة في جنوب المغرب. لعب الأطفال كثيراً ما ترى الأطفال المغاربة يلعبون لعبة «الديور»؛ وتكون هذه اللعبة بأن يقرفص لاعبان جنباً إلى جبن، وأمام كل واحد منهما ثلاث أكوام من الحجارة ينبغي أن يكون كل واحد منها في عدد فردي. فالذي يبتدئ اللعب يأخذ كومة من تلك الأكوام الثلاث ويجعل يوزع حجارتها واحدة فواحدة بين الأكوام الست. فإذا فرغ من هذه العملية أخذ لنفسه جميع الأكوام ذات العدد الزوجي وترك ما عداها. ويفعل منافسه كمثل فعله، وهكذا دواليك، إلى أن يأخذا أكوام الحجارة كلها. فالذي اجتمع لديه أكبر عدد من الحجارة كان هو الفائز. وقد يلعبون كذلك لعبة الفرد والزوج. فالأطفال في جنوبالحوز يشد الواحد منهم على يده ويقربها من منافسيه قائلاً : «شلتك» [كذا]، والشلوح في حاحا يقولون : «شلُّوك». ويلعبون كذلك لعبة للتخمين في أي يد يوجد الشيء، ويسمون هذه اللعبة «الخاتم»؛ فالذي ينجح في التخمين يضرب الآخر ضربة، وإلا كان هو الذي يتلقى الضربة. وأما اللعبة التي نلعبها [نحن الأوروبيين] بالعُظيمات فإن الأطفال في شمال أفريقيا يلعبونها بالحجارة وتعرف عندهم باسم «شقيلب»، لكنهم [في المغرب] كما في الجزائر يُمنع عليهم أن يلعبوها داخل المنازل؛ فهو عندهم شيء جالب للأذية. والأطفال في هذه اللعبة يأخذون الحجارة المختارة ويقذفونها ثم يتلقونها بظاهر الكف، ثم يقذفونها بظاهر الكف ويتلقونها في الهواء براحة الكف المبسوطة من أعلى إلى أسفل. فإذا تمكن الواحد منهم من التقاط الحجارة كلها كان هو الفائز، وإذا أفلت منها شيئاً فيكون قد مني بالخسارة. لكن لهم في هذه اللعبة شتى الوسائل التي تسمح لهم بالتقاط الحجارة التي تسقط؛ ومن ذلك أن اللاعب فيما يلتقط حجراً من الأرض يقذف بموازاة له حجراً آخر في الهواء ثم يلتقطه بعدئذ. وكذلك هي لعبة الحفرة الصغيرة؛ «الحفيرة»، التي يلعبها الأطفال [في البلاد الأوروبية] بالكريات الزجاجية نرى الأطفال في الحوز يلعبونها بالحجارة، ويلعبونها في أحسن الأحوال بالفلوس؛ فهم يقذفون من بعيد بالقطع النقدية وكل شيء منها دخل تلك الحفيرة كان من نصيب الرامي. ألعاب الأطفال: الدمية والفرفارة. قد لا تجد شعباً واحداً من شعوب العالم لا تلعب فيه الفتيات الصغيرات لعبة الدمى أو العرائس. ففي الحوز كما في منطقة شمال إفريقيا كلها تسمى الدمية «عروسة»، ويسمونها في الشلحة «تيسليت»، ومعناه «العروس». ولا يزيدون في صنع هذه العروس في العادة عن قصبة يثبتون إليها أخرى على هيأة صليب تمثيلاً للذراعين، وأما الرأس والعينان والأنف والفم فيرسمونها بالفحم، ويُلبسون هذه اللعبة البدائية من الثياب الفاخرة. وعلى خلاف ما تكون هذه الدمية عند بعض الشعوب البدائية الذين يتخذونها لهم إلهة ودمية على حد سواء، فإنها عند المغاربة، كما عند سائر شعوب شمال إفريقيا، يحيطونها بالتوجس والريبة، ولا يحبون للأطفال أن يلعبوا بهذه الدمية داخل البيت، ولا يبقون عليها معهم في الغرفة حيث ينامون؛ فمن شأن ذلك أن يلحق بهم الأذى. وهذا يدلنا على ذلك الخوف من التمثيلات المرسومة الذي يتشرك فيه الأقوام البدائية، ثم جاء الإسلام فزاده تكريساً وترسيخاً بتحريمه التصوير. وهناك لعبة أخرى من ألعاب الأطفال قد كانت مثاراً لاستغراب علماء العراقة، وهي اللعبة التي سمعناهم في نواحي الصويرة يسمونها «الفرفارة»، ونحسب أن اسمها عند الرحامنة «فرنانة»، وتسمى عند آيت إيمور «سمارة». وقوام هذه اللعبة لوح خشبي طويل ورقيق يشدون إلى طرفه عدة حبال بطول متر إلى متر ونصف، ثم تشد كل مجموعة من جانبها تلك الحبال بكل قوة، بحيث لا يتحرك ذلك اللوح. وبعد ذلك يطلقون تلك الحبال مجتمعين كما يفعلون في المقاليع، فيجعل اللوح يدور بسرعة من حول محوره ويجمع حوله الحبال، ثم يدور في الاتجاه المعاكس، وهكذا دواليك، طالما بقيت حركة في تلك الآلة الدوارة. فتسمع لها هديراً متقطعاً يكون في بعض الأحيان شديداً بحيث يسمعونه من الأماكن البعيدة متى أحكموا صنع تلك الآلة. ونحن نتعرف في هذه اللعبة على تلك التي كانت موظفة في السِّريَّات الأغريقية ووقف عليها علماء العراقة المعاصرون، ولا تزال إلى اليوم متداولة في الاحتفالات الدينية عند الأستراليين والنيوزيلانديون وعند الزولو وعند الأهلي في المكسيكالجديدة... وقد انحط شأن هذه الأداة، كغيرها كثير من الأدوات التي كانت لها مكانة وحظوة عند البدائيين، فدخلت في ألعاب الأطفال، وصارت هي لعبة «ذات الخوار» عند الأطفال الأنجليز والفرفارة عند الأطفال المغاربة، وليس ببعيد أن نقع على هذه اللعبة سائر مناطق شمال إفريقيا. ومن جملة الألعاب التي تتطلب الحركة نذكر لعبة «علّي وشلّي»، وهي لعبة يجتمع لها الأطفال وقد تسلح كل واحد منهم بعصا. فالذي يخسر منهم اللعبة الأخيرة؛ أي ذلك الذي «يخلّص» بتعبير الأطفال، يقذف بعصاه في الهواء وسرعان ما يقذف جميع اللاعبين المتحلقين من حوله بعصيهم عساهم يصيبون عصا الأول وهي لم تزل في الهواء. فإذا أفلح واحد منهم على الأقل فإن الذي خلص يعود ليستأنف اللعب، وأما إذا لم تفلح أي واحد منهم في إصابة تلك العصا عادوا ليلتقطوا عصيهم، فالمتأخر منهم في التقاط عصاه يكون هو الخاسر، فيقف بدوره وسط الدائرة. وعندهم لعبة أخرى يسمونها «سرح جمال بوك». فالذي يخسر اللعبة يحكمون عليه بأن يمثل دور الجمل، فهو يعض على حبل ويقوم لاعب آخر يمثل دور الجمَّال فيمسك بطرف ذلك الحبل. ويجتهد اللاعبون الآخرون لتوجيه ضرباتهم إلى الجمل من كل جانب، ويحاول الجمل أن يدافع عن نفسه بتوجيه ركلات ذات اليمين وذات الشمال، ويكون على الجمَّال أن يبذل قصاراه لحماية بهيمته. فإذا أفلح الجمل في ركل أحد مهاجميه انتقل إليه دور الجمل وانتقل الجمل ليأخذ دور الجمَّال. وقد يتعرض اللاعب الذي يقوم بدور الجمل أحياناً للإصابات البليغة. ولديهم لعبة أخرى يلعبها الكبار منهم كما يلعبها الصغار، وهي المعروفة باسم «الحيح»، من الهتاف الذي لا يفتأ اللاعبون يطلقونه، والذي يخسر منهم اللعبة في الأخير يضع إحدى رجليه في حفرة قد جعلوها لهذا الغرض، ويتحلق من حوله جميع اللاعبين الآخرين، ثم يتحلق حوله الآخرون ويجعلون يركضون ويقفزون وهم يوجهون إليه الضربات خبط عشواء، متصايحين : «حيح حيح»، ويكون على اللاعب الذي يتوسط الحلقة كذلك أن يرد على ضرباتهم بالركل بالرجل الأخرى التي خارج الحفرة، فالذي يصيبه يحل محله. الزواج عند الرحامنة إذا أزمع الرحامنة أن يقيموا حفل الزواج، ذهبت النساء من عائلة الخطيب لزيارة عائلة الفتاة التي يرغبن في تزويجها له بقصد الاستخبار عنها. فإذا تم الاتفاق في الأمر جاء والد الخطيب في بعض أصحابه عند أبي الخطيبة، وجاء معه بخروف. ثم يأخذان يقلبان الحديث في تفاصيل العرس. والمهر يكون مرتفعاً بوجه عام، وما أسهل ما يرتفع ليصل إلى أربعين دورو، علاوة على صندوق يشتمل في العادة على حزام من الحرير وخمسة أزواج من «الشرابيل» وخمسة أزاوج من «الريحية» ومنديلين من الحرير وإزار ومنصورية، ويزيد إليها الخطيب ثلاثة خرفان. وأما والد البنت فيقدم لابنته جهازاً يشتمل في العادة على حايكين، أحدهما قديم والآخر جديد، وحزام من الصوف وقربة ومهراز وكطيفة [زربية] وسطلة (وهي طست من نحاس ذو مقبض، يسمى عندهم في الجزائر «مرجن»)، وبضعة مزاود (وهي جلود الغنم المدبوغة لتُجعل فيها المؤونة)، وطبك (وهو طبق كبير من الدوم)... ويعطي الأب ابنته عقداً متكوناً من القطع النقدية، والحلي الأخرى يقدمها لها العريس. ثم إنهم قبل الخوص في أي حديث في شروط الزواج يذبحون الخروف الذي جاء به أبو الخطيب، وأثناء ما تكون تجري الاتفاقات بين الأبوين تنهمك النساء في إعداد الطعام. وما أن يتفق الأبوان حتى تطلق إحدى النساء عقيرتها بالزغاريد الحادة، فيعطونها «كرش» (25 سنتيم من البسيطة)، وتُتلى الفاتحة، ولا يحتاجون فيها عامة إلى وجود طالب. وبذا يكون قد تم الزواج، لكنهم لا يشهرونه في العادة إلا بعد وقت طويل، والغالب عندهم أنهم يقيمون العرس سنة بعد الخطوبة. وفي عشية اليوم ستزف فيه العروس يجتمع العريس وأصحابه، فيسمي أحدهم وزيراً، فيحمل هذا الأخير على كتفه سيفاً كما يحمل برنوس العريس. وأما العريس فالجميع يسمونه «سيدنا»، وهو اللقب نفسه الذي يدعى به السلطان نفسه. وأما أصدقاؤه الحميمون فيسمون جميعاً «إسلان»، ويسمى بقية الشبان الآخرين «نايبة»، وهم المسخرون؛ فهم خدام للسلطان وإسلان حاشيته. وفي صبيحة يوم العرس يدهن أصحاب العريس له يديه بالحناء، ويوضع أمامه إناء فكل واحد يأتي ليضع فيه هديته. وتكون العروس بدورها في اليوم الذي يسبق العرس قد تطهرت باستعمال الحناء. فهم يجلسونها فوق بردعة فتمد يديها وتجعل أمها تضع لها الحناء، فإذا فرغت منها مسحت يديها برجليّ العروس؛ وفي ما عدا ذلك لا يجعلون حناء في رجليّ العروس. ويضعون أمام العروس إناء فالمدعوون يضعون فيه هداياهم الزهيدة لها، ويكون العريس هو أول من يضع هديته في ذلك الإناء. لكنه لا يرى عروسه بطبيعة الحال؛ فهي تكون محجبة بالخمُر. وحفل الحناء هذا، سواء منه الذي يقام للعروس أو الذي يقام للعروسة، عرفٌ واسع الانتشار في سائر مناطق شمال إفريقيا، وقد تتخلله في بعض الأحيان تنويعات معقدة. وهم يعتبرون هذه العملية بمثابة تطهير، وكذلك هو نفسه المعنى الذي يتخذه عند البدائيين الطقسُ المتمثل في تلطيخ الوجه بالطين أو بالألوان؛ فهم يتصورون أنهم إذ يغسلون بعدئذ ذلك الطلاء أو يتركونه يتلاشى ويزول رويداً رويداً، كفعل [المسلمين] مع الحناء، يبعدون في الوقت نفسه عن أجسامهم التأثيرات السيئة التي يمكن أن تعلق بها. ولعل في هذا الذي ذكرنا تفسيراً للشهرة الواسعة والحظوة الكبيرة التي تتبوؤها الحناء عندهم. ومن المعلوم أن أوراق هذا النبات (Laivsonia inermis, L، المعروف في العربية باسم «الحناء») تُدق إلى أن تصير مسحوقاً دقيقاً جداً وتُخلط بالماء فتُجعل على الأظافر والأصابع، كما يطلون بها اليدين من كل جانب ويجعلونها كذلك للرجلين. ويستعملونها كذلك في صبغ الشعر باللون الأشقر، وقد يزيدون إليها صباغة الجوز إذا أرادوا أنة يجعلوا للشعر اللون الأسمر. وتفيض كتب الآداب الإسلامية في ذكر منافع الحناء، وما أكثر ما تسمع المسلمين يجمعون بطريق السجع بين «الحنّة» و»الجنة». يوم العرس ثم يحين يوم الزفاف، ويكون موعده في وقت الغروب. فإذا كان بيت الزوجية بعيداً حُملت إليه العروس فوق جمل، ويكون وقت خروجها من بيت أسرتها بحيث تصل إلى بيت زوجها في الليل. وإذا كان بيتا العروسين متجاورين أُركبت العروس فرساً ولم تتوجه إلى بيت زوجها إلا عند الغروب. والوزير هو من يرفعها فوق ظهر البهيمة ويسير يقودها في جو ملؤه زغاريد ودوي العيارات النارية من بنادق الفرسان اللاعبين بالخيول. وتكون العروس كحالها دائماً متحجبة وقد لبست إزاراً، لكنها لا تتمنطق، كجري العادة الثابتة، بحزام، ففك الحزام يكون في سائر البلدان علامة على الدخول في الحياة الزوجية. فإذا جاءت إلى بيت الزوجية تلقتها النساء بالرقص، ودخلت البيت وهي راكبة صهوة الفرس، ثم يعينها الوزير على النزول ويجلسها، وفي إزار ممدود أمامها تفرغ شيئاً من الشعير لتطعمه البهيمة. وتجلس العروس ومن حولها أطباق قد احتوت قمحاً وسميداً وزبدة وتمراً، لكن يغيب بينها العسل؛ فالعسل معدود عند المسلمين وبوجه خاص عند المغاربة، إلا من بعض الحالات الخاصة، في الفأل السيء، ولو اتفق لهم أن أدير على الضيوف أثناء حفل الزفاف فإنهم يحرصون على ألا يقع عليه نظر العروس. ثم تشرب العروس من كوب به حليب، وتقدمه إلى الحضور ليشربوا منه بعدها. ويصيح أبوا العروس : «ضيف الله لله»، بمعنى طلب الضيافة عند أبويّ العريس، فيردان عليهما بالعبارة المأثورة: «مرحبا، مرحبا». وسنلاحظ أنه لا يجري خلال ذلك كله ما يجعل للعرس من شبه بعملية الخطف. حفلات الزواج ينقطع العريس عن رؤية والديه أياماً كثيرة قبل حفل الزواج، إذ تقام له نوالة صغيرة لصق خيمة العائلة، تكون في الحقيقة بمثابة الغرفة يزيدونها إلى خيمة الأسرة وتكون تتصل وإياها. ويلتزم العريس هذه النوالة لا يبرحها ليلاّ يرى أمه وأباه، فهو فيها يحتجب عن الناس ولا يشاركهم الاحتفال بمقدم العروس. فإذا انتهى ذلك الحفل جاء العريس في موكب تتقدمه النساء ويسير الرجال من بعدهن وكلهم في رقص. وفي هذه اللحظة يدخله الوزير في نوالته الصغيرة، حيث العروس لوحدها. فإذا تم له الدخول بعروس أخبر الوزير وأصحابه فيأخذون من فورهم يطلقون العيارات النارية في الهواء. ويسلم العريس الوزير القميص المدمى، فيجعل الوزير يرقص وهو يفرج الجميع رجالاً ونساء على ذلك القميص، وقد ربما طاف به حتى داخل مسجد الدوار، الذي لا يزيد هو نفسه عن خيمة تحيط بها نوايل الطلبة. وفي صباح اليوم الذي بعدُ يعطي الزوج عروسه ريالاً (وهي قطعة مغربية بقيمة مائة قرش)، ويبدو من الصعب أن نحمل هذه الهدية على أنها بديل لمهر الزوجة، فهو شيء سبق للزوج أن دفعه. وتكون الأيام السبعة التي بعد أياماً ملؤها الاحتفالات، خاصة منها الأيام الثلاثة الأولى، فهم فيها يظلون في لهب بالخيل والبارود. وفي اليوم التالي على الزفاف يشرع الوزير في أداء مهامه في صورة ساخرة؛ فهو يقلد قائد القبيلة، ويأتي إليه المدعوون ليعرضوا عليه خلافات مفتعلة، فينزل بهم عقوبات، أكثرها يكون غرامات ليدفعوها إلى العريس. ثم إنهم يقيمون أسواقاً سخرية؛ حيث يبيعون البيضة بخمسة قروش والدجاجة بأربعين قرشاً، وهي أسعار مجحفة عند الرحامنة، ويُلزم المدعوون بأداء هذه المبالغ برسم الهدايا للعريس. بل إن هذا النوع من الهدايا يكون شيئاً إجبارياً عند جميع الضيوف المتنافسين في إبداء السخاء، ويسمى عندهم هذا الحفل «أبراز» [brâz]. ويكون على العريس بدوره بعد ذلك، إذا استدعي إلى عرس، أن يأتي العريس بهدية تكون تكافئ الهدية التي تلقاها منه يوم أن كان عريساً. حفلات الزواج: الطاوسة إن المبلغ الذي يقدم إلى العريس في ذلك اليوم برسم الهدية إنما يعتبر في حقيقة الأمر ديناً في رقبته، وهو المسمى عندهم في الجزائر «الطاوسة» كما يعرف باسم «الكنبوش». وتعتبر هذه الطاوسة في الجزائر بمثابة مؤسسة حقيقية للتعاون والتكافل. فالواحد منهم إذا اعتزم إقامة عرس كان معوّله على تلك الطاووسات التي ستتحصل له من عند الحضور. وحيث إنه يكون عارفاً بالمبلغ المالي الذي يكون هو نفسه أو والده قد دفعه فهذا يجعل في إمكانه أن يعرف المبلغ الذي سيحصله بدوره، فيقيم حفل العرس بناء عليه. كثيراً ما تراهم في القبايل الصغرى على سبيل التمثيل يفرشون منديلاً أرضاً ويأتي كل واحد منهم ليضع فوقه مبلغ الهدية، ويصيح البراح في الملإ بإعلان قيمة الهدية واسم صاحبها، فيما يجلس طالب القرفضاء على جانب ويدون في سجل أسماء المساهمين والمبالغ المالية المعلنة. وهم يجعلون تلك اللائحة للتثبت من الإسهامات المقدمة في هذه الاحتفالات. والعادة عندهم أن يرد الواحد منهم مبلغ الهدية بأكثر مما أخذ، وقد تدفع الرغبة في التنافس في إظهار السخاء لبعضهم إلى أن يردوا المبالغ التي حصلوا عليها ضعفين أو ثلاثة أضعاف. وأما إذا أراد الواحد منهم أن يفسد العلاقات الطيبة بينه ومضيفه، أو أراد أن يبين أنه لم يعد يربطه به غير علاقة واهية، فإنه يقتصر على رد تلك الهدية بمثلها ولا يزيد عليها شيئاً. غير أنه لا يمكنه في جميع الأحوال أن يردها بأقل منها؛ فهو مبلغ واجب من الناحية القانونية، والذي يبدو أن الشرع في الجزائر قد ظل إلى اليوم يقر هذا النوع من الدين. ثم إنهم لا يقتصرون بهذه الطاووسة على الأعراس، بل يقيمونها كذلك في احتفالات أخرى؛ فالواحد منهم إذا كان أعطى الكثير من تلك الطاووسات بالمبالغ الكبيرة يمكن له في الأيام العصيبة أن يجد فيها عوضاً بتنظيمه لحفل كبير فيسترد به مبالغ هداياه السابقة، ويفضل بين يديه منها شيء من المال. بل إن هذه العملية لا تخلو أحياناً من بعض التجاوزات، وقد سعت الإدارة في الجزائر في وقت معين إلى وقفها، وذلك بتقنين الطاووسة وإيكال استخلاصها إلى جابي الضرائب، ومن حسن الحظ أن هذا المشروع الذي بعث عليه حب مفرط للتقنين لم يعمر طويلاً. حفلات الزواج في ذلك اليوم نفسه تضع العروس الحركوس وتتطيب بأقوى العطور، من قبيل «السنبل»، أو النرد السلتي، والقرنفل والزعفران ونبات آخر يسمونه «التارة» لم أفلح في تحديد ماهيته. وتلبث الزوجة خلال أيام العرس السبعة من غير حزام، ولا تأخذ تتمنطق به إلا في اليوم السابع. ويظل العريس خلال تلك الأيام السبعة لا يقابل أبويه، وأما العروس فتقابل أمها في اليوم التالي على حفل الزفاف، لكنها تلبث سنة كاملة دون أن ترى أباها، وإذا رعب أبوها أن يراها فلم يكن لها بد أن تجازف بالأمر، غير أنها لا تفعل إلا بعد انقضاء ثلاثة أشهر أو أربعة من الزواج. حفل الزفاف والعادة عندهم أنه إذا توفي الزوج وكان له أخ غير متزوج فهو الذي يتزوج بأرملة أخيه. وهم يعتبرون هذا الزواج نوعاً من الوصاية على أبناء الهالك الذين بدون ذلك الزواج لا يبعد أن يقعوا بيد زوج آخر لأمهم فيقسو عليهم بسوء المعاملة. وكذلك إذا توفيت الزوجة فإن الزوج يتزوج أختها لأجل أن يتربى الأولاد في حضن خالتهم. لكن هذا العرف ليس ثابتاً عندهم بقدر ما هو العرف الآخر الذي يقضي بزواج الرجل منهم بأرملة أخيه. وترانا نتساءل هل يكون لهذا العرف عندهم من نسب إلى عادة زواج السلفة التي نص عليها سفر التثنية عند اليهود المغاربة؟ لكن الثابت كذلك عند عامة المسلمين في المغرب أن الأرملة إذا رفضت الزواج بأخي الزوج لم تلق منهم تعنيفاً أو تبكيتاً. ومن الأعراف الشائعة لديهم كذلك أن يتزوج الرجل بابنة عمه، فإذا تقدم الرجل للزواج من ابنة عمه فلا يمكن أن يُرد طلبه.