الحلقة 18 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. لعبة كرة القدم كانت مقصورة على الطُّلبة وكانت تتحول عندهم إلى عراكات حقيقية لباس الرحامنة وعلى كل حال فإن عدداً كبيراً منهم لا تزال سيماهم تصرح بأصولهم؛ فمعظمهم ذوو سحنات تميل إلى السواد، كمثل ما هم قطان المناطق الصحراوية من المغرب، كما أنك لا تزال ترى النساء من فخدات كثيرة، خاصة تلك المنتسبة إلى الزوايا، يتلفعن في ذلك الإزار الأزرق الهندي المعروف باسم «الخنت». وإذا ما أخذنا في الحسبان أن لباس النساء، كما لباس رجال الدين في سائر البلدان، إنما يكون في معظمه شيئاً متخلفاً عن لباس كان عند البدائيين يشترك فيه الرجال والنساء، لم يعد ما يبعثنا على الاستغراب لهذا الأمر، بالنظر إلى أن الرحمانة يعودون بأصولهم إلى سوس وإلى المناطق الصحراوية، وأن الخنت هو اللباس الأكثر شيوعاً عند ساكنة هذه المناطق. وسوف نأتي في ما بعد بقرائن أخرى تعزز من هذه الأطروحة. ثم إنك تجد لدى الرحامنة بعض الأفراد الضاربين بسحناتهم إلى البياض، فهم يمثلون بطبيعة الحال عرقاً آخر، وإن هذا الأمر لمما يعزز الرأي الذي جئنا به من احتمال أن يكون وقع للرحامنة تلاقح وامتزاج قويان مع البربر. ولا ترى الرجال عند الرحامنة يلبسون الخنت على الإطلاق، بل يلبسون «التشامير»، وهو عبارة عن قميص طويل، و»الجلابية» أو «الجلابة»، والحايك و»الهدون» الذي لا يعدو أن يكون السلهام أو البرنوس. وإذا خرجوا للعمل في الصيف اقتصروا على التشامير، وإلا فإنهم يزيدون إليه الجلابية. والعادة عندهم أنهم يلفون رؤوسهم بشريط، أو «عمامة»، لكنهم يتركون قنة الرأس عارية دائماً. وأما أحذيتهم فهي البلاغي. وأما النساء الرحمانيات اللواتي يلبسن الخنت فإن معظمهن من الفخدات المشتهرة بانتسابها إلى زوايا، كالركيبي وسيدي ناجي وأولاد مولاي عمر وسلام (أولاد سلامة) وعْريب (أولاد بوبكر). فهن يلبسن «المنصورية» وما يشبه القميص ينفتح من قُبُل حتى الحزام وله أكمام، وهذا شيء طارئ على الرحامنة فلم يكن للنساء عهد به في الماضي. وتلف النساء رؤوسهن بما يشبه «السبنية»، هي شريط من القماش، وأكثر ما يغطين رؤوسهن بقطعة من الخنت بطول أربعة أدرع أو نحوها. ويتمنطقن بحزام غليظ من تلك الأحزمة الصوفية التي تباع في أسواق مراكش، وينتهي طرفاه بشرابتين غليظتين، ويتركن تينك الشرابتين متدليتين في غير اكتراث من جهة أو من أخرى. وتسير هؤلاء النساء حافيات، وإلا فإنهن يحتذين «الشربيل» من غير عقبية، وهو يكون مطرزاً من جميع الألوان، أو يحتذين «الريحية» وهي ذات عقبية ولا تزيد عن بلغة ذات لون أحمر، وخالية من أي تطريز. زينة الرحامنة وحلالتهم وقلما ترى عند الرحامنة رجالاً يشِمون أجسادهم، فهي عندهم شيء معيب. وأما النساء فإن منهم ذوات السحنات السمراء الضاربة إلى السواد، اللائي سبق أن عرضنا لهن بالحديث، وهؤلاء لا يضعن من الأوشام إلا قليلاً، فهذا النوع من الزينة لا يكاد يظهر على جلودهن. وأما أولئك منهن ذوات البشرة الضاربة إلى البياض فإن معظمهن يتوشمن على الصورة التالية : نقطة صغيرة فوق منبت الأنف، ونقطة في مقدم الأنف، وخط يصل بين الشفة وأسفل الذقن، وقد يمتد ذلك الوشم أحياناً إلى العنق، بل ربما امتد إلى ما بين الثديين، وكثيراً ما يشمن كذلك أذرعهن بالكامل، ويجعلن وشماً من حول الساق من فوق الكاحل. ومن عادتهن كذلك أن يتزين بالحركوس، وهو مادة حيوانية سوداء، فيزين به الحاجبين والأنف، ويكون الوشم الذي يجعلنه على الأنف منقطات سوداء. وأما الخضاب الأحمر، أو «العكر» فيقتصرن به على الوجنتين والخدين. والغالب عندهن في هذه المنطقة أنهن يصطنعن هذا الخضاب من «الفوَّة»، وأكثر ما يتخذنه من مادة الأنيلين يشترينها من مراكش أو في ما يتفق لهن من أسواق. وتُجعل هذه الصباغة طبقة رقيقة جداً في صحينات فخارية لهذا الغرض، تباع في مراكش بثلاث أواق، أي باثني عشر سنتيماً للزوج. فإذا أعوزهن العكر استعضن عنه بالزعفران. وعندما تكون الفتيات الرحمانيات صغيرات يُحلق لهن شعرهن، ولا يُبقى لهن على غير شيء منه في مقدمة الرأس وخصلتين على قمة الجمجمة، فإذا بلغن تركن شعرهم يستطيل فيبقين على الشعر الذي على الجبين ويلففن ما عداه فوق رؤوسهن. فإذا تزوجن جعلن شعرهن في ضفيرتين وتركنهما متدليتين خلفهما، لكن العادة عندهن إذا ولدن أنهن يدفعن تينك الضفيرتين فوق أكتافهن فتتدليان فوق صدورهن. ويضعن الأقراط الفضية، من نوع «الدوّاح» يجعلنها في الأذنين معاً على تفعل نساء دكالة، ويجعلن على جباههن «السفيفة»، المسماة عندهن «المشبوح»، وهي أشبه بالتاج أو الإكليل، يتخذنه من قطع القرش ونصف الريال والريال (5 بسيطات). وتعتبر القلادة كذلك مكوناً لازماً في زينتهن، وهي تتألف من صفين إلى ستة صفوف من القطع الفضية، ومعظم تلك القلائد تكون من قطع الدورورات. ويقال إن من هؤلاء النساء من يحملن قلائد قد اشتملت على أكثر من مائة دورو. ويتخذن لهن الخلالات أو مشابك الإزار من الفضة، وهي تكون كبيرة الحجم ومقببة ومزينة بنقوش، ولا ترى عندهم المشابك المسطحة إلا استثناء، وتشد تلك القطع سلسلة غليظة. والأساور لديهن محدبة ولا تفتح، وهي تزن بين 8 إلى 10 ريالات مغربية. والخواتم لديهن من الفضة، وهي تكون ملساء وغير ملتوية ومن غير فصوص أو أحجار كريمة، وفي غاية البساطة. والنساء يضعن منها في الخنصر والبنصر من اليد اليسرى. وكثيراً ما ترى الرجل عندهم وقد وضع خاتماً في خنصر اليد اليسرى، لكنك لا ترى منهم واحداً قد جعل قرطاً في أذنه. ويمكن القول بصفة عامة إن السناء الرحمانيات يتزيَّنَّ من الحلي بأكثر مما تتحلى النساء الدكاليات، وحتى لتبدو هؤلاء كالبائسات قياساً إليهن. طعام الرحامنة العادة عند الرحامنة أنهم لا يطعمون شيئاً إذا نهضوا من النوم صباحاً، إلا أن يكونوا يتهيأون للقيام بالأشغال الفلاحية الشاقة، كالحصاد، فيتناولون قليلاً من الكسكس في حوالي الساعة التاسعة صباحاً، والفقراء منهم يتناولون الدشيشة. وفي ما عدا ذلك يقتصرون على وجبتين، واحدة عند منتصف النهار والثانية في المساء، غير معتبرين بالمثل القائل : «الفطور من بكري بالذهب مشري». وتكون أولى وجباتهم في العادة هي «العصيدة»، وهي عبارة عن شعير يطبخونه في الماء ويكون ثقيلاً، يتناولونها باللبن. ويكون طعامهم في المساء دشيشة من الشعير أو كسكساً من القمح. وأما اللحم فإن معظمهم لا يكادون يتناولونه غير مرة واحدة في الأسبوع، تكون هي اليوم الذي تنعقد فيه السوق القريبة إليهم. ثم إنهم لا يأكلون البيض ولا الدجاج، ويؤثرون أن يبيعوها لشراء الخراف، كما أن النفور من أكل البيض أمر شائع عند المغاربة، وأكثر ما يأنف منه اليهود في سوس. وأما اللحم الذي يحرمون منه بوجه عام، فإن أهل الدوار الواحد يجتمعون له أحياناً فيقيمون بينهم «وزيعة»، وذلك بأن يشتركوا على شراء بهيمة فتدفع كل أسرة النصيب الذي يعود إليها من ثمنها، ويوزعوا اللحم بينهم بالاقتراع. والوزيعة مؤسسة لها وجود في عموم منطقة شمال إفريقيا، ونجد مثيلة لها عند القبايل، وهي المعروفة عندهم باسم «تيمشريط». لكنها عند هؤلاء تكون في صورة عمل خيري حقيقي، لأنهم يأخذون المبلغ المالي المخصص لتيمشريط من دخْل القرية، فتشمل الاستفادة منها المحرومين الذين لا يساهمون فيها بشيء. وقد أصاب مساكيراي في تنويهه إلى الإسهام الكبير لهذه العملية في تعزيز التكافل في صلب المجموعة الاجتماعية، وحتى لقد وجدناه يشبه تيمشريط بالولائم العمومية التي كانت تقام في إسبرطة. وأزيد القول، مع التنويه إلى أنه لا يعدو عن افتراض، إن تلك الولائم قد كانت عند البادئيين تدخل فيها كذلك القرابين الجماعية. الموسيقى عند الرحامنة ليس للرحامنة شهرة في الرقص كمثل القبائل المجاورة لهم؛ أعني الشاوية وإنتيفة وتادلا وآيت عتاب، الذين يوجد لديهم عدد كبير من الراقصين والراقصات المحترفين، وعندهم جوق موسيقي متكامل تلمس فيه تأثراً بقربهم من مدينة مراكش التي يشكلون قسماً لا يستهان به من ساكنتها؛ فهو قد ضم «الرباب»، وهو كمان بوترين من معي الحيوان، و»القصبيتة» وهي كمان يتخذون أتاره كما القوس من شعر ذيل الفرس، و»الطعريجة» أو «أكوال» التي سبق لنا أن تعرفنا عليها، و»الطرية» وهو دف صغير، («الطر»)، و»البندير» الذي يسمونه الغربال (المنخل)، وهو دف آخر صغير، و»الكمبري» وهو قيثار بوترين وأحياناً يكون بثلاثة أوتار. لكنهم يقتصرون في معظم الأحيان من هذه الآلات على «الرباب» و»الطرية» و»الطعريجة». وأما «الغيطة» فلا تراهم يستعملونها إلا في الجولات التي يخرجون فيها للتسول، فينفخون فيها أمام أبواب البيوت في طلب الصدقات. لعبة الكرة ولديهم في الرحامنة تسلية واسعة الانتشار، كما هو شأنها في باقي مناطق شمال إفريقيا؛ تلك هي الكرة. وهم يلعبونها بثلاث طرائق مختلفة سنأتي لها بالوصف بالتتابع. فالطريقة الأولى تكون بأن ينقسم اللاعبون فريقين، فكل فريق يسعي ليقذف بالكرة ناحية خصمه. وما أن يُقذف بتلك الكرة، التي يتخذونها من الصوف ويغلفونها بالجلد، حتى يسعى كل لاعب يطولها برجله ليردها ناحية الفريق الخصم. فإذا وقعت الكرة في ناحية أحد الفريقين لم ينفعه أن يجتهد لدفعها عنه، فإنه يكون قد خسر اللعبة. وهذه طريقة في اللعب تذكرنا بلعبة الكرة بالأقدام التي كانت متداولة قديماً في فرنسا، وكان لها الانتشار الواسع في نورماندي وبروتون، وقيل إن البريطانيون قد استعاروها [من الفرنسيين] خلال حرب المائة عام، ثم استعدناها عنهم وكأنها لعبة جديدة علينا باسم «كرة القدم». وقد كان الناس في الماضي يلعبون الكرة لا بقذفها بالأرجل، بل يضربونها بعصا أو «عقفة»، فهي عصا معقوفة في طرفها، ولم يكن يجوز للاعبين أن يتلامسوا، بل ينبغي لهم أن يقتصروا على ضرب الكرة بالعصا. فالواحد منهم يسعى لأن يحول اتجاه الكرة التي يضربها خصمه فيوجهها إلى حيث يكون فريقه؛ ذلك بأنهم في لعبة الكرة التي يستعملون فيها العصي يحاول كل فريق أن يجلب الكرة ناحيته، والذي يفلح فيها يكون الفوز من نصيبه. ولا تعدو هذه اللعبة أن تكون صورة للعبة الكرة بالعصا التي نقلها معمرونا من نورمادني وبروتون إلى كندا، فصارت فيها هي لعبتهم الوطنية. وقد بقينا [نحن الفرنسيين] حتى القرن التاسع عشر نلعب لعبة البليار باستعمال العصي. والطريقة الثالثة في لعب الكرة بالغة العنف والشراسة؛ فهم يقذفون بالكرة في الهواء، فينبغي للذي تلقاها أن يرتمي أرضاً ويدور بجسده على يديه «يتشقلب»، ويوجه ضربة إلى من هو أقرب إليه، ثم يقذف بدوره بالكرة؛ ولا يكون له أن يقذف بها ما لم يقم بتلك الشقلبة ويضرب أقرب لاعب إليه. وإننا لنعجب إذا نرى إلى الخفة التي تميز أداء الأهالي لهذا الطقس المعقد، فهم يوجهون إلى الكرة الضربات الشديدة، ومعظمها يكون بالأرجل، بما يجعل هذه اللعبة عندهم غاية في العنف والشراسة. ثم إن اللاعبين لا ينقسمون فريقين، بل إن من يبذ غيره في المقاومة يكون هو الفائز. وهذا الشكل من لعب الكرة هو الأكثر شعبية بطبيعة الحال من الأشكال الأخرى. وترى هذه الصورة من لعب الكرة كذلك في بعض الجهات من المغرب، لكنهم يستعيضون عن الكرة ببلغة أو شبشب. فكذلك رأيناهم يفعلون في الشياظمة؛ فاللاعبون يكونون حلقة، ويأخذ أحدهم بلغة ويرمي بها إلى لاعب آخر يقع عليه اختياره، ويتلقى هذا اللاعب الكرة فيتشقلب ثم يحاول أن يضرب بها لاعباً آخر، فيتفادى هذا الأخير الضربة ويرمي بالبلغة إلى ثالث ثم يعيد الكرة من جديد. فإذا لم يفلح هذا الأخير في الإمساك بالبلغة وهي في الهواء لزمه أن يلتقطها من الأرض ويمررها إلى جاره من دون أن يقوم بالشقلبة، في حين أن اللاعب الذي يتلقى البلغة بانتظام يكون له أن يرمي بها إلى من يختار من اللاعبين. اللعب عند الرحامنة لقد ذكرنا من قبل أن ألعبة الكرة لها شيوع في منطقة شمال إفريقيا كلها، وهي واسعة الانتشار خاصة في سائر أنحاء الجزائر؛ وأكثر ما يلعبها أهلها باستعمال العصي. فاللاعبون يشكلون فريقين وقد تسلحوا جميعاً بالعصي. وهم يؤثرون لهذه اللعبة ميداناً منبسطاً. فإذا اجتمع اللاعبون قذف أحدهم بالكرة في عنان السماء، وتحلق من حوله اللاعبون وبأيديهم العصي وكل منهم يسعى إلى ضرب الكرة ليردها إلى ناحية فريقه. وحينئذ يشتد بينهم الاختلاط والهرج، فهم يندفعون صوب الكرة وكل فريق يبتغي أن يدفعها ناحيته. وما أكثر ما ترى الواحد منهم يستعمل عصاه في إبعاد الآخرين، فلا يخلو اللعب بينهم من عراك وتدافع. ثم إنهم يهوون على الكرة بكل ما أوتوا من قوة، وقد يخطئونها فيصيبون سيقان بعضهم، ولذلك فلا يسلمون من الكسور. وقد يتخذون الكرة من خشب، والغالب فيها أنهم يصطنعونها من الخرق أو من الصوف أو من جلد البقر. والعادة عندهم في هذه اللعبة أنها تكون بغير ما رهان يتبارون عليه، لكن ربما تراهنوا فيها أحياناً عنزة أو خروف، وقد يتراهنون على عجل، فيتكلف شراءه الفريق الذي يخسر اللعبة ثم يولمونه مجمتعين. وتكون قاعدة اللعب في بعض البلاد، كما في مليانة على سبيل التمثيل، أعقد مما رأينا؛ فلا يكفي اللاعب أن يرد الكرة ناحية فريقه بل ينبغي له أن يودعها حفيرة قد جعلوها في الأرض لهذا الغرض. وكذلك يلعبون الكرة في الجزائر من غير عصا، وتعرف عندهم هذه اللعبة في القبايل الصغرى في منطقتيّ كولود ومنطقة جيجل باسم «الدوخة»؛ فهم يتقاذفون الكرة بالأيدي. واللافت للانتباه والمثير أن تجد لعبة الكرة في المغرب أكثر من يلعبها الطُّلبة، وهذا أمر لا نراه جلياً في الجزائر. بل إنك تجد في المغرب لعبة الكرة بالعصي شيئاً يحتكره الطُّلبة، فلا يلعبها سواهم، أو إنهم هم وحدهم الذين يلعبونها على هذه الصورة. فهذه حاحا على سبيل التمثيل، وهي التي خصصناها بالدراسة [في هذا الموضوع]، لا ترى الكرة يلعبها فيها غير الطلبة، وهم يلعبونها على الصورة التالية : يقسمون أنفسهم إلى فريقين، ويجعلون يتناوبون على قذف الكرة بالأرجل، ثم يأخذ الفريقان في الاقتراب من بعضهما رويداً رويداً، إلى أن يختلط ذلك الجمع، فإذا الواحد منهم يسعى ليسقط كل من يقترب من الكرة ويقذفها بقدمه، لكن يُمنع عنهم أن يلمسوها بالأيدي، بل يقتصرون في دفعها على الصدر والكتف والساق والقدم، ويجوز للاعب منهم كذلك أن يعرقل خصمه ويطيح به لكن من غير استعمال اليدين. والكرة يلعبها الجميع في مدينة الصويرة بالأرجل، لكن يمنع عنهم ضرب بعضهم بعضاً، وحدهم الطلبة، الذين يلعبون الكرة لا يشاركهم فيها أحد يتبعون فيها الصيغة التي رأيناها عند حاحا، بحيث تكون هذه اللعبة عندهم في الوقت نفسه معركة حقيقية. والذي يبدو أن هذه الطريقة في لعب الكرة هي الأكثر شيوعاً لدى الطُّلبة في المغرب. معنى لعبة الكرة إن هذه الخاصية الغريبة في نسبة لعبة الكرة بوجه من الوجوه إلى الطلبة والفقهاء نلاقيها في [غير المغرب] من البلدان الأخرى. وليس علينا أن نذهب بعيداً عن بلدنا [الجزائر]؛ فمن المعلوم أن في فرنسا خلال العصور الوسطى كان [الرهبان] يلعبون الكرة داخل الكنائس، وحتى عهد الثورة كان أسقف أفرانش ومريدوه يلعبون في يوم ثلاثاء المرفع لعبة الكرة بعصي الأسفية على الرملة، ويطلقون إشارة انطلاقة المباراة بالقرع الشديد على جرس الكاتدرائية، وفي تلك الفترة، أو قريبة منها، كانت العادة جارية عندهم في منطقة شمال أفريقيا على لعب الكرة. ولا تجد الناس في بلدان كثيرة يلعبون الكرة في غير فصل الربيع، وفي سائر البلدان التي يلعبون فيها الكرة في غير هذه الفترة من السنة يظل فصل الربيع مع ذلك هو الفصل الأثير على هواة هذه اللعبة، خاصة منهم الطُّلبة. وتعتبر لعبة الكرة في منطقة الأوراس، ولا يبعد أن تكون كذلك في مناطق أخرى سواها، جزءاً لا يتجزأ من الاحتفالات التي يقيمونها في عيد الربيع المسمى عندهم «ملقى الربيع». لكنهم كثيراً ما يقبلون على هذه اللعبة كذلك في فترات الجفاف، وفي أي وقت من أوقات السنة «في طلب المطر». فلذلك لا يسوغ لنا أن نعتبر لعبة الكرة مجرد رياضة، إذ لا ترى الأهالي يلعبونها قط في أعيادهم الخاصة بوجه عام، ولا هي، كما الفروسية، باللعبة المرافقة لزوماً لكل ما يتفق لهم من احتفالات ومباهج. وإذا ما اعتبرنا بمختلف هذه الحيثيات فلا يجوز لنا أن نغض الطرف عن حقيقة أن لعبة الكرة التي يلعبونها في بعض التواريخ الشمسية أو بغرض إحداث منقلب سنوي، والغالب فيها أنها امتياز خاص بطبقة ذات طابع ديني، تمتلك كل الخصائص للعبة متخلفة عن طقس زراعي قديم خاص ببعض الطوائف. ولا يساورني شك في أنه سيقيض لأبحاث أخرى أشمل وأدق من أبحاثي أن تقيم البرهان ذات يوم على هذه الحقيقة بشكل قاطع ونهائي. الإحتفالات الدينية لئن وجد البعض أننا بهذه الفرضية قد تمادينا في الغلو، فإن من اليسير علينا أن نبين أنها على الأقل فرضية تنسجم والأبحاث حديثة العهد التي كانت من علماء الاجتماع في أصل الطقوس الزراعية ومعناها. وما أكثر ما تحضر المعارك وتمثيلات المعارك في الاحتفالات الدينية. وقد درج سكان منطقة شمال إفريقيا منذ الأزمنة الغابرة على أوقات معلومة من السنة يخوضون فيها [في ما بينهم] معارك حقيقية. وأما في ما يرجع إلى العصور القديمة فهذا القديس أغسطين يفيدنا في فقرة غاية في الغرابة أن سكان القيصرية (شرشال) كان من عادتهم أنهم في فترة معينة من السنة يقبلون على مقاتلة بعضهم بالحجارة وأنها اقتتالات تكون بين الأقارب، بله تكون كذلك بين إخوة، وأنها لا تخلو بينهم من قتلى. ويذكر الحسن الوزان أن في فاس «يجتمع الشبان في وقت معلوم من السنة فيتسلحون بالعصي الغليظة ويأخذون يتقاتلون فرقاً حسب الأحياء، ويشتد بينهم القتال حتى إنهم ليلجأون إلى الأسلحة فلا يخلو أن يقع بينهم قتلى كثيرون». ولا يفيدنا هذان النصان في أي وقت من السنة كانت تقع تلك المعارك، لكن ها هي ذي معلومة دقيقة في هذا الموضوع : «قبل أن يقع الغزو، بل وفي أثناء السنوات الأولى من احتلال منطقة الميلية وأولاد عواط وأولاد قاسم، كان من عادة الأهالي في هذه المناطق أن يخوضوا خلال عيد الربيع معارك طاحنة مميتة. إذ يتجمع المتقاتلون من الدوارين في البراح الكبير الواقع وراء تانفدور، فيجعلون خطاً فاصلاً والمحبذ أن يكون في موضع حيث يوجد شريط من أزهار النرجس، ثم يأخذ أفراد العصابتين الفاصلة بينهما مساحة من مائتي متر إلى ثلاثمائة متر في تعبئة أسلحتهم النارية. ويتقدم المقاتلون الجسورون بدورهم يتقدمون ليقطفوا من أزهار النرجس في الشريط الفاصل، فيتلقاهم المقاتلون من الجانب الآخر بطلقات البنادق. وغني عن القول إن كل واحدة من هذه الاحتفالات الشاذة الغريبة توقع في صفوف أولئك المتعاركين قتلى ومصابين ببليغ الإصابات». وإن التشابه بين هذه اللعبة ولعبة الكرة لشيء لافت للنظر.