الحلقة 16 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدةوآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. جري النعام وطيران البازي هما من أمتع أنواع القنص التي يمكن للمرء أن يشتغل بها في هذا العالم! البيزرة يعتبر الصيد رياضة تشريفية عند دكالة؛ فهم يمتلكون الكثير من السلاقي، ويجدون متعة كبيرة في مطاردة الأرانب. وإذا كانوا ولوعين بالصيد فلأنهم يتخذونه ذريعة للسباق بالخيول، بقدر ما يهمهم فيه تقنياته الخاصة. وهم لم يجعلوه لهم علماً قائماً، مثلما كنا كان الأوروبيون يفعلون في العصور الوسطى في صيد الأيائل والخنازير، وإنما الصيد عندهم هو في المقام الأول، فرصة للتباهي وركوب الخيل، كما يفعل المولعون بصيد الثعلب في أنجلترا. ومع ذلك فقد برعوا كثيراً في ترويض الطيور، وعند دكالة يوجد أشهر البيازرة المغاربة. فأنت تجد بين كبار الأعيان، أمثال قايد عبدة الشهير سي عيسى بن عمر [(ه.م) ورد أنه سي عمر بن عيسى!]، بعض كبار المولعين بالبزاة، فلا يقعدون عن دفع المبالغ الطائلة في سبيل الحصول على هذه الطيور. فقد كان، كما يقال، شغوفاً كل الشغف بطيران البزاة، وهو شغف يعسر على بسطاء الناس مثلها أن يدركوا مغازيها، لكنه شعف تؤكده الكثير من الأمثلة الشهيرة. فهذا الجنرال ماركريت، وهو أحد كبار الصيادين الجزائريين، قد قال : «إنني أؤكد أن جري النعام وطيران البازي هما من أمتع أنواع القنص التي يمكن للمرء أن يشتغل بها في هذا العالم. وهواة هاتين الرياضتين يقولون إنهما يعيدان للمرء شبابه، وإنني لمؤمن بهذا الأمر، بفضل المتعة العارمة التي يعودان بها على متعاطيهما، وأنهما تدفعان بالملكات المحركة إلى حدودها القصوى». البزاة وأهل دكالة يميزون بين نوعين من البزاة : «البحري» و»النبلي». ولا تكون سبيل إلى التفريق بين هذين النوعين إذا كانا فرخين صغيرين. لكن النبلي يصير بعد ذلك أطول من البحري وأحمل منه، بعينين كبيرتين سوداوين، ويغدو صدره مع تقدمه في السن مرقط بالكامل كأنه فرو النمر. وهم يستعملون البحري في الصيد في العنصرة (24 يونيو) إلى مارس، ويستعملون النبلي في الصيد من أكتوبر إلى العنصرة، وفي ما تبقى من السنة يبقون عليهما مشدودين إلى وثاقهما. ولا يصيد أي من هذين الطائرين الحبارى، كما يفعل نوع آخر من البزاة في الجزائر. ونجد البزاة الوحشية لدى دكالة، لكن أكثر ما نقع عليها إذا اتجهنا صوب الجنوب، وتزداد أعدادها ابتداء من آسفي. وقد سبق لدييكو دي طوريس أن تحدث قبل أربعة قرون عن «الجبال البيضاء»، يريد بها «الأطلس الكبير»، بأنها بلاد توجد فيها أنواع شهيرة من البزاة. وأما في الوقت الحالي فقد أصبح البزاة أكثر ما تُصطاد في كهوف الأطلس. وعي تكثر في المنطقة بين آسفيوالصويرة القديمة، ولا تخلو منها حتى ضواحي الصويرة، عند مصب وادي القصب. وسمعنا أن البزاة تكثر بطول وادي سوس، خاصة في موضع يسمى تاراست. اصطياد البيزان يسمى البازي الصغير فرخاً، وهو الذي كان يعرف باسم «الأبله» في البيزرة القديمة. فإذا أتم السنة سمي «بوبيت»، وهو المعروف في البيزرة القديمة باسم sors. فإذا أتم السنتين سُمي «بوبيتين». وبصفة عامة فالبازي البالغ يسمى «مكرنص»!، والبازي العجوز يسمى «ماسح». والمغاربة يصطادون البازي بواسطة شباك؛ فهم تشدون أطرافها بثلاثة أوتاد يجلونها على هيأة جوانب المثلث المستطيل. فتكون فتحة المثلث إلى جانب وتر ذلك المستطيل. ثم تضعون حمامة، والأفضل أن تكون حمامة برية، داخل ذلك الشباك، يشدونها بخيط بطول قرابة ذراع، يجعلون أحد طرفيه بإحدى قائمتيها ويشدون طرفه الآخر إلى حجر، بحيث يتيحون للحمامة أن تقفز هنا وهناك. فإذا لمحها البازي جل يحوم فوقها، ثم يهبط حتى يوشك يلمس الأرض ويدخل في الشباك، ثم لا يخرج منه إلا ليدخل في سلة القصب التي يحملها القناص فوق ظهره. ويقول البيازرة المغاربة إن البازي له كبد كبير طافح على جانب جسمه، فينبغي التحرز من لمسه في ذلك الموضع، فإن من شأنه أن يلحق به الضرر البالغ، وقد ربما أهلكه. فينبغي أن يُشد من قائمتيه، ومتى أحكم شده وجب أن يوضع على رأسه برقع أو «قُبُّيل». أساطير بخصوص البيزان ويحكي البيازرة المغاربة أسطورة في هذا الباب تقول : «إن سيدي علي بن بلقاسم، جدهم، قد كانت تخدمه جنية تسمى «آها». فإذا عزم على الصيد أخبر آها فتجمع له كل بيزان الغابة، فيخرج بها للصيد. فكلما اصطاد البازي شيئاً من الطرائد أكله، ولم يقرب الولي منها شيئاً. وعندما استشعر دنو أجله، وتوقع للبيزان ألا تطيع أبناءه من بعده، قام باستدعاء تلك الطيور يوما وقيدها من قوائمها، وقد سألته البزاة عن السبب في ما فعل بها، فقال لإنه موقن من أنها لن تطيعوا أبناءه من بعده. فإذا أحدها يقول له : «غطي لينا عينينا، عين ما شافت، قلب ما يوجع». وكان ذلك هو السبب في ابتكار البرقع. والبازي يحمله صاحبه في سائر البلدان وقد غطى يده بقفاز. ويطعَم باللحم دون ملح، لأن اللحم، حسب ما يفيدنا البيزري الذي أمدنا بهذه المعلومات، لو خالطه ملح، مهما كن قليلاً، فربما أهلك البازي. تدريب الباز والبازي إذا اصطيد امتنع عن الأكل لمدة تتراوح بين ثلاثة أيام وثمانية. ثم يميل بعدها إلى أن يطعم اللحم. ويُتحاشى أن تقدم إليه الشحوم، وإن كانت شحوم الطرائد لا تضر به. ثم يُشرع في تدريبه على ضوء شمعة، ويزيل عنه المدرب البرقع الذي يغطي عينيه ويأخذ يلمسه بيده في رفق؛ فالطائر إذا كان في الضوء الاصطناعي لم يبد مقاومة. ثم إنه متى قبل أن يأكل لم يعد يبدر منه عدوان. فإذا بدأ يتعود على صاحبه أزال البرقع عن عينيه، إلا متى أراد أن يُعمله في الصيد. ويصير الطائر يتعلم أن يعود ليحط فوق معصم صاحبه إذا نادى عليه ببعض الأصوات المحاكية، من قبيل : «هش، ها، هش...» ؛ فقد قال سيد علي : غوتة تردوا ولو في جو السما». وببركة الولي يعود من الأماكن القصية. ويعمر الباز في العادة ثمان سنين. وتُدرَّب كباره على نحو ما تُدرَّب صغار. وينبغي مراقبته، فبدون ذلك تراه كثيراً ما يسعى في استعادة حريته. وقد يتفق أحياناً أن تكون الطريدة أسرع بكثير من المعتاد، بحيث يعجز راكبو الخيل عن اللحاق بها، فتضيع منهم، ويمعن البازي في ملاحقتها، فيبتعد كثيراً عن صاحبه ثم لا يعود إليه. ويقول البيازرة إنه يمكث بقرب فريسته أياماً، ثم يعود إلى موطنه الأصلي. وقد حرت العادة في الجزائر على أن يطلقوا سراح البازي بعد الانتهاء من موسم القنص، فإذا حان موسم القنص الجديد سعوا في البحث عن طيور أخرى، وما أكثر ما تراهم يستعيدون الطيور نفسها التي كانت لديهم، ويظل هذا الأمر يتكرر لسنين عديدة. ولا يحتفظ البيزار إلا في النادر بالطائر المميز من هذه الطيور. البيازرة المغاربة يكوِّن البيازرة، أو «البيازة»، المغاربة ما يشبه الطائفة يرأسها سيدي علي بن بلقاسم. وقد كان هذا الولي يعيش في مراكش، وفيها كانت وفاته سنة 946ه، وذكر آخرون أنه توفي سنة 951ه. وله اليوم ضريح وراء مسجد الكتبية. ويفيدنا مخبرونا أنه ينتسب إلى مولاي إدريس. وقد كان له ولدان، هما سيدي عثمان وسيدي إسماعيل، الملقب ب «بوسجدة»، لأنه كان يختم القرآن في سجدة واحدة. والبيازرة الذين يدعون اليوم الانتساب إلى هذا الولي يعرفون باسم «القواسم» تيمناً باسمه، ويتوزعون على أربعة مراكز، أو أربع زوايا، هي : قواسم أولاد فرج، وزاوية واهلة، وزاوية أوراغ وزاوية سيدي علال لدى أولاد بوعزيز. بيد أن القواسم لا يشكلون زاوية بالمعنى الحقيقي؛ فلس لديهم «ذكر» خاص بهم. ولهم أتباع من بني احسن، غير أنهم لا يُعدون من المنتسبين إلى الولي؛ وإنما شأنهم أنهم خدَّام. لقد كان للبيزرة عند المسلمين، كما كان لها في البلاد الأوروبية، شأن عظيم في الماضي، وأما في الوقت الحالي فما عاد السلاطين في المغرب يقبلون على القنص، لكن لا يزال البيزارون، أو البيازة، يحظون بالاعتبار ويُحسبون على المخزن، ويخصص لهم «مونة» خفيفة. وقد كانوا على عهد مولاي الحسن كثرة كثيرة، وقد أنقصهم الصدر الأعظم راتبهم، ثم اشتكوه إلى السلطان فرده عليهم. وقد حرمهم باحماد الشهير منذ وقت قريب المونة أيضاً، ثم ألزمهم بدفع الضرائب، ويؤكد لنا أحد البيازة أنه قد ظهر حينها سيدي علي بلقاسم للصدر الأعظم في المنام، فتملكه خوف شديد، ولم يتماك نفسه في ذلك اليوم أن يذبح ثلاثة عشر ثوراً استرضاء لذلك الولي، ثم رد إلى البيازة المونة وأسقط عنهم الضرائب. وفي السنة التي سمعت فيها هذه الأخبار، أعني 1902، كان السلطان في الرباط يعطي كل واحد منهم بسيطة في كل يوم. وسمعنا من بعض الأفواه أن عدد البيازة أصبح اليوم لا يكاد يزيد عن الخمسة عشر نفراً. فيكون المخزن له بيَّازوه [(ه. م) يسمون في العربية «بيزارون»]، مثلما كان لشارلمان بيازوه ومثلما كان لملوك فرنسا الضباط العديدون في مجال البيزرة. وبذلك تبدو البيزرة في صورة رياضة ملكية، فالمشتغلون بها في المغرب أو الجزائر كانوا من الملوك، وإلا فمن كبار السادة. ونحن نعرف مدى الحرص الشديد الذي كان النبلاء في فرنسا يحيطون به هذا الامتياز المقصور عليهم، ولذلك بقي اسم «الكونج» مقصوراً على المميزين. وقد كانت البزاة معدودة في الأتاوات الإقطاعية. فكانت بعض المدن البربرية الصغيرة، مثل أكير وأكوز، وهي الداخلة اليوم في ناحية آسفي، تدفع إلى المحتل البرتغالي، فضلاً عن الضرائب، ببعض طيور البازي. وكذلك فالإسبان وقت أن كانوا يتعاملون مع ملوك تلمسان كانوا يلزمونهم بأن يمدوهم سنوياً بعدد معلوم من هذه الطيور. ولاشك أن البيزرة قد كانت نشاطاً مزدهراً في بلدان المغرب؛ كما يدلنا عليها أن المسيحيين كانوا يجلبون إلى هذه البلدان الطيور الكواسر، وأما اليوم فقد نقصت فيها أثمنة البيزان، فصار سعر النبلي غير المدرب لا يزيد عن 75 بسيطة وسعر المدرَّب لا تعدى 100 بسيطة. وأما البحري فهو أقل منها سعراً؛ إذ يتراوح بين 35 بسيطة لغير المدرب و75 بسيطة للمدرب. أصول البيزرة ربما صح أن نعتبر هذه السلالة من البزازرة المنتسبين إلى الأولياء، والهيأة التي تنتظمهم، وهي هيأة ذات طابع أرستقراطي وديني من مخلفات عصر قديم كان لا يزال للبازي فيه يحظى بالتقديس. ولا تزال تجد العرب إلى اليوم يسمون هذه الطائر الكاسر باسم جنسي هو «الطير الحر»؛ ومعناها الطائر النبيل، حسب المعنى الحرفي لهذه العبارة. وقد جاء شتوم والمهتمون بالحضارة المصرية بمقارنة لهذه الكلمة المصرية «الحر» وعلامته الهيروغليفية، البازي المقدس. ومهما بدا لنا في هذه المقاربات من شطط، فلا يجدر بنا استبعادها من قبل أن نتدبر فيها. فقد كان للطيور الكواسر في معظم الخرافات الكبرى طابع إلهي، وهو يقترن في الديانة المصرية [الفرعونية] خاصة بعلاقة وثيقة بإله قديم جداً، يدعى حورس. وقد كانت القوانين الأوروبية القديمة تقضي على من يقتل البازي أو يسرقه بأشد العقوبات، وكثيراً ما تحكم عليه بالقتل. وجاء في أحد القوانين: «أن من حاول أخذ البازي من صاحبه أكل هذا البازي ست أوقيات من اللحم من صدره». وما أيسر أن نجد تفسيراً لهذا التفاوت بين العقوبات والجنحة المقترفة بافتراض الطابع البدائي المقدس الذي كان يُجعل للبازي. ثم إن هذا الطائر قد ظل في كل الآداب الشعبية نموذجاً للنبل والشهامة. وهذا أمر لا يجلنا عليه الاسم نفسه الذي يُعرف به؛ «الطير الحر»،، بل تدلنا عليه كذلك الأمثال التي تتحدث عنه، من قبيل قولهم : «الطير الحر إلى حصل ما يتخبطشي»، وقولهم : «الطير الحر يشكر مباتو»، وغيرهما من الأمثال الداخلة في هذا المعنى... ويجوز لنا أن نستخلص من هذه الوقائع أن التقدير الذي يحاط به البازي والاعتبار الخاص الذي يتمتع به البيازرة يعود بأصوله إلى بعض المعتقدات الدينية القديمة. الدين عند دكالة إن دكالة مسلمون حسنو الإسلام، لكن يميلون إلى شيء من الارتخاء عن القيام بالفرائض والشعائر. ويُحكى أن سيدي علي بن بلقاسم، شيخ البزازرة، الذي تحدثنا عنه، قد أرسل بولديه إلى حاحا والشياظمة ودكالة للاستطلاع حول كيف توقر تلك القبائل أولياءها. فلما رجعا إليه سألهما : «كيف هم أولياء الشياظمة وحاحا؟». فكان جوابهما : «بحال الموس إلا دزت عليهم يذبحوك»، وقالا فيهم كذلك : «بحال النحلة إلا دزت عليها تضربك». ومعنى كلامهما أن أولياء هذه المناطق مرهوبو الجانب، وأنهم ينزلون العقاب الشديد بمن يحط من قدرهم. ثم سألهما عن دكالة، فكان جوابهما : «دايرين مع صلاحهم كالحمير، ما يتفكروهوم حتى يبغيوا يبردعوهم»، بمعنى أنهم لا يسألون في أوليائهم إلا متى دعتهم الحاجة إليهم. ففي هذه الحكاية بيان واضح بالتفكير الديني عند دكالة؛ فهم مسلمون متراخون، وحتى ليبلغ منهم ذلك الارتخاء إلى إهمال أمور الدين، وهذه من الأمور الشائعة عند برابر شمال إفريقيا. ولا يبدو أن للزوايا عندهم حضور كبير؛ فلا تجد لديهم غير بغض قليلة الأفراد من جيلالة وعيساوة ودرقاوة. ولا يلقى هؤلاء الأخيرون قبولاً لدى دكالة؛ فالتشدد الذي يطبع سلوكهم لا يكون مما يتماشى دائماً وطبائع السكان. ولذلك فكثيراً ما تسمعهم يقولون : «درقاوة وطابا ما جابهوم كتاب». التقسيم الإداري لدكالة تتوزع دكالة من الناحية الإدارية إلى أربعة «أرباع». وقد جعلت هذه الدوائر الأربع لتقسم عليها، وجُعل عليها العديد من القياد، فلا يقلون عن عشرة. وقد كانوا قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة لا يزيدون عن قايدين اثنين. ومن المعلوم أن تقسيم البلاد إلى قيادات كبرى قد كان من العناصر الأساسية التي قامت عليها سياسة مولاي الحسن الأول. وقد أصبح القياد يوزعون في الوقت الحالي على الصورة التالية : خمسة في الربع الأول، اثنان منهم على أولاد عمران واثنان على المنطقة المسماة «العونات»، وواحد على أولاد فرج. وثلاثة في الربع الثاني؛ على أولاد بوزرارة، وأما الربع الثالث فيكونه أولاد عامر وليس عليهم غير قايد واحد، وكذلك هو الشأن في الربع الرابع؛ فهو يضم أولاد بوعزيز وليس عليهم كذلك غير قائد واحد. وينبغي أن نزيد إلى هذه الدوائر العشر الدائرة التي تكونها مدينة الجديدة والدائرة التي تكونها مدينة أزمور. فأما الأولى فلا تضم غير المدينة وضاحيتها القريبة، وأما الثانية فتضم أزمور والحوزية وأولاد سالم. طباع دكالة لقد ظل دكالة منذ قرون يرزحون تحت الهيمنة والاحتلال. وهم يدخلون في قبائل الحوز المجبولين على العبودية، ولذلك فكثيراً ما نالهم ابن خلدون بالمشين من القول. وقد غلب عليهم التعاطي للفلاحة حتى صاروا إلى ما يشبه الاستقرار. وهم نشيطون ونبهاء، بل منهم المتبصرون، ولهم مقدرة على شؤون التجارة، ويجيدون الحصول فيها على الأرباح. وهم سهلو الاتصال، وإن يكونوا على شيء من الحيطة والتحرز، فلذلك كان يسهل عليهم الاتصال بالأوربيين. وكما يحدث في سائر مناطق إفريقيا الصغرى، يحدث للذين اتصلوا بالمتحضرين أن يفقدوا بعض الصفات التي لها عند البدائيين منزلة كبيرة، من قبيل الضيافة. فليسوا هم من سيحظى عندهم الجوعى من الرحالة، وقد عرفنا منهم الكثيرين في المغرب، بالضيافة في سائر أنحاء بلدهم، أو يصيبوا لديهم المونة السخية التي جرت العادة أن يخص بها الأهالي الأجانبَ. لكن المال يفتح جميع الأبواب هناك، وكذلك تُعرف نساء دكالة في سائر أنحاء المغرب بأنهن سهلات المنال. وليس من شك في أن هذه البلاد قد كانت من قبل شديدة الغنى. ومن أسف أنها وقعت على عهد الملوك المتأخرين فريسة للنهب من القياد، فإذا هي قد باتت منذ بضع سنين من أفقر المناطق في المغرب. ولا ينعم فيها الأجنبي بالأمان إلا أن يكون من المحميين الأوروبيين. ولكن على الرغم من ذلك، فالبلاد لا تشهد قط تمردات أو ثورات، وهي شديدة الغنى، بحيث لم لا تزال أهلها بأسباب العيش على الرغم من صنوف القهر والاستغلال التي تقع عليهم من المخزن. ثم إن المخزن قد بات منذ حوالي أربع سنين فاقداً لأي سلطان، وحتى ليعجز عن جباية الضرائب. فهذا كان سبباً في تحسن أوضاع الناس في هذه البلاد، فإذا هم شرعوا يبتنون المنازل بالحجارة في كل الأنحاء. -1من كراندو إلى الجبيلات (29 مارس 1901). توقفنا في منتصف الطريق إلى مراكش، بكراندو التي تقع عند مخرج مضيق جبل فطناسة. إن هذا الموضع يشكل «نزالة» تعرف الإقبال الكبير من الزوار، ويعرف خاصة بالأطلال التي لا تزال شاخصة فوق بعض المرتفعات في تلك الناحية. أطلال كراندو تعود هذه الأطلال إلى قلعة محلية قديمة قد كانت تقوم فوق مساحة يمكن تقديرها بعشرين آراً أو نحوها، ولم يبق شاخصاً منها غير جانب من أحد الأسوار، وما عداه حجارة غير متناسقة تتناثر في كل جانب. وأما المحاجر التي منها أخذت تلك الحجارة فلا تزال ترى على مقربة من هذا المكان. ويدلنا الجانب من السور الذي لا يزال قائماً، وكما يظهر من الصورة التي التقطناها له، على أنه بني على الطريقة المحلية الخالصة؛ فقد جُعل من التابية، أو التراب المدكوك. ولا تزال تطالعنا فيه الثقوب التي تركتها فيه الدعامات التي استعملت في شد التراب أثناء ما كانت تجري عملية البناء. بل إن بعض تلك الدعامات قد تركت في عين المكان، ثم نالها التلف، فلا تزال ترى بعضها في تلك الأنحاء. ومع أننا قد تفحصنا تلك الأطلال من كل جانب فإننا لم تستبن فيها ما يدلنا على ذلك البرج الذي ورد الحديث عنه لدى رحالة كثر. وليس من الغريب أن يكون سلاطين المغرب فكروا في تحصين هذا الموضع؛ فهو بشهادات العسكريين ذوي الخبرة لا يعدم أهمية استراتيجية. ومن موضع تلك الأطلال يتبدى لنا المضيق، ويطالعنا حيثما ولينا أوجهنا في الطريق إلى مراكش سهل الرحامنة، عند أقدامنا يتحدر وادي كراندو شاقاً له سبيلاً في ذلك السهل. وعلى ضفتي ذلك الوادي تطالعنا أطلال سور مربع وبئر قد أحكم لها البناء يقال إنها من فعل البرتغاليين. فأما الأطلال فهي تمثل بطبيعة الحال بقايا من سور حديث العهد، وأما البئر فهي من تلك المنشآت التي نلاقيها حيثما حللنا من منطقة الحوز، وهي إنما تدل على أن هذا البلد قد كان بلغ في وقت من الأوقات شأواً بعيداً في التحضر. ولقد كان اسم كراندو مثاراً للبحث والاهتمام من رحالة كثر، وإنهم ليجمعون، لما لا أعرف من الأسباب، على نسبة هذا الاسم إلى البرتغاليين، علماً بأن هذه الكلمة ليس لها معنى في هذه اللغة. ثم إننا قد وقفنا على وثيقة برتغالية تعود إلى القرن السادس عشر وفيها إشارة إلى «قلعة كراندو المهجورة»، من غير أن تأتي في أي موضع منها بما يدفع إلى الافتراض أنه قد كان يقوم في هذا الموضع بناء برتغالي أو أي [شيء يحمل] اسماً برتغالياً. كما أننا نلاقي هذا الاسم نفسه [كراندو] في موضع آخر على الأقل من المغرب، وذلك بحوض وادي زيز. فهنالك موضع يحمل الاسم نفسه، ما لم يكن هو الموضع نفسه المراد بهذا الاسم [في سواه]؛ نريد الموضع الذي يقال له كرانطة؛ حيث نزل عبد المومن في سنة 533ه/1138-1139م، وقد كان، حسبما يفيدنا ابن الأثير، جبلاً وارف الأشجار يشرف على سهل قفر من نبات. فأما السهل الخالي من النبات فالمرجح أن يكون هو سهل الرحامنة، وأن الجبل هو جبل «فطناسة» من قبل أن تعمره الأشجار، مثلما سبق لنا أن دفعنا بمثل هذا الاحتمال في ما يختص بالجبل الأخضر. فإذا صح أن اسم كراندو ليس برتغالياً، فلقد رأينا كذلك أن ذلك البناء ليس هو الآخر ببرتغالي. ومع ذلك فالشائع في الأذهان أن كراندو أنشأه البرتغاليون في القرن السادس عشر. لكن الفقرة التي سبق لنا أن استشهدنا بها للمؤلف البرتغالي المجهول تفيد نسبة هذا الموضع إلى البرتغاليين. والرحالة الذين ذهبوا هذا المذهب في حديثهم عن كراندو إنما أضلهم ما كانوا يسمعون من أفواه الأهالي، هم الذين يجمعون في الحوز على رد سائر البنايات القديمة إلى الرتغاليين. وبطبيعة الحال فقد نسج الأهالي من حول أطلال كراندو، كما نسجوا من حول كل ما اتفق لهم من أطلال ومن خرائب، جملة من الخرافات والأساطير. فلم نعدم من يقول إنه قد كانت هنالك مسالك من تحت ذلك الجبل، وهو شيء لن يستغرب له جماعة الفولكلور، لكن ما يزيدنا استغراباً على استغراب أن نجد بعض الرحالة يزعمون أن مرافقيهم قد جازوا تلك الهضبة من خلال تلك الممرات الأرضية، بل إن منهم من أوشك فيها يضيع.