الحلقة 13 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. العرب والمسلمون كانوا هم الصناع الحقيقون للخراب الذي ناب دكالة! وتنتهي القصبة في الجانب الشمالية الغربي إلى منحدرات أشد وعورة من تلك التي في القسم الجنوبي الشرقي. فلم يكن بد من إقامة جدار ساند في هذا الجانب. والهضبة تنغمس مباشرة في المياه الكدرة للنهر المضطرب الهائج. فأنت ترى أمواجه بعض المواضع تتحطم وسط الصخور في الجرف فتسمع لها قرقعة وانقصافاً، وترى المياه في مواضع أخرى سطحاً مستوياً من غير تموجات، فتدلك على أن النهر هنالك غوير. ولا تزال ترى الضفاف القريبة من النهر يمازجها شيء من الخضرة، وأما ما تبقى من جوانب الوادي فقد عمها الجفاف. وإن هذا الجفاف والنهر الضارب بلونه إلى الدم وتلك المنحدرات القاسية الوعرة تضفي على ذلك المشهد مسحة من الكآبة. ثم ترى نخلة؛ فكأنها نقطة دقيقة وسط تلك اللوحة الغريبة. وفي الجهة المقابلة تقوم على الجانب الآخر من النهر بيوت من الحجارة لا يشدها شيء، فتطالعنا بزواياها الحادة (الصورة 46)، وهي والبيوت القائمة خلف القصبة تؤلف دوار بولعوان، والبيوت المأهولة منها دون الخمسين. وبين تلك الخرائب لا تزال تنتصب ثلاثة أقواس؛ فهي توحي بالأسى وسط تلك اللوحة من الخراب والدمار. وها إننا تطالعنا في هذا الموضع كذلك صورة أخرى مؤلمة لما سبق لنا أن ذكرنا من الانحطاط الذي تردت إليه الحضارة في هذه البلدان الغنية بداية من القرن السادس عشر. وباب القصبة على شيء من التعقيد، فهي عدة محاطة بالكثير من الغرف والزوايا، كما يتجلى من مجسمنا السابق. فإذا دخلنا وجدنا إلى اليسار درجاً يرتقي بنا إلى ما فوق الباب. فإذا جزنا هذه الباب وصرنا إلى داخل القصبة وجدنا إلى اليمين القسم الرئيسي من المنزل الذي يعرف اليوم باسم «دار السلطان»، ومن الواضح أنه قد كان السكن الخاص لسيد القصبة. ويتكون هذه الدار من حوش مستطيل تنفتح على جوانبه غرف طويلة على الطراز الإسلامي. وتقوم من حول ذلك الحوش سلسلة من اثنتي عشرة سارية ذات تيجان في غاية البساطة، وأما الزوايا فتسندها أعمدة مزدوجة. وفي كل غرفة وكل جانب رواق مقوس تزينه تشبيكات من الجبص المقولب وشريط من الكتابات العربية. وهذه الكتابات متماثلة في جميع الأروقة ولا تزيد عن كلمتين تتكرران فيها وهما : «العافية الباقية» (الصورة 44 مكرر). وقد كانت الأرض وأسفل الجدران يزينها الزليج، لكن لم يتبق منه غير الحطام، عدا أنه يبدو زليجاً شديد الابتذال. وقد كانت السواري التي تحف بالحوش تزينها الزخارف نفسها من الجبص والكتابات نفسها التي نطالعها على أروقة الغرف. وأما الأسقف فقد كانت من الخشب المصبوغ، لكنها صارت لا تكاد تستبين فيها آثاراً لتلك الصباغة. وقد كانت تقوم في القسم الجنوبي الشرقي من القصبة مجموعة من المخازن الواسعة والعميقة، لكن يبدو أنها قد تعمقت بعد أن ارتفع التراب من حولها، وقد كان يوجد منها نحو اثنتي عشرة حفرة. وأما الحفر التي كانت في تلك الجانب الشمالي الشرقي فقد انطمرت؛ لقد كانت مجموعة من القباب الطويلة المتوازية ينفذ إليها الضوء من القسم العلوي، يبلغ طول الواحدة منها حوالي 20 متراً وعلوها بين 6 و7 أمتار. وقد باتت تلك القباب اليوم متهدمة من جوانب عديدة. وإلى جهة الزاوية الشمالية من السور كان يقوم بناء بطول 33 متراً، وهو الآن من غير سقف. وقد جعلت في داخل ذلك البناء حواجز من جدران شديدة الارتفاع ومفصولة عن بعضها. والرواية المحلية تقول إن المكان كان من قبل سجناً، وقد رأينا هنالك بعض المراحيض، لكن الدراسة المعمقة لمعمار القصبات المغربية هي الكفيلة بالإتيان بجواب لهذه القضية. وفي وسط السور الشمالي الشرقي من القصبة ينتصب برج دفاعي مستدير، وأما الأبراج الأخرى فمربعة كلها. وفي الجانب الشرقي لا يزال المسجد قائماً، وهو في حالة جيدة. ولا تزال الصومعة بوجه خاص تنتصب بالتمام والكمال، ولا يزال بالإمكان الصعود إليها. وداخل المسجد قد شيد على طراز شديد الخشونة، فالأقواس لا يزينها زخرف، وهي تقوم فوق أعمدة مربعة وغليظة. وفي الفناء المجاور يقوم ضريح سيدي منصر (حسب النطق المحلي) تعلوه قبة واحدة مخروطية، وبداخلها نعش، وجميعها تبدو في حالة لابأس بها. وفي الجهة الجنوبية الشرقية من القصبة يقوم خارج ذلك المسوَّر ضريح آخر صغير من الحجارة لا يشدها طين، ويعرف باسم سيدي علي بناصر، ومن الجانب الشمالي الغربي في موضع بعيد عن القرية وراء القصبة، تلتمع على بعد بعضة آلاف الأمتار من هذا الموضع قبة سيدي عمارة بهيأتها البيضانية. والذي يبدو لنا من الوصف الذي جئنا به لهذه القصبة أن تاريخ بنائها يعود إلى بداية القرن الثامن عشر، لكن وجدنا الحسن الوزان ومارمول ينسبان بناء القصبة إلى عبد المومن. وربما ذهبنا إلى الافتراض أن مولاي إسماعيل قد اقتصر عمله في هذه القصبة على الترميم، فليس في الكتابة التي على القصبة ما يدل على أنه الباني لها. لكن يبدو لنا أن التمعن في هذا البناء سيجعلنا نستبعد الفرضية القائلة بأن عمل مولاي إسماعيل قد اقتصر منه على الترميم السطحي. بل يغلب علينا الاعتقاد أنه قد جاء لها بإعادة البناء. ثم إننا يغلب علينا الاعتقاد، وكما ذكر ث. فايشر، أن تلك العملية من إعادة البناء قد قام بها، أو قام بنصيب منها، الأسرى المسيحيون. فالحجارة الكبيرة المقدودة التي استعملت في البناء تدل على أنها قد تولاها الكثير من الأيدي الماهرة. ومن المعلوم أن مولاي إسماعيل قد سخر للأبنية العظيمة التي كان ولوعاً بتشييدها الآلاف من الأسرى المسيحيين. والراجح أن تكون هذه المدينة قد هجرها سكانها فراراً بأنفسهم من البرتغاليين، حسبما يفيدنا الوزان، فصارت إلى تهدم وانهيار. وعلى الرغم من المدينة قد أعيد تعميرها على زمن مارمول، فإن القصبة بقيت دون شك خربة ولو في أجزاء منها، إلى عهد مولاي إسماعيل، وأنه قد تنبه إلى القيمة الإستراتيجية لبولعوان فأعاد بناءها من جديد. والقصبة تقوم في موقع حصين، فكانت الحكومات التي تعاقبت على المغرب تجد جميعاً ضرورة لاحتلالها كلما تحققت لها السيطرة الفعلية على البلاد. إن الرواية التي كانت شائعة من قبل على أن عبد المومن هو من بنى [قصبة] بولعوان لم تعد تجد الآن من يقول بها بين سكان هذه الناحية؛ بل إنك لا تجد بينهم من لا يزال يعرف حتى باسم ذلك السلطان الموحدي الشهير. بل يقولون إن من بنى القصبة هو «السلطان الأكحل». فهذا يمدنا بسبيل رابعة ربما ساعدتنا على التعرف إلى هذا السلطان الأكحل الشهير الذي سبق لنا الحديث عنه. ولا يبدو لنا هذا التحديد ببعيد كلياً عن الاحتمال؛ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن مولاي إسماعيل كان يميل بسحنته إلى السواد، وأنه قد كان من كبار البناة. ولا تزال تسمع سكان بولعوان يقولون إن القرية التي تقوم على الضفة اليمنى للنهر، قبالة القصبة، أقدم عهداً من تلك القائمة خلفها. ويقولون كذلك إنهم يعودون بأصولهم إلى سوس، ويحكون أن أحد سلاطين المغرب قد تزوج من فتاة من سوس واسمها بولعوان. وقد طلبت منه العروس أن يخصها بأرض لتقيم عليها والديها. فصعد بها السلطان حتى جاء إلى الربوة التي تقوم عليها هذه القصبة، وقال لها : «إن هذه الأرض كلها لك ما وسع منها بصرك». وهنالك أقام قصبة لأسرة زوجته. مشرع الكرمة (10 يونيو). انطلقنا في حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال نريد المعبر الذي في مشرع الكرمة، والمسمى كذلك مشرع بولعوان، فسلكنا لأجل ذلك الطريق نفسها التي سرنا فيها في اليوم الذي قبلُ، لكن في الاتجاه المعكوس. وقد سبق لنا القول إنه معبر مزدوج؛ فالناس يعبرون وأمتعتهم في موضع يكون فيه النهر ضيقاً، لكن عميقاً، على متن معدية من القِرب، فيما تجوز الدواب النهر في موضع أقل عمقاً، هو المعبر الحقيقي، يركبها أهالي تلك الناحية. ويبذل السكان الجهد الجهيد في التناوب من على ضفة النهر على مساعدة العابرين له ويقبضون منهم رسماً يصعب تحديد مبلغه، لأن عملية التحصيل تبدو لي في غاية الاعتباط. وقد طالبونا بعشرين بسيطة مقابل عبورنا نحن الثمانية وما بأيدينا من الدواب؛ وهي حصانان وخمسة بغال وحماران، فكان لمرافقي المسلم معهم مساومة طويلة ونبيهة، تم الاتفاق بعدها على أن يكون المقابل دوروين اثنين، وهو سعر لا يبدو لي باهظاً، علماً بأنهم سيقومون بنقل الأمتعة التي بحوزتنا بتقسيمها إلى أحمال صغيرة. وقد أخبرنا المأمورون بالعبور في ذلك اليوم أن ما النقود التي يحصلونها من هذه العملية يسلمونها إلى القايد الذي يدفع بها إلى المخزن. ولا حاجة إلى القول إن جميع المشتركين في هذه العملية يحتفظون منها بشيء من ذلك المال. وسكان هذه الناحية في غاية الحذق والدهاء؛ وقد اهتبلت عملية العبور التي طالت ساعتين ونصف الساعة لأتجاذب وإياهم أطراف الحديث. ولقد أعجبهم سكيني ذو الشفرات الكثيرة، كما أثار فضولهم لباسي من القطيفة، وسمعت أحدهم، وكان أنبه من الآخرين، يقول لهم إنه هذا اللباس مصنوع من خيوط الدوم، وإن المسيحيين يتقنون صناعة الدوم، فهم يصيرونه إلى حرير! عبور أم الربيع وقد كان في نية المخزن أن ينشئ في مخاضة مشرع الكرمة القنطرة التي سبق لنا الحديث عنها، وبالفعل فقد رأينا في طريقنا بعد عبورنا للنهر مجموعة من الحجارة التي شرِع في قدِّها، غير أن هذا المشروع لم يكتب له التحقق، ناهيك عن معارضة الأهالي لبناء هذه القنطرة التي ستحرمهم مصدراً للعيش. وقد عدنا لننصب خيامنا قبالة قصبة بولعوان، على الجانب الآخر من الوادي. إنه قرية مماثلة للقرية التي تقوم وراء القصبة. فسكان القريتين يرتبطون بعلائق القرابة فهم لا يفتأون يعبرون الوادي للتزاور. وقد وجدت هنالك الأهالي الذين رافقوني صباح هذا اليوم وأنا أضع تصميما للقصبة، فقد رأوا خيمتي في هذا الموضع فأسرعوا إلى عبور النهر. وقبل مغيب الشمس ذهبنا لرؤية الأروقة شبة المهدمة التي أشرنا إليها في ما سبق. إنها أبنية في غاية البساطة لكن متقنة البناء قد استعملت فيها حجارة قدت اعتُني بتقطيعها وزينت بتشبيكات المستقيمة من الجبص. وأما ما تبقى من المسجد فهو من حجارة كبيرة لا يلحم بينها لاحم وتبين عن كثير من الخشونة. والمحراب بالغ الصغر قد شيد من نوع من التراب، والمسجد قد جعل على نظام سيء، فهو يقوم على صف واحد من الأقواس ولا تقوم فيه غير سارية واحدة غليظة قبالة المحراب تماماً. وتوحي لنا هذه المكونات مجتمعة بأن في هذا الموضع كان يقوم في الماضي بناء أكثر أتقاناً وأوسع مساحة، لكن ناله الخراب ثم أعيد ترميمه على هذه الصورة الخشنة. في بلاد الشاوية (11 يونيو) واصلنا مسيرنا في بلاد الشاوية، وسوف لا نعيد الحديث عنه في هذا الفصل الخاص ببلاد دكالة. وحسبي أن أذكُّر بأن الرغبة في الوقوف على المدن القديمة التي ذكرها الحسن الوزان بطول وادي أم الربيع قد وجهت خطاي صوب موضع من الشاوية يعرف اليوم باسم تامراكشييت [كذا يجعلها تامراكشييت Tâmerrâkchyiet]. فالحسن الوزان يتحدث عن مدينة باسم «تامراكوست» (Temeracost)، وترد عند مارمول باسم «تامراكوش» (Tamarracox) ، والواضح أن هذا الاسم إنما هو صيغة بربرية لاسم مراكش. وعلى الرغم من أن هذين المؤلفين يجعلان موقع المدينة على الضفة اليسرى من وادي أم الربيع، فإن التشابه الحاصل في هذا الاسم يوحي إليَّ بأنهما ربما يكونان قد أخطآ القصد، وأنهما يريدان مدينة أخرى في الشاوية تعرف بالاسم نفسه تمراكشيِّيت. ويزيد من هذا الاعتقاد لدينا أننا سمعنا في الوقت نفسه أن «تاركا توجد غير بعيد عن هذا المكان. والحال أن من بين القرى التي ذكر الوزان ومارمول وجودها على أم الربيع توجد كذلك «تاركا». لكن الخيبة التي كانت تنتظرنا يمكن أن تقوم لنا دليلاً إضافياً على مدى عبثية التحديدات التي يؤتى بها بالاعتماد على مجرد أسماء الأعلام. تامركشت فتاركا، وهي موضع يقوم على الحدود بين المزامزة وأولاد الصامد، إحدى فخدات أولاد سعيد، وإن هي إلا عين ماء جميلة زاخرة بالماء تحيط بها الصخور، لكن لا تجد بها أثراً لأطلال أو خرائب. وأما تامراكشييت فهي توجد في بلاد صامد، على بعد حوالي عشرة كيلومترات إلى اثني عشر كيلومتراً من تاركا، وهي لا تزيد عن موضع تقوم وسط السهل منه صخرة لافتة للأنظار قد سبق لنا أن تحدثنا عنها على سبيل التمثيل، ويوجد بها كذلك غدير ودوار. ولذلك فما كان أعظم خيبتنا عندما جئنا إلى ذلك المكان! فلم نلق هنالك أطلالاً، ولا وجدنا شيئاً يدلنا على المدينة المنسية التي كانت تحمل اسماً مجانساً لاسم مراكش الحمراء، تلك المدينة المحصنة التي صورها لنا كل من الوزان ومارمول. وعبثاً كابرت في البحث، وأمضيت نهاراً كاملاً أستكشف تلك النواحي، فما وقعت على حجر يدلني على أي بيت يكون قد أقيم في هذا المكان. وكل ما سمعنا أنه توجد على مقربة من هذا المكان بئر حفرها البرتغاليون، لكنني منذ شهور وهم يشيرون إليَّ على آبار بزعم أنها من فعل البرتغاليين، وقد سئمت من هذا النوع من الاكتشافات التي سأعود إليها بالحديث في ما يقبل من هذا الكتاب. وقد سألنا عن السبب في تسمية هذا الموضع تامركشيِّيت، فحصلنا على هذا الجواب : «مراكس ما بغات تبنى هنا». وقد استفهمنا من مستجوبِنا، فقص علينا هذه الخرافة : عندما اعتزم مؤسسو مراكش بناء هذه المدينة وقع اختيارهم على الموضع حيث توجد اليوم تامركشيِّيت، وهنالك ارتقبوا «الفال»، فأول صوت سمعوه كان لرجل ينادي أو خاله بقوله : «لا خالي». والحال أن «خالي» تعني «قفراً، وخالياً»، بما يعني أنه فأل سيئ، فرحل مؤسسو عاصمة الحوز هذه الناحية وزادوا إمعاناً في الاتجاه إلى الجنوب. فلما جاءوا إلى سهل تانسيفت أعجبوا بذلك الموقف، فتوقفوا من جديد في انتظار فأل. وقد كان أول صوت يسمعونه لرجل ينادي على آخر بقوله : «آلعامر». وكلمة «عامر» كلمة واسعة الانتشار، وهي متأتية من جذر تجتمع مختلف مشتقاته على معنى «الفلاحة والازدهار والحضارة...». ولذلك قر قرارهم على اختيار ذلك الموضع، وفيه ابتنوا مدينة مراكش. الجبل الأخضر يوجد الأجبل الأخضر على حدود بلاد دكالة إلى الجنوب الشرقي، وهي القسم الوحيد من هذه المنطقة الذي لم يسعفنا الوقت بزيارته، وقد أسفنا للأمر كثيراً. فهذا الجبل له شهرة في التاريخ وفي الأساطير. فهو أولاً جبل مبارك، وقد أفرد له كل من الحسن الوزان ومارمول فصولاً غير قليلة من كتابيهما، وقالا عنه إنه مأوى للكثير من العبادة والنساك. ولا يزال هذا الجبل إلى اليوم، حسبما يذكر لنا الأهالي، مقاماً للكثير من أولياء؛ فهم فيه يحيون حياة العزلة، ولا ينزلون منه إلا لطلب الصدقات. والسبب في عدم زيارتنا له أننا كنا كلما أعربنا لرفاقنا في هذه الرحلة عن رغبتنا في زيارة هذا الجبل لم نلق منهم رضاً ولا قبولاً. وما أكثر ما سمعنا منهم أن المسيحيين لا ينبغي لهم أن يصعدوا هذا الجبل. وكذلك يذكر الأفراد المكونون للبعثة التي رافقت فايشر في سنة 1901 أن الجبل له طابع مقدس، وأنه يسكنه الزهاد والنساك. والناس لا يفتأون يحجون إليه، ويكثر الزائرون له خاصة في العيد الكبير. وقد كان في نية فايشر أن يقوم باستكشاف لهذا الجبل، فصرفه عنه مرافقوه، ثم التقى غير بعيد عنه عدة زرافات كبيرة من الزائرين له وقد بدت عليهم سيماء التعصب، وكانوا عائدين منه في وقت العيد الكبير على وجه التحديد. مع ذلك فقد أفلح العالم الأثري الفرنسي بريف في أواخر تلك السنة في عبور أو المرور إلى الجبل الأخضر من غير أن يلقى معيقاً. وما وجدناه تحدث بشيء عن قداسة الجبل، ولا تحدث عن النساك الذين سمعنا أنهم لا يزالون يقيمون فيه. وفوق ذلك، فسواء أكان أولئك الصُّلاح لا يزالون مقيمين في هذا الجبل المقدس، أو إنهم ما عادوا سوى ذكرى من ذكريات الماضي، فلا يغير من الأمر شيئاً؛ فلا يزال للجبل الأخضر، كما سنرى في ما يقبل من هذا الكتاب، يحتل مكانة مهمة في الكتابات المناقبية المغربية. وما أكثر الأولياء الذين يُرد نسبهم إلى هذا الجبل، والثابت أن الجبل الأخضر قد اضطلع بدور المركز للإشعاع الديني. وقد ذهب معظم المؤلفين إلى أن الجبل الأخضر لم يعد يستحق، على الأقل في الوقت الحاضر، أن يسمى بهذا الاسم؛ والحقيقة أنه لم يكن بالأخضر في جميع الأوقات، وهذا أمر نقف عليه بالعودة إلى ما كتب الوزان ومارمول؛ فهذان المؤلفان اللذان يصوران لنا الجبل الأخضر تكسوه غابات، وقد زالت عنه اليوم فما عاد لها وجود. وإذا أشجار أشجار البلوط والصنوبر التي كانت تعمره في الماضي قد حلت محلها غيضات منفرة من الطلح والرتم. بحيرة الجبل لخضر ولا يزال الجبل الأخضر يحفل، في ما يبدو، بالكثير من عيون الماء، ولا يزال في سفوحه الكثير من الضايات، لكن أين يا ترى تلك البحيرة العظيمة التي صورها الحسن الوزان، والتي قال عنها إنها تعج من الأسماك بحيث يستطيع المرء أن يصيد فيها بيديه الأنقليس وغيره من أنواع السمك؟ وقد ذكر الوزان أن تلك البحيرة كانت كبيرة بقدر بحيرة بولزينا [(ه. م) بحيرة Bolsena بحيرة بركانية وسط إيطاليا]. وقد خرج إليها أحد السلاطين المرينيين من مدينة فاس، وأقام بها ثمانية أيام، فكان يوزع وقته بين مقامه الصيد والقنص الممتعين، إذ كانت الغابات وكان الجبل حافلين بشتى أنواع الطرائد الطائرة و السائرة. ونميل اليوم إلى الاعتقاد بأن هذه الروايات الجميلة لا تعدو أن تكون من بنات الخيال إذ لم تخلص الأبحاث الهامة التي أنجزها بريف إلى ما يجعلها قريبة إلى الاجتمال. فقد درس هذا العالم الأثري نظام المياه في الجبل الأخضر وخلص من ملاحظاته إلى أن المياه فيه كانت إلى وقت غير بعيد تصل إلى وادي أم الربيع، وأنه قد كان من المفترض أن تكون المياه الآتية من الجبل أكثر من ذلك المقدار، ويحتمل أن يكون السبب راجعاً إلى كثرة الغابات فيه. وأما اليوم فقد بات الجبل لا يدفق فيه من المياه ما يكفي ليجعل فيوضها تشق لها مساراً [نحو وادي أم الربيع]، فهذا أدى إلى تكون فرشاة ن الطمي والحجارة الملساء التي صارت تكتسح الأراضي الفلاحية. فالمياه التي تنزل على هذه التربة الصوانية تنفذ إليها بسرعة وتترك السطح جافاً أجدب. ويمكن أن نخلص من هذه الملاحظات الهامة التي جاء بها بريف إلى أن بين الزمن الذي كانت فيه أودية الجبل الأخضر تصل إلى وادي أم الربيع والوقت الحالي الذي صارت فيه لا تزيد عن فيض من غير مخرج، مر زمن صارت فيه المياه دونما قدرة على البلوغ إلى النهر، بيد أنها كانت لا تزال وافرة فكانت تنتشر إلى بحيرات عند سفح الجبل؛ وإلى ذلك الوقت يعود حديث الحسن الوزان عن تلك البحيرة العجيبة والصيد الذي كان يصيب فيها. مناخ دكالة لا نملك معطيات منسجمة بشأن المناخ في دكالة، غير أن المعطيات التي أمكن لنا الوصول إليها في الدارالبيضاء تسمح لنا بتكوين تصور عن مناخ هذه المنطقة. فالمناطق الساحلية نفسها تعرف حرارة على كثير من الاستقرار؛ فهي لا تنخفض إلى ما دون + 5° شتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق + 30° صيفاً. لكن هذا الفرق يسير إلى اتساع بما نبتعد عن البحر. ومن المحتمل أن تكون المناطق التي تنتهي عندها الهضبتان تشهد فترات من الصقيع الأبيض الذي يتواتر عليها شتاء وتبلغ حرارتها القصوى 45° صيفاً. وقد أشار وايسجربر وفايشر إلى الجفاف الشديد الذي يطبع الهواء على الهضبة العليا. ويبتدئ موسم الأمطار في شهر أكتوبر وينتهي في شهر أبريل. وتتخلل فصل الشتاء، وعادة ما تقع في شهر يناير، فترة جفاف قصيرة، وهي شيء مألوف في الجزائر، وقلما تغيب عن هذه المناطق. ومن الحسنات التي يتميز بها مناخ الحوز، ويتميز بها مناخ المنطقتين الوسطى والشمالية من المغرب بوجه عام قياساً إلى المناخ في الجزائر، أنه مناخ تندر فيه تلك الظاهرة المناخية الغريبة والغامضة التي تعرف باسم «السيروكو».