الحلقة 10 يعتبر إدمون دوتي (1867-1926) من أبرز الكتاب الأجانب الذين اشتغلوا بالتعريف بالمغرب في إطار مهام استطلاعية واستعمارية معلومة. أصدر إدمون دوتي كتابه «مراكش» في سنة 1905، فكان واسطة بين مؤلفاته السبعة,. وهو كتاب ذو ملمح رحلي، جاء يرسم مسار مؤلفه الذي قاده من الدارالبيضاء إلى أبواب مراكش، مروراً بالجديدة وآسفي ودكالة وبلاد الرحامنة وبلاد الشاوية. وقد جاء الكتاب في فصول ثلاثة واشتمل على مجموعة كبيرة من الصور التي يعود معظمها إلى المؤلف نفسه، وجاء حاملاً طابع أكاديمية الرسوم والآداب الجميلة. إنه كتاب يصور جانباً كبيراً من عادات وتقاليد المغاربة في ذلك الزمان وجانباً كبيراً من معاشهم، ويجعل حاجة كبيرة إلى ترجمته للقارئ المغربي المعاصر. الأهالي في منطقة شمال إفريقيا ينفرون من كل ما يدخل في الإحصاء والعد والتقدير جبل فطناسة (29 مارس). كان انطلاقنا في الساعة الخامسة وخمس وثلاثين دقيقة صباحاً ووصولنا في الساعة السادسة واثنتي عشرة دقيقة إلى سيدي رحال، وهو دشر جميل به مجموعة من النوايل، وقطعان عظيمة من الماشية ويسوده جو من الحيوية العارمة. وبعد خمس دقائق طرقنا الشعاب التي يشيع عند الناس أنها شعاب الجبل الخضر، وهي في الحقيقة شعاب جبل فطناسة. وأما الجبل الأخضر فهو إنما يأتي امتداداً لهذه السلسلة على بعد نصف مرحلة في اتجاه الشمال الشرقي. والشِّعب ليس بالواضح جداً، والجبال قليلة ارتفاع (فلا يزيد ارتفاعها عن 100 متر فوق الهضبة)، وهي كلها مزروعة، ولا تكاد ترى فيها أثراً لغابات، وتبدو الأرض على هيأة سلسلة من التلال الخضراء. وبعد ثلاثة أرباع الساعة مررنا بقرب دشر كبير ولاحت لنا قبة وليه، سيدي عبد الله الحواوي بقرب الطريق، وقد جعل له كركور على جان الطريق. واسم هذا الولي، الذي يعني «المنتسب إلى أولاد حواء» (فحوَّاء في العربية الفصحى تعني ابن حواء) مثار لتوريات مخلة بالحياء أو أخطاء فادحة من لدن المسلمين الأميين، لأنهم ينطقونها «حوَّاي»، أو يحرفونها متعمدين على هذا الوجه. ذلك بأن هذه الكلمة لها في المغرب معنى فاحش، وقد سمع بعض الأوروبيين هذه الحماقات فوقعوا في هذا الصدد في كثير من الأخطاء الغريبة. ويُعرف باسم أولاد حواء كثير من الفخدات والقبائل، وهذا الاسم شديد الشيوع في منطقة شمال إفريقيا. وما كدنا نجاوز هذا الموضع حتى تراءت لنا كراندو. 2. بلاد دكالة يطلق العرب اسم «حوز مراكش» على المساحات الواسعة والرتيبة من الأراضي التي تكون ما يسميه ، أو يسمونه اختصاراً «الحوز»، أي بمعنى أقرب إلى «الإقليم». وقد كانت هذه المناطق في السنين الأخيرة موضوعاً لمجموعة من الدراسات الجيولوجية والجغرافية أكثر عمقاً من الدراسات التي تناولت سائر الجهات والمناطق في المغرب. فالرسوم التي وضعها القبطان لاراس قد أرست خرائط بجميع الخطوط الأساسية لهذه المنطقة. وجاءنا فايشر في رحلاته الممتعة بتصور إجمالي لجغرافيتها المادية، بالمعنى الأوسع والحديث لهذه العبارة. ثم جاءنا بريف في جولاته الجيولوجية بتصوير بليغ لطبقاتها الجيولوجية. وأما فيما يخصني شخصياً فإنني لم أزد على أن أفدنا خلال رحلاتنا من النتائج التي تحصلت لهؤلاء العلماء، ولا نزعم أن نأتي لها ههنا بما يتممها. ووحدها الملاحظات ذات الصبغة العراقية والاجتماعية التي سنأتي بها في ما يقبل من هذا الكتاب يمكن اعتبارها في قسط كبير منها من بنات أبحاثنا الخاصة. بل إن هذا الأمر لا ينطبق حتى على هذا القسم الحالي من كتابنا، لكن يجدر بنا أن نشير إلى أن الصفحات القابلة كانت، في ما عدا الأسطر القليلة التي جئنا فيها بعرض جيولوجي مختصر، قد أنشأناها في عندنا ولم نرجع فيها إلى سوانا من المؤلفين. وتشكل المنطقة القائمة بين جبال الأطلس الكبير في الجنوب والأطلس المتوسط في الشرق والبحر المحيط ما يسميه فايشر «مقدم البلاد»، أو «Vorland» الأطلسية، وهو ما نسميه في الجزائر ب «الهضبة الواقعة جنوب الأطلسي». وهي مساحة شاسعة تتكون من منخفضين متراكبين قد انتبه إليهما جميع الرحالة، حتى أولئك منهم قليلي اهتمام بشؤون الجيولوجيا. فأما المنخفض الأول فهو دون 300م، وأما الثاني فدون 600م. ويفصل بين المنخفضين رصيف يتكون من سلسلة مرتفعات، يدخل فيها الجبل الخضر وجبل فطناسة. ومن فوق المنخفض الثاني تقوم بقايا منخفض ثالث، خاصة عند الجبل الأخضر ثم عن جبل بني مسكين، وأخيراً عند سلسلة الجبيلات الرائعة. جيولوجية الهضبة يتكون المنخفض الأول حسب بريف من سلسلة الأراضي التالية : ج : الكثبان الحالية. ب : الدهر الرابع : صلصال رملي في هيليس. الإرسابات الأفقية الكلس - أ – العصر القريب – الصلصال - الحشَّاد (فجوة مشابهة التعريات التي أحدثتها البحار السابقة). 1-الترسبات المستخرجة : النضيد السيلوري شديد التموج، وشديد النتوء وقد يكون أحياناً شديد الاختلاط. وهذا النضيد القديم تتجه ثناياه شمالاً 20° شرقاً. وهو يمثل مخلفات سلسلة هرسينية قديمة كانت تمتد من الجنوب وحتى الصحراء، وتشكل ثناياها، التي كان فلامان أول من اكتشفها في أقصى الجنوب الشرقي من مدينة وهران، وفي آخر المطاف تناولها بريف بالدراسة على صعيد المغرب وأ. ف. كوتيي على صعيد الصحراء. ومن المعلوم أن اليابسة الهرسينية قد بلغ أوج اتساعها في العصر الكربوني. وعلى جوانب هذه اليابسة أو في بحيراتها الداخلية تكون الفحم الحجري. وكذلك كان في اكتشاف الثنايا الهرسينية في منطقة شمال إفريقيا ما بعث آمالا جديدة بعض الأمل في احتمال وجود مناجم للفحم الحجري. والذي يبدو أنه كان في الإمكان أن يوجد الفحم الحجري في بعض الجهات من هذه البلدان، فينبغي أن نبحث عنه في المغرب وفي الصحراء. وإذا كنا لم نقع في المنطقة التي تهمنا على أرض حاوية للفحم، فالأمر لا ينطبق على الجنوب وعلى الصحراء. فقد وقف فورو في أزدجر الصحراء ووقف فيشور في الصحراء ولينز في درعة على هذه النوعية من الأراضي. وبينما يقع البيلوسين في السطح الأول مباشرة فوق النضيد القديم، فإنه في السطح الثاني فإن الميساني هو الذي يغطي السلسة الأولية، إلا من بعض الأطراف الأوسينية والجوراسية التي تتبدى في بعض الجوانب منه. وفي الأخير فإن الجزيرات التي في الجبل الأخضر وفي بني مسكين والجبيلات قد تشكلت من ترسبات أيسونية فجرية. وتغطي السلسلة الهرسينية. وعليه فإن هذه الجزيرات قد انبثقت من البحر الميساني الذي كان يصل حتى جبال الأطلس، فأزال عن الهضة الهرسينية غطاءها الثاني والأيسوني ووضع عليها ترسبات جديدة. وأما في العصر البليوسيني فقد صار البحر لا يطول غير السطح الأول. وتقوم بلاد دكالة على قسم من هذا السطح الأول، وتمتد على قسم كبير من السطح الثاني، ناحية الجبل الأخضر. فهذا جعل دكالة تبدو في مظهرين مختلفين، يسهل أن نجد لهما تفسيراً في الوصف الأثري المقتضب السالف. تلال وكلس والمنطقة الساحلية المتكونة من كثبان ومن كلس هلسيني هي التي نوجد فيها الآن بين الدارالبيضاء وأزمور. ولقد أشرنا إلى وجود غابات المصطكا في هذه المنطقة، وأما أبرز نباتها فهو «الرتم»، وهو ينتشر بطول الساحل الأطلسي. والتربة في هذه سائر هذه النواحي رملية، وفي معظمها حمراء، وتكون في بعض الجهات منها يخالطها شيء من الحصى. وهي مواتية للفلاحة. وقد رأينا أن الأهالي يقبلون فيها خاصة على زراعة الحناء. ولا تفتقر المنطقة إلى عيون الماء، وإن لم تكن بالكثيرة المياه. وقد ذكر بريف، الذي خص هذه المنطقة بالدراسة، أن المياه فيها عذبة على الدوام. وأنا أورد رأي هذا العالم، لأن سوء الحظ قد شاء لي ألا أشرب في المنطقة بين الدارالبيضاء وأزمور إلا من ماء واحد، في عين كديد، وقد وجدته شديد الملوحة والمرارة. ولربما كانت هذه الناحية استثاء، ذلك بأني وجدت الماء في غير هذه المنطقة من الساحل كله من ذلك العذب الزلال. الساحل وأكثر ما تجد في المناطق الداخلية من هذه البلاد التربة متحجرة ورملية وحمراء. وتلك هي التربة التي يسميها المغاربة «الحمري»، ومعظمها يتحصل من تحلل الحجر الرملي والصخر الميساني. وإن ساحل الدارالبيضاء يتكون في معظمه من هذه التربة، وهي تربة ملائمة كثيراً لزراعة الكرم. ويعتبر البرواك أهم النباتات التي تصلح لهذا النوع من التربة. وها هو ذا تحليل لعينة من هذه التربة، أخذتها من ضواحي الدارالبيضاء. الخلاء، التيرس لقد صمدت أنواع التربة الكلسية المسانية [(ه. م) نسبة إلى العصر الثلاثي المتوسط] في معظم الأحيان لعوامل التعرية، فهذا جعل التربة تكتسي طابعاً صخرياً، فقلما تصلح للزراعة. وذلك هو الشأن في مناطق عديدة، حيث نرى القشرة الكلسية الشائعة في منطقة شمال إفريقيا وقد غطت التربة بغشاء خشن. فالبلاد التي تتعرض التربة فيها لهذه الظاهرة لا تعود تصلح لغير الرعي. ويكون النبات الغالب في هذه الحالة هو النخل الصغير، وهو نبات نراه كذلك في الأراضي التي يغطيها الحمري. وهذا أمر نراه أوضح ما يكون في «الخلاء» الواسع، أو المساحات الشاسعة غير المزروعة، التي توجد في نواحي زاوية سايس. وأخيرا، فغن عوامل التعرية المتعددة قد عرت السلسة الهرسينية وتسببت ي تفكك الشيست القديم على الأرض الأكثر طينية ذات اللون الأسود المائلة أحيانا إلى الزرقة وذات الخصوبية اللافتة والاستثنائية المعروفة تحت اسم «التيرس» الذي كان فايشر اول من وصف خصائصه. أصول التربة السوداء غير أن هذا العالم لم ينظر إلى المسالة كما نظر إلهيا بريف بان أصل هذه التربة السوداء يعود خصيصا إلى تفكك الشيست القديم. فقد لاحظ أولا أن تقيسمات التيرس تماثل نتوءات الشيست، ووقف في عدة أماكن بدكالة وعبدة على أنت التربة السوداء تتموضع سواء فوق تكوين رسوبي كلسي أو فوق صلصال رملي بليوسيني، أو حتى فوق قشرة كلسية وحسب مجالات التيرس التي لم تكن بالضرورة منخفضات واستنتج في الخير أن الكميات الهامة من الرمل المستديرة تماما التي ظهرت في التحاليل تؤكد أن الرياح وحدها هي التي كونت هذه التوضعات. لكن بريف يذهب عكس هذا الاتجاه ويقول بان القطع التي يوجد بها التيرس هي بقايا «غدير» كما يقال في إفريقيا الشمالية، ويذهب إلى أن في كل مكان تظهر فيه الشيسات القديمة يتكون التيرس، وأكبر نسبة من المواد العضوية الموجودة في هذه التربة تجعله يقارن بشيء مشابه لما يحدث في ترباتنا، ويضيف إلى انه يوجد التيرس خارج المناطق التي نهتم بها نحن الآن، ويشير إلى سبخة بني حسن. ومن المحرج جدا بالنسبة لغير المختص أن يكون له موقف في هذا النقاش. فإذا كان بريف يؤكد بطريقة حاسمة بأنه لا يمكن أن نجد التيرس إلا في المناطق التي بها شيست قديم، فسيكون الأمر قد حسم له نهائيا. لكن فايشر يعارض هذا الرأي تماما، حيث يستخلصن انطلاقا من الوجود الغامض لحبات الكاورتز في التحليل، دليلا لصالح أطروحته، فقد لاحظ هذا العالم الجزائري أن هذه الحبات لا تمثل في المجهر الخديدات الخاصة بالرمال الإيولينية فقد تكون المياه هي التي كان وراء استدارتها. لكن فايشر ينفي هذه الفرضية بدعوى أن طبيعة جريان المياه في المناطق الواسعة والأفقية لا يسمح بذلك. فوجود التربة السوداء المكونة طبيعيا بالسبخات في مناطق أخرى مثل بني حسن ليس أمرا حاسما أيضا، لأنه حسب فايشر أن ترابا أسود لا يعني أنه الأصل نفسه الموجود في تيرس الشاوية ودكالة، وأن تسمية التراب الأسود تيرس والأحمر حمري لا علاقة له بالبحث الجيولوجي. ولجل ذلك فإن تنوع مكونات التيرس كما ظهر من تجارب فايشر ليست مقنعة أيضا. فغياب التيرس في الشريط الممتد على الساحل وأيضا على طول ام الربيع يذهب في صالح الفرضية الألمانية، فالمياه في هذه المناطق يمكن أن تكون قد جرفت التيرس. ولا يمكن استخلاص أي نتيجة حاسمة بكون أن التيرس يظهر فقط في هذه الأماكن، وأن هذه الرياح بعثرته بطريقة غير منتظمة. ولا يمكننا أن نقدم معطيات صحيحة في موضوع أصل الطمي الإيوليني. ويجدر بي أن أعترف بأننا قد لفت انتباهنا خلال رحلتنا في سنة 1901 لدى مرورنا بالشاوية، الوضعة الأفقية التامة التي يوجد عليها العديد من صفائح التيرس. وهو شيء رأيناه في منطقة «الصخور»، وهي تتكون من صخور ترتفع أفقياً عن سطح الأرض، وتبدو في صورة حشاف البحر. فالتيرس يصطدم بصورة أفقية بسفوح هذه «الصخور» ولا تتراكم عندها كما يحدث في الكثيب الرملي. ومما أذكر في هذا الصدد أنه قد كان في تامركشيِّيت، عند الشاوية، مخيم أقمناه بجوار هذه الصخور، وقد كان مظهر التربة الذي جئنا له بذلك التصوير لائحاً للعيان. وينبغي أن نزيد إلى ما قلنا أننا رأينا بقرب التيرس قد تكوَّن منخفض صغير وفيه غدير تأتيه قطعان الماشية لترد منه. وقد بدا لنا أن هذه العوامل تصب مجتمعة في التصور الذي جاء به بريف. بيد أننا لا يسعنا أن نعول على هذه الانطباعات للجزم في قضية معقدة لم يخلص فيها كبار المتخصصين إلى اتفاق. وقد كنت أخذت خلال رحلتي في سنة 1901 ثلاث عينات من تربة التيرس، تعرف كذلك بخصوبتها، وقد استقيتها من ثلاث مناطق مختلفة. فأنا العينة الأولى فقد أخذتها من تربة التيرس في الشاوية، وقد أخذتها يوم 10 يونيو 1901 من عند أولاد سعيد، غير بعيد عن ضريح سيدي عمارة السمامي. والعينة الثانية أخدتها من عند بني احسن، وهي التربة التي تحدث عنها بريف، وقد أخدت هذه العينة في يوم 23 يونيو [1901] من التربة المتكونة من المرجات على مقربة من وادي سبو في الموضع «القنيطرة» (عدي وعلي)، في الشطر الأول من الطريق الرابطة بين المهدية ومكناس. وأما العينة الثالثة فقد أخذتها في يوم 8 يوليوز من قبيلة الغرب، شمالي فاس، في الموضع المسمى «الكلابة»، على وادي سبو وقام ج. فوف بفايل بجمع عينات من التربة السوداء في الشاوية. وسنورد ههنا المقادير التي قام بنشرها. فالتربة «أ» كثيب رملي أسود يستمد خصوبته مما يقوم فيه من نبات. والتربة «ب» تربة سوداء وقع عليها المؤلف في أهم مناطق الغرب والحوز التي مر بها. والتربة «ج» تربة سوداء وقع عليها في الأجزاء المرتفعة من المناطق الداخلية في الشاوية، وهي تربة شديدة كثافة وصلابة. والتربة «د» تربة شديدة السواد وقليلة الشيوع، تتكون حسب بفايل من تحلل الميلوفير. والنوع الأخير، التربة «ه»، هي التربة المألوفة الشائعة في سائر مناطق الشاوية. ويذهب الجغرافي الألماني إلى أن أنواع التربة السوداء التي في المغرب تشترك في مجموعة من الخصائص المتشابهة، لكنها تختلف كثيراً في أصولها؛ فهو لا يؤيد الأطروحة القائلة بالأصل الريحي في تكون هذه الأنواع من التربة. واللافت في تحاليل بفايل المقدار الوافر من الآزوت. غير أن بفايل لم يبين على وجه الدقة، كما فعل فايشر، الأماكن التي منها استمد هذه العينات. ولذلك فمع أننا لا ننوي أن نحط بأي حال من القيمة العالية للمواد التي جاء بها بفايل، فإن التقديرات التي سنأتي بها في ما بعد لم نرجع فيها إلى غير تحليلاتنا الخاصة : خصوبة التيرس فالتربات التي قمنا بالتقاطها قد كانت في سائر المناطق ذات خصوبة متوسطة، وقد أخذنا هذه العينات من أماكن تشغل فيها الفلاحة نطاقاً واسعاً ومتجانساً وفي حقول تداوم عليها الفلاحة وفي وقت تال على موسم الحصاد. وقد أخذنا التربة بكميات كبيرة ومن عمق مناسب وفي مواضع عدة من الحقل الواحد. وعنينا كثيراً بخلطها، كما قمنا بإرسال ثلاثة كيلوغرامات من كل نوع من أنواع هذه التربة لأجل التحليل. لم تكن نتائج تلك التحاليل بالمشجعة كثيراً بالقياس إلى الحماس الذي طبع الحديث عن أنواع التربة السوداء في هذه الآونة الأخيرة. فنحن أولاً إذا قارنا التيرس الذي في المناطق الداخلية من الشاوية بالتربة الحمراء (الحمري) التي في الأراضي الساحلية في الساحل تبين لنا أنها أن النوع الثاني لا يقل [خصوبة] مةن كثير من الجوانب عن النوع الأول. وإنما يختلف الحمري عن التيرس بالدرجة الأولى بكثرة اشتمال الأول على الصوان؛ فالحمري تربة رملية، فيما التيرس تربة طينية تعسر فيها الفلاحة. لكن التربتين اثنتيهما متناسبتان كثيراً في نسبة الدبال فيهما، وفي ضعف نسبة الآزوت فيهما. إلا أن الحمري يمكن اعتباره غنياً بالحامض الفوسفوري، فيما هو ينقص في التيرس، وكذلك ينقص فيه الجير، وهو عنصر له أهميته على بعض الزراعات، من جملتها الكروم. وإذا ما انتقلنا الآن إلى مقارنة هذه التربة السوداء بأنواع التربة في الجزائر فسنرى أن نسبة الآزوت فيها قليلة بالقياس إلى التربة في معظم الأراضي الفلاحية في الجزائر. كما وأنها تشبهها من حيث نقص الحامض الفوسفوري فيهما وغناها من البوتاس. وأما إذا نظرنا إلى التربتين من حيث مقدار الجير فيهما فإن المقارنة تصير إلى صعوبة كبيرة؛ بحكم التنوع الشديد الذي يطبع هذا العنصر الأخير. وبودي الآن أن أقدم، على سبيل حصر الحديث، المقادير التي توجد بها العناصر الأربعة في تربة متوسطة الخصوبة في جهة ميتيجا. فمقدار الآزوت فيها 1.70، ومقدار الحامض الفسفوري 0.54 ومقدار البوطاس 3.93 ومقدار الجير 5.81. وهذه مقادير تزيد عن قريناتها في التربة التي في الشاوية من زاوية التحليل الكيميائي. ونورد كذلك عينة من تربة أخرى من المنطقة نفسها، وهي تربة على قدر كبير جداً من الخصوبة: فمقدار الآزوت فيها 2.08 ومقدار الحامض الفوسفوري 2.60 ومقدار البوطاس 6.23 ومقدار الجير 24.63، وهذه مستويات تفوق بكثير م نجد منها في تربة التيرس في الجزائر [في بلادنا؟؟]. لكنها هذه المقادير لا تزال مع ذلك دون المستويات التي يجعلها لها بفايل. فما السبيل إلى تفسير هذا التناقض؟ لست أدري. وحسبي أن ألاحظ أن التحليل الذي جاء به ث. فايشر يتفق كثيراً وتحليلي. غير أننا مهما ارتضينا التحليل الذي جاء به ث. فايشر للتربة التي في عبدة من حيث متوسط الخصوبة فيها، فإنه يظل مع ذلك دون ما يقال عن مقدار الخصوبة الهائل في التيرس. أفيكون بفايل قد اختار أنواعاً من التربة على قدر عظيم من الخصوبة؟ ومهما يكن فالذي نرى أن الاقتصار على تحليل التربة وحدها لا يمكن أن يمدنا بما يكفي من الأسس المسعفة لنا على تقدير يكفي مستوى الخصوبة في أرض من الأراضي. فينبغي لنا أن نلاحظ أنه إذا كانت طبقة التيرس شديدة العمق، وأن سطح التربة تتوفر له الخصائص الكيميائية نفسها التي تدخل في تكوين باطن التربة، فإن في الإمكان أن توجد احتياطيات كبيرة من العناصر المخصبة، وهذا أمر ثابت في بعض الأراضي في مصر؛ فهي على قدر هائل من الخصوبة، لكن التحليل الكيميائية يميل إلى أن يظهرها في صورة الأراضي الفقيرة. وقد بات معلوماً لدينا اليوم أن الحبوب، من قمح وشعير ودرة وسُلْت، تضرب بجذورها حتى متر ونصف في باطن الأرض، وربما تجازوت هذا العمق فيها. وللظروف المناخية كذلك تأثير راجح على النباتات، وهي تعتبر عاملاً من الأهمية بقدر ما هي العناصر الداخلة في تكوين التربة. فأنت ترى بعض الأراضي الجيدة، الزاخرة بالمواد المخصبة، من قبيل أراضي الضايات في الجزائر، ثم إن محصولها يكون دون ما يتوقع منها، بسبب من عدم انتظام التساقطات عليها. ثم إن «البيولوجيا الخاصة» لأنواع التربة في منطقة شمال إفريقيا وما يقع في سطحها وجوفها؛ حيث المكونات الصالحة للزرعة، من الظواهر الفيزيائية والكيميائية، التي تطرأ على السطح في العمق صالحة للزراعة، بفعل ظروف مناخية خاصة من كل الوجوه، هذه العوامل لا تزال المعرفة بها قليلة، بما لا يسعف على التوسل بها في تقدير مستوى الخصوبة في أرض من الأراضي. إن الوسيلة الحقيقة للتثبت من مردودية أراضي الشاوية، وهو المشهورة بمردوديتها الكبيرة، تكون بمعرفة مقدار الإنتاج في الهكتار الواحد، أو معرفة كم تغل البذور في العادة من المحاصيل. بيد أنه مؤشر يكاد يكون من المستحيل الحصول عليه من الأهالي، ولم نجد تاجراً واحداً من أولئك الذين يتاجرون وإياهم في الحبوب على السواحل، فيفيدنا في هذا الأمر. فالريبة والحذر الشديد اللذين يتصف بهما المغاربة، والنفور الذي يجدون، كمثل سائر الأهالي في منطقة شمال إفريقيا، من كل ما يدخل في الإحصاء أو يمت بصلة إلى العد والتقدير بوجه عام، تجعلهم يمتنعون امتناعاً من الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة. وكل ما يمكننا قوله أننا رأينا تربة الترسة تزخر من أجود المحاصيل؛ فسيقان السنبل طويلة وقوية وصلبة، والسنابل متساوية في الارتفاع، وتشكل من فوق الحقل بساطاً منسرحاً ليس فيه إقواء، بهجة لناظري الفلاح، لكن ربما كان يجدر بنا أن نتفحص تلك السنابل، لكن يلزمنا أن نعترف بافتقارنا إلى الكفاءة المسعفة لنا على هذا الافتحاص. ويمكننا القول، بالعودة إلى المسألة التي تدارسها كل فايشر وبريف، بشأن أصل التيرس، إن تحليلات التربة ليست هي القمينة بأن تأتينا بحل لهذه الأمر. وإذا أجزنا لأنفسنا أن ندلي برأينا في هذا النزاع، فبودنا أن نلاحظ أولاً أن الخلافات بين هذين الباحثين إنما تقع على صعيد التربة السوداء في كل من الشاوية ودكالة وعبدة، وليس بينهم خلاف بشأن أنواع التربة في منطقة بني حسن أو في غيرها من المناطق؛ فهي تربة لا يجادل ث. فايشر في أصلها الرسوبي. ثم إننا سنلاحظ بعد ذلك أن بريف قد كتب : «بقدر ما يحدث التجفيف (في البحيرات الشاطئية حيث يوجد التيرس)، إلا ويختلط الدبال الناشئ ببعض أنواع الطمي، ما تحمل منه الرياح، وما تزخر به المياه التي تسيح على وجه الأرض، فيشكل بذلك أنواعاً من التربة الطينية السوداء» (ص. 5، من «t» إلى «p»). ومن جهة أخرى فإن ث. فايشر يوافق على «أن الترسبات العضوية التي تزخر بها الأرض يأتيها معظمها من الغبار الذي تحمله الريح، ويأتيها بعضها من بكميات هامة، تنتج في جزء منها التوضعات من غبار الريح، وفي جزء آخر الدبال المتخلق في الموضع نفسه»، ثم «تسم الرطوبة الناشئة عن التساقطات كما تسهم النباتات في تثبيت الغبار ومراكمته». فالذي يبدو أن كلا التفسيرين يمكن يكونا صحيحين، وأن العالمين كليهما قد كانا على صواب. معنى كلمة تيرس وبودي، قبل أترك هذا المجال الوعر الشائك، أن أدلي بملاحظة، وهي أن كلمة «تيرس» لا تعني من الناحية الاشتقاقية «التربة السوداء»؛ فلا وجود لفكرة السواد في جذر هذه الكلمة. وكلمة «التيرس» واسعة الاستعمال في الجزائر، ويراد بها التربة الطينية العسير على الفلاحة، فهي تكون صلبة في الصيف وموحلة في الشتاء. وكثيراً ما تُستعمل هذه الكلمة كذلك في صيغة الجمع فيقولون «توراس». فقد سمعنا بعض الأهالي ممن انتزعت أراضيهم في منطقة سيدي بلعباس يقولون : «خذاو لينا التوراس»، والمعنى أنهم «انتزعوا منا أراضينا الترسية الجيدة»، يريدون الفرنسيين. وفي الجزائر بلاد عديدة تُعرف باسم التوارس، خاصة ناحية عمي موسى. والاسم نفسه تعرف به فخدة من قبيلة المراحبة (وهي جماعة مختلطة في البراز). ثم إن من اليسير أن نرد الكلمتين «الترس» و»التوراس» إلى الجذر «ت. ر. س»، الذي يعني الدرع، وتشتق منه «التل» و»الأكمة» و»الصخرة» و»الأرض الصلبة والمقشرة...».