استعادة السجين لحريته، لا تعني بالضرورة، أن هذا الأخير بإمضائه للعقوبة المحكوم بها وراء القضبان سيتمكن من التخلص من عبء الجريمة ومن تكاليفها الحاطة بالكرامة، تماما كما يتخلص الغسيل بالماء والمساحق من الوسخ. فكثيرا ما يتعرض السجين بعد إطلاق سراحه للنظرات المزدرئة والشامتة من طرف الآخرين، فتصبح لديه فكرة إعادة الاندماج في المجتمع صعبة المنال، وحلم رد الاعتبار لنفسه ومحيطه الأسري بالخصوص مجرد وهم لا يستقيم مع مجتمع لا يرحم. فالنظرة الدونية التي تبخس من قدر وقيمة الإنسان لمجرد سابقه سجنية في حياته،هي نفسها النظرة التي قد تدفع أي سجين غادر المعتقل، ولم يتسلح بالعزيمة القوية، للعودة مرة أخرى إلى السجن. إلا أن هناك حالات تمكن فيها أشخاص عانقوا الحرية بعد تجربة السجن ومعاناته، وإن اختلفت قصصهم، من الحصول على الدعم والمساندة من طرف جمعيات مدنية أخذت على عاتقها إعادة تأهيل السجين بعد خروجه من مؤسسات الإصلاح وإعادة إدماجه في المجتمع، وذلك من خلال الرفع من معنوياته لخوض معركة الحياة الكريمة وعدم العودة للسجن. وكذا في الأعمال الخيرية لبعض المحسنين الذين يعملون على انتشال المحتاجين من الفقر لمساعدتهم ومن ضنهم السجناء. 2 بفضل دعم المحسنين تمكن من استعادة الأمل في الحياة بعد أن فقد كل شيء عندما تنظر إلى (س. ر) تحسب أن عمره لا يقلّ عن السبعين عاما، لكن حين تستمع إلى قصته ويطلعك على تفاصيل حياته التي تحولت إلى كابوس فظيع، عندها فقط يمكنك أن تستوعب لماذا يبدو هذا الرجل ذو ال 55 سنة وكأنه بقايا إنسان حولته المآسي إلى شبح. (س. ر) عاش زهاء 15سنة من عمره فاقدا للحرية داخل زنزانة تفتح وتغلق بمواعيد مضبوطة.لم يكن هذا الشخص يعير أدنى انتباه لما يفعله زملاؤه من أجل تبديد الزمن الذي يتراكم من حولهم يوما بعد يوم داخل السجن، كل ما كان يهمه هو ماذا تفعل أسرته من أجل العيش بدونه، فهو كان لها المعيل والمعيل الوحيد. يقول (س.ر): «لم يكن السجن وحده ما كان يؤلمني وإنما ما تسبب لي فيه من مشاكل اجتماعية أكثرها مضاضة إبعادي عن زوجتي وابنتي ذات الثلاث سنوات، مما تسبب لي في أمراض نفسية مزمنة ومرض السكري، فقدت بعدها البوصلة في التفكير داخل السجن في مستقبل أسرتي التي كانت تصلني أخبارها لأنها تعاني كثيرا من أجل الحياة، وأنها لن تستطيع الصمود أمام نوائب الزمن وقد تفعل كل شيء». كان (س.ر) يعيش في غرفة بمنزل من طابقين بدرب الإنجليز بالمدينة القديمة، بالدارالبيضاء، حيث استقدم زوجته من البادية ليعيشا معا في هذا المنزل الذي سيشهد بعد ذلك ولادة ابنتهما البكر. كانت أسرته تعتمد في مورد عيشها على ما يحصل عليه (س.ر) من عمله ك «خياط ملابس»، واستمرت حياتها على هذا الشكل ثلاث سنوات، إلى أن حصل الشيء غير المتوقع. يقول (س.ر) كنت دائما مسالما هادئ الطباع لا أحب العنف، إلا أنني في لحظة عصية على الفهم، تحولت إلى حيوان شرس، كان ذلك خلال خصام بين زوجتي وأحد الجيران يسكن صحبة أسرته بغرفة مجاورة لغرفتنا بنفس المنزل». كان هذا الخصام بالفعل تافها، إلا أن تكلفته كانت باهضة بالنسبة ل (س. ر) الذي لم يتمالك نفسه حينذاك ووجه ضربات بواسطة عصا لجاره أردته قتيلا، ليحكم عليه بالسجن 20 سنة بتهمة الضرب والجرح المفضي للموت بدون نية إحداثه.. إلا أنه استفاد من العفو لحسن سلوكه ولم يمض في فترة العقوبة سوى 15 سنة. بعد خروجه من السجن وجد (س.ر) كل شيء قد تغير، زوجته التي طالبته بالطلاق في السنوات الأولى من اعتقاله، وجدها تزوجت من رجل آخر وأنجبا معا أبناء آخرين، ابنته التي طالما كان يحلم بأن يحضنها بعد خروجه من السجن، سأل عنها كل من كان يعرفها فتأكد له أنها هاجرت إلى الديار الإيطالية، المنزل الذي كان يقطنه أصبحت مكانه عمارة ضخمة. يقول (س. ر): «اضطررت بعد خروجي من السجن للعودة إلى مسقط رأسي بآسفي، وكنت آمل في إتمام ما تبقى لي من الحياة بين أهل هذه المدينة التي أحببتها كثيرا، غير أن طموحي هذا ووجه بالقيل من هذا والقال من ذاك، وكلها تصرفات تعبر عن رفض العائلة، وبالأحرى ما تبقى لي منها بعد وفاة الوالدين، لوجودي بينهم، لاسيما وأن من بينهم من يعتبرني السبب في ما حصل من مأساة لأسرتي. رجعت أدراجي إلى مدينة الدارالبيضاء، حيث أقطن في هذا الحي حيث لا يعرف أحد حكايتي، إلا بعض أصدقائي الأوفياء ممن ساعدوني على كراء البيت الذي أقطن فيه الآن». بفضل مساعدة المحسنين تمكن (س. ر)، من متابعة وضعيته الصحية خصوصا مرض السكري، وتمكن كذلك من شراء آلة خياطة وهو حاليا يصلح الملابس بعد أن ساعده المحسنون على كراء محل حيث يشتغل.