يبدو أن فعالية وحركية السيد وزير الثقافة (الشباب والثقافة والاتصال؟؟) محمد المهدي بنسعيد تجر عليه الثناء، مثلما قد تجر عليه النقد والانتقاد. ومن لا يعمل ولا يتحرك، لن ينتقده أحد. وصلني اليوم رابط مقال فيه نقد لاذع للسيد وزير الثقافة بخصوص تمويل مشاريع لها علاقة بتجهيز قاعات سينمائية. وإذ ذهب(ت) صاحب(ة) المقال إلى كيل اللوم إلى الوزير الشاب بداعي تمويل تلك العمليات السينمائية من ميزانية الصندوق الوطني للعمل الثقافي (FNAC)، المفروض فيه إعادة أرصدته لإنفاقها على المباني التاريخية والمواقع الأثرية ومراكز تحليل التراث التابعة للثقافة، فإنني لن أقف عند الجزئيات، رغم أهميتها وتأثيراتها المفصلية، والخطيرة على تراثنا الوطني، لأتوجه رأسا إلى انتقاد منظومة حكومية وسياسية برمتها، لا علاقة لوزير الثقافة وحكومة أخنوش بها، أصلا. أستغل هذه المناسبة لتجديد طلبي من عشرات السنين بأن تتوقف مهزلة تبعية المركز السينمائي المغربي لوزارة الاتصال ليصبح تابعا لوزارة الثقافة، حيث مكانه الطبيعي وموضعه الأصلي، في كل دولة تحترم نفسها. ذلك أن تبعية قطاع السينما لوزارة الاتصال يعتبر من مهازل سنوات الجمر والرصاص، وتحَكم الداخلية في كل دواليب الحكومة والبرلمان، وفي إحصاء أنفاس المثقفين والمبدعين، قبل باقي عموم الشعب. لم أفهم يوما، ولن أفهم ما حييت علاقة السينما بالاتصال. ما نعرفه من زمن العهد النيوليتي (ما قبل التاريخ) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هو أن كل أشكال الإبداع هي من صميم ثقافة الشعوب. والسينما واحدة من أرقى أشكال الإبداع الثقافي، والخيال العلمي. ومن ثمة تكون السينما تابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالثقافة، ما لم تكن الدولة لا تتوفر على وزارة خاصة بالثقافة، فيكون لها مجلس أعلى أو وكالة وطنية للثقافة. هي مجرد سياسات دول، ومجرد مسميات. فالثقافة حاضرة في كل حكومة لكل بلد، مهما اختلفت الأسماء والمسميات. وفي الدول التي تحترم نفسها، تعتبر الثقافة شأنا حكوميا، وشأن شعب ووطن، وشأن زعيم دولة، لا قطاعا مهمشا محصورا على وزارة للثقافة، يجلس وزيرها في المقعد ما قبل الأخير على طاولة المجلس الحكومي والمجلس الوزاري. فهل يتفضل السيد وزير الثقافة سي محمد المهدي بنسعيد بإعادة الأمور إلى نصابها وإرجاع المركز السينمائي المغربي إلى موضعه الأصلي كقطاع تابع لوزارة الثقافة بامتياز؟ فتعود السينما إلى حضن أمها الطبيعي والبيولوجي. إنها قمة العبث أن لا تكون السينما جزءا لا يتجزأ من قطاع الثقافة. فقد نفهم مثلا أن تكون الموانئ والمطارات، بسبب حساسيتها وانفتاحها على العالم، تابعة لوزارة الخارجية أو لإدارة الدفاع الوطني والاستخبارات الخارجية، لكن لا يمكن أبدا أن نستسيغ فصل السينما عن القطاع الحكومي المسؤول عن الثقافة. أما بعد، لم أفهم يوما جدوى وجود وزارة تسمى وزارة الاتصال (الإعلام)، في أي بلد كانت. فهل المقاربة الأمنية، وتراخيص العمل الصحفي، للأجانب بالخصوص، لا تبيح أن يكون قطاع الاتصال مديرية مركزية بوزارة واحدة موحدة تسمى "وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والسياحة والاتصال". فالصناعة التقليدية تراث ثقافي محض لا سواه، والسياحة لا تقوم إلا بوجود تراث ثقافي وطبيعي، والإعلام ممارسة ثقافية وواجهة ومرآة لكل شعب وكل بلد، داخليا وخارجيا. وكل فصل بين القطاعات هاته يعتبر عبثا في عبث، وإهدارا للمال العام وتشتيتا للعمل الحكومي. لماذا لم يذكر هذا السيد بنموسى في تقريره عن النموذج التنموي الجديد؟ لماذا لم تطرق الخزان لجنة بنموسى؟ بكل أسف، لجنة بنموسى لم تطرق الخزان لأن أعضاء اللجنة هؤلاء تقنيون ناجحون بامتياز في مجال تخصص كل واحد منهم، في المغرب وفي بلدان المعمور، لكنهم بعيدون كل البُعد عن التنظير وقوة التركيب الفكري واستشراف الآفاق، باستثناء خمسة أو سبعة أعضاء. والله أعلم. هذا الكلام، قلناه وكتبناه في نفس يوم تعيين لجنة النموذج التنموي الجديد، وهو حكم ليس وليد اللحظة. وقد قلنا دوما إن أحسن جراح في العالم قد يكون من دون أدنى شك أسوأ وزير للصحة في بلده. فرق شاسع وخطير بين أن تكون ممارسا ماهرا، وبين أن تكون منظرا لترويج بضاعتك. هي مسألة ممارسة وفكر وفلسفة وماركوتينغ. وإذا اجتمعت الممارسة الفيزيقية الناجحة بالقدرات الفكرية على التركيب والتنظير، فإنك تكون قد ولجت سدرة المنتهى. هكذا جاء تقرير لجنة بنموسى مجرد عموميات وتعبير نوايا، حتى لا نقول نصا إنشائيا، رومانسيا. تقرير التبس عليه حتى مفهوم الثقافة ومفهوم التراث المادي واللامادي. ولأننا لسنا عدميين، ونتحدث فقط بحرقة الوطن والوطنية، ومن باب المعرفة الدقيقة بالشيء، نعترف هنا والآن بأن التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، وكذا تقرير سابق عن تدبير التراث بالمغرب قد جاءا قمة في الدقة والتمحيص والتحليل واستشراف المستقبل، رغم ما نسجل عليهما من بضع ملاحظات لا تمس جوهرهما ولا تنقص من قيمتهما. وسنعود لاحقا لتقرير لجنة بنموسى وتقارير المجلس الاقتصادي، في تقريرين مفصلين، ومنفصلين. ملحوظة لا علاقة لها بالموضوع: مثل شروق وغروب الشمس حتى في ليالي حيان وفي سماءات الدول السكندنافية، فقد ألف موظفو وزارة الثقافة، وخاصة المشتغلون بحقل التراث بينهم، أن يشهدوا إنفاق مداخيل المباني التاريخية والمواقع الأثرية والمتاحف على دعم المسرح والموسيقى والفنون التشكيلية والسينما والمهرجانات والجمعيات، والكتاب. والكتاب أضعف حلقة، لارتباط ذلك بمفهوم الدولة للثقافة وموقفها من المثقفين. وإذا كان دعم هذه الحقول الثقافية مسألة حضارية تقوم على تشجيع الإبداع لا على فلسفة الريع مثلما هو حالنا اليوم في المغرب، بكل أسف، فإن على الحكومة، والدولة أساسا، أن تخص وزارة الثقافة بأغلفة مالية منفردة خاصة بدعم مختلف أشكال الإبداع الفني والفكري، لا أن تقوم بسلبها، كليا أو جزئيا، من مداخيل المباني التاريخية والمواقع ومراكز تحليل التراث (بعد تبعية المتاحف إلى المؤسسة الوطنية للمتاحف). هي، مظهريا، أزمة علاقة وسوء فهم بين وزارة الثقافة ووزارة المالية، لكنها في العمق أزمة دولة في علاقتها بموضوع العمل الثقافي. مادامت الدولة لم تعتبر بعد الثقافة شأن دولة، فإننا سنظل نعوي في الصحراء بلا مأوى، على قول الراحل مظفر النواب، حفاة عراة. لماذا يكون ذوو الحقوق يتمتعون شرعا وقانونا بحقهم في الميراث، كاملا مكتملا، بعد دين أو وصية يوصى بها (القرآن الكريم، بتصرف)، بينما نلحظ يوميا أن المباني التاريخية والمواقع ومراكز تحليل التراث لا تستفيد من "ميراثها" الشرعي والقانوني إلا بنسبة معينة، تحددها فلسفة واستراتيجية هذا الوزير أو ذاك، أو نزواته، بتعبير بعيد عن لغة الخشب وعن لازمة العام زين في قرآن ودستور قنواتنا الإعلامية العمومية. هذا، ونحن لا ننكر بعض التحسن الذي عرفه صرف اعتمادات الصندوق الوطني للعمل الثقافي، سواء في عهد الوزير الحالي، أو في بعض من سبقوه. وعلى سبيل الختم لافتتاح مقال جديد، نجدد مطلبنا الحضاري بالضرورة الملحة والمستعجلة لإطلاق حوار وطني موسع حول الشأن الثقافي بالمغرب، حوار تساهم فيه كل أطياف الشعب، بل المثقفين وكل قطاعات الحكومة بدون استثناء، والجماعات الترابية والمستثمرين وأرباب المهن الحرة والتجار والفلاحين والصناع، والتمثيليات الثقافية الأجنبية، لا حوارا بين وزارة الثقافة وبضع مثقفين وبعض من يسمون أنفسهم أرباب الصناعات الثقافية. المهم: إما ان تكون الثقافة شأن دولة، أو يكون من المستحب سحب الثقافة من أسلاك الحكومة.