أحيانا تثار مواضيع وقضايا في الساحة العمومية ببلادنا، ويتكثف حولها التركيز الإعلامي، ويحدث بشأنها الاصطفاف الحدي، ويتم تبادل التراشق بعنف بين الأطراف المختلفة بخصوصها، وفي النهاية نكتشف أنه لو جرى فقط تطبيق القانون، لأعفينا البلاد من جرها إلى حروب كلامية عقيمة، وبعضها يتحول إلى فرصة لتصفية الحسابات الصغيرة والذاتية. القانون يلزم مثلا بالتصريح بالأجراء لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، القانون يلزم الحكومة بإحالة مشاريع قوانين على مؤسسات وطنية قبل مباشرة مسطرة التصديق، القانون ينظم الدعم العمومي الموجه لعدد من القطاعات والمهن، القانون والدستور يحددان اللغة الرسمية في البلاد ومقومات الهوية الوطنية….، وكل هذه القضايا اشتعل بشأنها سجال إعلامي، جعل البلاد أحيانا تنسى تحدياتها الكبرى وتتيه وراء كثير لغط لفنا جميعا، ولم نعرف من خطط لذلك ومن أوقد نيرانه، ومن يصر كل مرة أن يشملنا بهذه "الحروب" البلهاء، أو بسيناريوهات مفتعلة وغريبة تطبخ ليلا ويشرع في فرضها صباح اليوم الموالي، وهي خالية من أي مضمون جدي أو منفعة حقيقية للبلاد. فئات واسعة من شعبنا، وحتى وسط النخب، صارت منذ فترة حائرة وقلقة جراء مثل هذه السلوكات، وتخشى المستقبل. إن مشهدنا السياسي يعاني فعلا كثير اختلالات وتجليات بؤس، علاوة على الإمعان في تبخيسه، وجر كل المنظومة إلى الدرك الأدنى من الابتذال والخواء واللاسياسة و"تشناقت". وإن حقلنا الإعلامي وممارستنا المهنية تتهاوى، من جهتها، منذ فترة نحو قاع الرداءة، ويتواصل جرها إلى الأسفل كثيرا، وقد تحول هوسها نحو الأشياء الصغيرة والظرفية والعابرة. نكتفي هنا بالمجالين أعلاه، ويمكن أن نضيف إليهما واقع الثقافة والفكر، وأوضاع التعليم والمدرسة والجامعة، ولا نستثني مستوى التدبير الحكومي العام، خصوصا لما تواجه البلاد ملفات ذات حساسية أو قضايا أو علاقات داخلية أو خارجية. وكل هذا يدفع المرء للتساؤل عما إذا كان المغرب يستحق هذه المستويات المتدنية جدا؟ وهذه الضحالة الباعثة على الألم في السياسة والإعلام وتدبير الشأن العام؟ نستغرب أيضا وأكثر لما يتم اقتراف أخطاء سياسية وتدبيرية وفي التقدير، وتوصلنا إلى الجدار، ثم نصر على تكرار اقترافها مرة ثانية، وربما ثالثة، كما لو أن الناس بلا ذاكرة، أو كما لو أن هذه البلاد لا تستحق أن نخاف عليها، أو أن نمنحها تدبيرا أحسن. في غمرة الحروب الصغيرة في الساحة السياسية الوطنية، أو حتى وسط قبيلة الصحفيين، ننسى كلنا أن لا أحد ينتصر أو يسجل إصابات على أحد آخر، ولا أحد يربح من السب والقذف والتشنيع، ومن… الخواء، وإنما نحن لا نفعل غير جعل الجميع يسجل ضد مرماه، ولا يكسب المغرب من وراء الشعبويات كلها سوى المزيد من… الرداءة. القلق والحيرة المتفشيان وسط فئات كثيرة، وأيضا الاستغراب من تعدد الخطايا وتجليات التفاهة والاستسهال، كل هذا لم يعد يعبر عنه اليوم تلميحا أو همسا، ولكن صار الهمس نفسه في حجم الصراخ، وتحفل مجالس السياسة وكواليس محافل الإعلام والصحافة هذه الأيام بالكثير من الامتعاض والأسف، وكذلك الخوف من المستقبل. في الصحافة وباقي وسائل التواصل صرنا أمام كم مهول من الحروب المباشرة وحروب الوكالة، وسواء عبر الصحف أو المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات التواصل السريع، تفاقمت حوالينا وفي وجوهنا التفاهة، واكتسحتنا تدوينات الشتائم ونشر المغالطات والوقائع الكاذبة والملفقة، وأيضا حملات التشنيع بالأشخاص والهيئات، وتجاوزت سرعة التفاهة إيقاع الإمساك بالعقل واستحضار الرصانة والحكمة وبعد النظر. لم يعد التفكير وسط عديد محافل وقطاعات في السياسة والإدارة والإعلام يتجاوز حدود ألسنة أصحابه وأنوفهم وجيوب سراويلهم، وهذا الوضع لم نصل إليه اعتباطا، وإنما هو نتاج ممارسات تعددت وتكررت طيلة سنوات، وتكاد التفاهة اليوم تطبق على أعناقنا لتخنقنا، ويبقى وطننا في معركة الرهانات الكبرى أعزل من كل أسلحته، ومن مقومات الصمود والانتصار. لا يمكن لبلادنا أن تربح تحدياتها وتعزز تميزها من دون حرص على تطبيق القانون وتقوية دولة المؤسسات، وذلك في كل المجالات والقضايا، ولا يمكن أن ننجح في تمتين الوحدة والاستقرار، وتطوير المسار الديمقراطي العام، من دون صحافة مهنية وجادة وذات مصداقية، ومن دون ممارسة حزبية وسياسية قوية ومستقلة، ومن دون أن يمتلك مسؤولونا بعد النظر، ووضوح القناعات والتوجهات، ومن دون التشبث بالقانون واحترامه، والسعي لصيانة التعددية في البلاد واحترام حقوق الإنسان، أي من دون القراءة المستمرة للدستور، والتقيد به في كل سلوك أو قرار أو فعل. وطننا لا يستحق أن نجره إلى الخلف أو أن ندفعه إلى التفاهة، وإلى تضييع الفرص. البلاد اليوم، كما بقية العالم، في مرحلة مجتمعية دقيقة، والخطأ غير مسموح به في السياسة، وفي تأهيل الإعلام الوطني، وفي تدبير مختلف الملفات والقضايا الوطنية بحكمة وذكاء وبعد نظر، وفي معالجة مشكلات الأوضاع الاجتماعية لشعبنا، وفي تأهيل الاقتصاد، وفي إشعاع أجواء الثقة والانفتاح بالمجتمع… لنفكر بحجم وطننا…، وطننا يستحق أحسن. محتات الرقاص