كتاب «تجربة التناوب بالمغرب» إثراء الذاكرة وتكريم لرجالات المرحلة قرابة عقد من الزمن مضت على إجهاض تجربة التناوب بالمغرب، تدفقت خلالها مياه كثيرة تحت جسر التاريخ، ولا يزال الكثيرون يحاولون جاهدين فهم ما جرى منذ ذلك الوقت. في هذ الخضم كان حدث تقديم الكتاب المشترك حول التجربة مناسبة لتقديم شهادة واحد ممن عايشوا هذه الفترة بكل تناقضاتها وتجلياتها، وتكريما لمن ساهموا في صنعها. الكثير من شهود المرحلة القريبة من تاريخ المغرب، وثلة من الشخصيات السياسية والفكرية والحقوقية والإبداعية ورجال ونساء المجتمع والمهتمين وأصدقاء المؤلفين، جاؤوا لحضور حفل تقديم كتاب «تجربة التناوب بالمغرب»، الذي أنجزه الوزير الأسبق حبيب المالكي والصحفية نرجس الرغاي، وصدر عن دار «لاكروازي دي شومان» )ملتقى الطرق). قادة سياسيون يتقدمهم عبد الرحمان اليوسفي وإسماعيل العلوي، وأيضا محمد اليازغي ومحند العنصر ومحمد نبيل بنعبد الله ومولاي أحمد العلمي، والمستشار الملكي، أندري أزولاي، ووزراء سابقون وحاليون، خالد الناصري وسعد العلمي وأنيس بيرو وعبد الكبير زاهود، وغيرهم، فضلا عن حشد غفير من المهتمين والصحافيين غصت بهم جنبات المكتبة الوطنية للاستماع إلى شهادة من داخل المرحلة، وبعضا من حقيقة مجريات الأمور. كتاب «تجربة التناوب بالمغرب» كان بحق تجربة فريدة من نوعها بين سياسي مخضرم، في شخص حبيب المالكي، الذي عايش فترة التناوب بكل تجلياتها، أثناء التهييء لها، وإبانها، وبعد توقف المسلسل، وصحفية محنكة استطاعت بحسها الصحفي وبحدسها السياسي أن تسبر أغوار المسكوت عنه في تلك التجربة المشرقة، والتي لا يزال المغرب يعيش على نتائجها. ما كان لمثل هذا الحوار الجريء، الذي يمتزج فيه الموضوعي المشترك والذاتي الخالص، وتتقاسمه الرغبة في فهم ما جرى والاستعداد للكشف ما أمكن عن حقائق الأمور، أن يرى النور بسهولة، فقد «عرف ولادة عسيرة» كما يحلو للصحفية نرجس الرغاي أن تصفها، بدء من إقناع المالكي نفسه بهذا التمرين الصعب بعيدا عن لغة الخشب، المألوفة لدى السياسيين. فكرة كتاب مشترك عن تجربة التناوب كحالة مغربية متفردة في التدبير السياسي ما كانت تولد لولا «الإحباط من أن السياسيين المغاربة لا يفكرون في الإدلاء بشهادات حية عن تجربتهم السياسية، على عكس ما هو معمول به في دول أخرى، وبرحيلهم يحملون معهم كل أسرار مسيرتهم سياسية كانت أو نضالية» كما تقول نرجس الرغاي، و»هذا راجع إلى أننا مجتمع تسود فيه الثقافة الشفوية أكثر». ولكي يبوح السياسي بشهادته عن المرحلة، فرضت عليه الصحفية تجاوز لغة الخشب، التي لم تعد تلقى تجاوبا من أي كان، والابتعاد عن إثارة العواطف، والقبول بكشف الجانب الخفي الذي يجهله الكثير. ووجدت في الناشر تأييدا كبيرا حتى يكون لمحتوى الكتاب الوقع الكبير على القارئ والمتلقي. المالكي من جانبه اقتنع بجدوى الشروط المطروحة أمامه، فاستطاع أن يرقى بالكتاب إلى مستوى «شهادة حية» عن مرحلة التناوب، وأن يكون مناسبة لتكريم كل من أسهم في تلك التجربة، من أمثال عبد الرحمان اليوسفي، رجل التناوب بامتياز، وإسماعيل العلوي وامحند العنصر وعباس الفاسي، عرفانا على المجهودات التي قاموا بها من أجل إنجاح تلك المرحلة. «الذين لولا إسهامهم لن يرى التناوب النور» على حد تعبير حبيب المالكي. فالتناوب تجربة متميزة، ساهمت بكثير في ما يعيشه المغرب الآن، يقول المالكي، فكل هذا الحراك السياسي والاجتماعي الذي نعيشه اليوم هو نتاج لتلك المرحلة، وما يعيشه المغرب في 2011 يعود فيه الفضل لسنة 2002، التي عرفت توقف مسلسل التناوب. ومضى المالكي، الذي أراد أن يكون الكتاب «تشريحا لفترة التناوب» وجزء من شهادته حول ملابسات فشل هذه التجربة المتميزة، في سرد العديد من المحطات التاريخية السابقة على مرحلة التناوب التي بدأت في سنة 1998، ليخلص في النهاية بالقول بأنه «لولا الكتلة الديمقراطية لما كان هناك أساسا شيء اسمه التناوب». ويبحر الكتاب لسبر أغوار تلك المرحلة عبر 7 فصول تتوزع إلى «بدايات المصالحة» و»سنوات التناوب» و»رحلة في حكومة التناوب» و»الحكم في عهد ملك جديد» و»اليوسفي يرحل» و»الاتحاد الاشتراكي في العهد الجديد» و»إحساس، بأن شيئا ما لم يكتمل إنجازه»، هي بمثابة محطات سردية، بين الصحفية والسياسي تلقي الضوء على مناطق الظل في مرحلة تاريخية، لتكوين ذاكرة تساعد على فهم ما جرى وما يجري الآن، الذاكرة التي ستكون نبراسا للشباب لتوضيح الرؤية أمامهم، واستجلاء العبر والدروس لمواجهة المستقبل. إذا كانت نرجس الرغاي، الصحفية، قد نجحت، باعتبارها شاهدا، في إقناع حبيب المالكي، السياسي، في الإسهام من موقعه بشهادته على مرحلة تاريخية، باعتباره فاعلا أساسيا فيها، من خلال تجربة هي الأولى من نوعها، فإن الدور على رجال السياسة الآخرين أن يقتنعوا بوجاهة هذا التلاقي الذي أنتج إبداعا سيكون لبنة أولى في مسار إثراء الذاكرة الجماعية، ومساهمة في إغناء النقاش حول المستقبل السياسي للبلاد.