هزيمة اليسار التونسي في الانتخابات الأخيرة طرحت علامة استفهام كبيرة شملت أحزاب اليسار العربي والعالمي، لماذا تتراجع شعبية اليسار في الوقت الذي تزداد فيه أعداد الفقراء، وتغيب العدالة الاجتماعية؟ هناك دلائل تحدث يوميا تشير إلى نهاية الفكر اليساري. وبعد أن شكّل هذا الفكر إغراء للشباب، على مدى عقود، أصبح اليوم مقتصرا على أكاديميين شارفوا على الانقراض. الاحتجاجات التي بدأت من تونس عام 2011، وأعقبتها ردات في دول عربية وأوروربية، غاب عنها اليسار التقليدي. وعلى عكس ما هو متوقع، كانت سيطرة اليمين والوسط على هذه الاحتجاجات، التي يطلق عليها البعض ثورات، واضحة. ويجب هنا ألا نخلط بين منظمات المجتمع المدني والحركات الطلابية والنقابية، وبين اليسار الذي فقد هنا أيضا سيطرته. البعض يتساءل، لماذا انفض الشباب عن اليسار؟ هذا السؤال يجانب الصواب، لأن الشباب، ويقصد بهم من هم دون الثلاثين، لم يحدث أن كانوا جزءا من الحركات اليسارية. السؤال يجب أن يكون، لماذا فقد اليسار جاذبيته؟ هناك أكثر من عامل، بعض هذه العوامل اجتماعي، ثقافي، وبعضها اقتصادي، وآخر تلك العوامل سياسي. اليسار المنبهر بأدبياته، لم ينتبه إلى التغيرات التي تحدث حوله، بقي حبيس النص، وحبيس الزعامة. مقتل اليسار تمثل تحديدا في البحث عن حلول مخبريه لمشاكل المجتمع. ظن اليسار أن بمقدوره تقديم معادلة لا تقبل النقد، يمكن بتطبيقها حلّ جميع المشاكل. وعلى عكس ادعاءات اليسار تبني المنهج الديالكتيكي، حاول اليساريون حشر الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بقوالب جاهزة. والنتيجة اختناق الفكر اليساري وإفلاسه. ورغم أن الصراع بين اليمين واليسار اقتصادي في جذوره، إلا أن هزيمة اليسار بدأت من الثقافة ومن المجتمع. تغيرات عديدة قلبت الظواهر الاجتماعية والثقافية، لم يلتفت اليساريون لحدوثها، بدءا بالموسيقى والفن والسينما وتطور وسائل التواصل وتبادل المعلومات، وانتهاء بالنزعة الاستهلاكية وعلاقات العمل وبنية الأسرة. لا يزال اليسار، رغم كل التغيرات، حبيس مفهوم “الواقعية الاشتراكية”، العبارة التي تحمل مقتل الفكر اليساري. لقد حوّل اليسار الواقع إلى واقعية اشتراكية ثابتة. وحجب، من خلال تقديسه للنص، تعدد الرؤى وتنوعها. خسر اليسار معركته الثقافية مع وصول ابن الإسكافي، جوزيف ستالين، لرئاسة الاتحاد السوفييتي، عام 1941، وخلفه عامل المناجم، نيكيتا خروتشوف، عام 1955. وحل بذلك مكسيم غوركي وماياكوفسكي محل بوشكين ودوستوفيسكي. لم تكن خسارة المعركة السياسية اللاحقة إلا رد فعل لخسارة المعركة الثقافية – الاجتماعية، وخسارة المعركة الاقتصادية، التي بلغت قمة تجلياتها بانهيار الجدار الفاصل بين برلين الشرقية والغربية، وكان الحدث بمثابة حكم نهائي على إفلاس مشروع اليسار، الذي حاول التنكر للحقبة السوفييتية دون أن ينجح بإقناع أحد. ولكن، هل فشل اليسار دليل على نجاح التوجه الرأسمالي؟ بالتأكيد لا. الرأسمالية نفسها كنظام اقتصادي مرت بعدة أزمات، وعدة أوجه. وكانت في كل مرة تنجح باستنباط نموذج ينقذها ويطيل عمرها. وما يميزها عن اليسار هو قدرتها على إعادة اختراع نفسها. بينما تمسّك اليسار بقوالبه الجاهزة، كانت الرأسمالية تحطم القوالب دون تردد، لتستخدم قوالب جديدة تتماشى مع المستجدات. بدءا بعالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث (1723 – 1790) الذي واجهت نظريته، تعزيز المبادرة الفردية والمنافسة وحرية التجارة، تحديها الأول عام 1929، مع ما عرف بالكساد الكبير أو الانهيار الكبير، وقد بدأت بالولايات المتحدة مع انهيار سوق الأسهم يوم 29 أكتوبر، والمسمى الثلاثاء الأسود. كان تأثير الأزمة مدمرا على كل الدول تقريبا، الفقيرة منها والغنية، وانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين، كما انخفض متوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح. اعتقد آدم سميث بقدرة السوق على التكيف للتعديلات الضرورية لتفادي الأزمات، وعندما فشلت السوق بامتحان الثلاثاء الأسود، كان لا بد من البحث عن حل. جاء الحل من قبل الاقتصادي البريطاني، جون مينارد كينز، (توفي عام 1949)، وتركزت نظريته على دور القطاعين العام والخاص في الاقتصاد، أي الاقتصاد المختلط. ساهمت نظرية كينز في وضع السياسات الاقتصادية للدول الرأسمالية، في الفترة الذهبية التي تلت الحرب العالمية الثانية واستمرت إلى منتصف السبعينات، ويشار إليها بدولة الرفاه. وتميزت بمسؤولية الدولة عن قطاع الخدمات والرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم. أزمة السبعينات وضعت حدا لدولة الرفاه، ليدخل الاقتصاد فترة عرفت بالنيوليبرالية، التي ترفض تدخل الدولة وتعتبره عائقا أمام النمو، وتزامنت مع صعود المحافظين في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، بوصول مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان إلى الحكم. وعلى مدى ثلاثين عاما وأكثر، استطاعت النيوليبرالية أن تصمد، إلى أن جاءت أزمة 2008، التي حملت الكثير من النقد لهذه النظرية، ولكن عجزت كل المحاولات، حتى هذه اللحظة، عن تقديم حل بديل، وهو ما فسر الثورات والاحتجاجات التي يشهدها العالم اليوم. والتي ستستمر إلى أن ينجح أحد المعسكرين في تقديم الحل. حتى هذه اللحظة، لا شيء ينبئ بحدوث جديد في معسكر اليسار المشغول بالأيديولجيا. فهل ننتظر الحل من اليمين الرأسمالي؟