أثناء تناول وجبة خفيفة في أمستردام مع شخص مرموق في العالم الجامعي بالأراضي المنخفضة، وبينما كنا نتحدث عن أشياء مختلفة: عن زميل في سباق نحو نوبل، عن طالب يجهل من تكون جان دارك، عن الغد.. قال لي مضيفي بتردد: – أنت المغربي، هل يمكن أن تفسر لي شيئا يتعلق بمواطنيك؟ – نفسية مواطني ليس من السهل دائما الكشف عنها، لكن يمكن لي أن أحاول. ما يحكيه لي البروفسور” س” إذن مثير للاستغراب. جامعة واجنينجن تحاول منذ عدة سنوات استقطاب إلى صفوفها هولنديين من أصل مغربي في كل المستويات: طلبة، دكاترة، مدرسون.. إنها سياسة مقصودة تنطوي على غاية نبيلة وذكية، ألا وهي فتح هذا الفضاء المعرفي الراقي في وجه كل مكونات المجتمع الهولندي. هذه المبادرة الحميدة كانت قد أعطت منذ وقت قريب ثمارها في ما يتعلق بالأتراك. لكن هذا هو اللغز: المبادرة لم يتجاوب معها المغاربة. رشفت قليلا من كوب الماء، لم أستغرق طويلا في التفكير: لا يحتاج المرء إلى أن يكون عالما كبيرا لكي يفهم السبب. شرحت للبروفسور “س” أن المشكل يكمن في الإسم: كلية الزراعة. صاح “س”: – لكنها مصنفة في المرتبة الأولى عالميا ضمن هذا الميدان، متقدمة على الأمريكيين والفرنسيين والصينيين. منذ أربع سنوات على التوالي وهي في القمة. – لا يهم. “الزراعة” توحي بالبادية، بالبدويين. هناك اعتقاد بأن التعبير عن حب الأرض ينم عن انحطاط. حكيت له أنه في زمن شبابي الطائش، كنت في أحد الأيام بالملعب الشرفي لتشجيع فريقي الدفاع الحسني الجديدي الذي كان في مواجهة الوداد بالدار البيضاء. من حين إلى آخر، كان المتفرجون يلتفتون نحونا وهم يرددون في لحن جماعي: – هيهو، عروبية، بلديين.. كل هذا كان يثير ضحك ابن عمي: – 99 في المائة من البيضاويين من أصل بدوي، إنهم بذلك لا يشتمون غير أنفسهم. لكن أنا في ذلك السن، كنت أطرح على نفسي سؤالا واحدا. ما الذي تحمله كلمة “بدوي” من معنى لكي تكون عبارة عن شتيمة؟ ليس جريمة ولا جنحة، ليس من العيوب الجسدية أو الأخلاقية أن يكون المرء بدويا. ومن يطعم المدن إذا لم يكن البدويون أنفسهم؟ وأنا مستغرق في التفكير في ذلك، أفلتت مشاهدة هدف اللاعب وزير (كان الوداد قد منيت بهزيمة). في ذلك المطعم بأمستردام، كل هذه الأشياء خطرت ببالي إذن وكنت قد حكيتها لزميلي. لكن أخذت في الحسبان كذلك أن أمده بمعلومات حديثة من شأنها أن تخلط الأوراق: – ليكن في علمك يا صديقي العزيز أن ملك المغرب قد افتتح دورة تشريعية جديدة بخطاب يحمل فكرة قوية: تشجيع الاستثمار والشغل في العالم القروي؛ لأجل خلق طبقة متوسطة. – طبقة متوسطة قروية؟ فكرة ممتازة. هجرة قروية أقل، إنتاج أكثر، مجتمع متعدد أكثر. مرحى. وحسم زميلي النقاش وهو يبتلع مثلجته: – إذا تعاملتم أنتم المغاربة مع هذه الفكرة بجدية؛ فإن كلمة “قروي” لن تظل شتيمة. ومن يدري؟ بعد سنوات قليلة، أفضل كلية زراعة في العالم لن تكون في واجننجن، بل في الرباط أو في بنكرير. وسنكون نحن من يبعث إليكم بالطلبة.