إنّ التراجم ينبوع حياة الأمم، ومرآة تعكس صورتهم، وتجلّي أحوالهم، ولا تكون ناصعة صافية إلاّ بالصّدق الذي هو ماء ثِمادِها. ولعلّه لا تُبارى الأمّة الإسلامية في هذا الباب من خلال ما خلّفته من تراث ترجمي متنوّع، تفنّن كتابُه في عرضه: تواريخ .. معاجم .. طبقات .. فهارس .. مشيخات .. أثبات .. فازدانت بهم المكتبة التراثية، وازدهت.. لكنْ رانت عليها المآسي والكوارث؛ فانتُقصت من أطرافها، وضاع منها الطّريف والتّليد حرقا، أو غرقا، أو إهمالا.. ودونك في هذا، ما وقع لمؤلفات الأندلسيين، أمثال: مسلمة بن قاسم القرطبي(ت353ه)، أين: تاريخه الكبير؟ ابن الفرضي عبدالله بن محمّد(ت403ه)، أين: العُبّاد والعوابد؟ ابن حزم علي بن محمّد(ت456ه)، أين: فهرس شيوخه؟ ابن بشكوال خلف بن عبدالملك(ت578ه)، أين:التنبيه والتعيين لمن دخلالأندلس من التابعين؟ ابن الحاج السُّلمي البِلِّفيقي(771ه)، أين: المُؤْتمن على أنباء أبناء الزّمن؟ أبو حيّان الغرناطي محمد بن يوسف(ت745ه)، أين: النُّضَار في المسلاة عن نُضَار؟ هؤلاء وغيرهم، اختفت كتبهم بما فيها من أعلاق ونفائس، ولم يبق منها سوى صُبابات في بطون الأسفار والمدوّنات، ومنها كتاب المؤتمن الذي حفظ أنقالا منه ابن الخطيب السّلماني وغيره.. فقام أستاذنا البحاثة المطّلع المحقّق الأديب الدكتور جعفر ابن الحاج السّلمي ليُحرز هذا البرور؛ برور من جهتين: جهة خدمة التراث عامة والأندلسي خاصة الذي هو دين على عاتق الباحثين والدّارسين، وجهة خدمة تراث الأجداد بني الحاج السّلميين الذي ألزم نفسه بذلك من سنين دراسة وتحقيقا، ولا يَعْزُبُ عن الذّهن ما كتبه عن بيت ابن الحاج في معلمة المغرب، وأبي إسحاق ابن الحاج البِّلِّفيقي الحفيد في ندوة من النّدوات، وتحقيقه لكتابين من إنتاج أبي عبدالله محمّد الطّالب ابن الحاج السّلمي، وهما: التعريف بالتّاودي ابن سودة، ورياض الورد فيما انتمى إليه هذا الجوهر الفرد.. إذ اضطلع بمهمّة جمع ما نجا من براثن الضّياع، فصنع لنا كتاب “المؤتمن” بعدما كنا نسمع اسمه، ولا نرى رسمه.. هذا الكتاب يتكوّن من بابين: الباب الأول: ضمّنه ترجمة مستفيضة عن أبي البركات: اسمه، نسبه، نشأته، طلبه للعلم، رحلاته، شيوخه، وظائفه، تلامذته، مؤلفاته .. في 214ص الباب الثّاني: جمع فيه مواد “المؤتمن من الإحاطة في أخبار غرناطة” لابن الخطيب السّلماني، و”الدرر الكامنة” لابن حجر، و”درّة الحجال” لابن القاضي، و”نفح الطيب من غصن الأندلسي الرّطيب” و”أزهار الرّياض” لأبي عبدالله المقري.. في 66 ص. ثمّ ذيّله بملحق يتضمّن شذرات من كتب مفقودة لأبي بركات: رسائل، فتاوى، إجازات، وثائق.. في 16ص. وختمه بفهارس: آيات قرآنية، ووأحاديث شريفة، خطب، قوافي، أعلام فردية، جماعية، جغرافية، عناوين كتب، تراجم، المصادر والمراجع(128 كتاب، بلغات مختلفة:عربية(119)+مجلة واحدة، الفرنسية(1)، الإنجليزية(1)، الإسبانية(6). فهرس لإنجازات المؤلف العلمية المنشورة: كتب، دراسات، تحقيقات، مشاركات في ندوات، ترجمات، تقديمات.. بالعربية والفرنسية والإسبانية. فهرس الموضوعات. في 33ص. وتقديم لماربيل فييرو، عضو هيئة التدريس في المجلس الأعلى للبحوث العلمية – المجلس الوطني الإسباني للبحو بمدريد، باللغة الإنجليزية، في صفحتين. والكتاب كلّه في 352 صفحة. هذه مكوّنات الكتاب. أمّا خصائصه ومميّزاته، فكثيرة، أجملها في أربع: الدّقة: تتجلّى في ثلاثة ملامح: الأوّل: الضبط بالشّكل؛ وهذه ميزته في جميع كتبه، ولا يشاركه فيها أحد سوى النّوادر، وله فيها اختيارات، قد يُخالف فيها. الثّاني: التّرتيب؛ فقد أبدع في ترتيب الكتاب وتبويبه وتنسيقه.الثالث: التّنصيص على عدم الوقوف، فيما لم تسعفه به المصادر بعد جَهْدٍ؛ بقوله: (ولم نقف له على ترجمة). الاستيعاب: فقد أحاط بترجمة أبي البركات إحاطة السّوار بالمعصم، فصنع له فهرسة شاملة، تستحق أن تفرد بالنّشر تحت عنوان: فهرسة أو تَبَتُ أبي البركات البِلِّفيقي. واستوعب نقول كتاب المؤتمن من مصادر التّراجم من القرن الثامن الهجري إلى القرن الثاني عشر الهجري. النّقد: ويتّخذ ملامح ثلاثة: بالحُكْم، مثل قوله: (وهو كلام أقرب إلى الحديث التعريفي الذي يُنشر أو يُذاع للعامّة). أو الاستشكال: وقصده من ذلك استثارة خبايا النّصوص، وإيقاظ قرائح الباحثين، نحو قوله: (ثمّ ماذا كان يصنع أبو البركات قبل أن يُستقضى إن لم يكن طالب علم يتجوّل في البلاد؟! ثمّ ماذا كان يصنع قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين!؟ ألم يكن بقي كلّ هذه المدّة يتجوّل ويقرأ في البلدان العُدوية، حتّى بلغ مراكش وبجاية، ثمّ بقي مُقيما بسبتة مدّة، قبل أن يرجع إلى الأندلس فيستقضى بالبلدان الصّغيرة أوّل ما اسْتُقْضي؟!). أو الافتراض قصد ملء الفراغ في سياق مقبول، نحو قوله: (بعد التّتلمذ على ناصر الدّين المشَدَّالي ببجاية، رجع أبو البركات إلى المغرب الأقصى، وأغلب الظّنّ أنّه اجتاز بفاس، وأقام بها وقتا يطول أو يقصر، ثمّ منها توجّه إلى مراكش، إمّا على طريق مكناس، فيكون قد دخلها، وإمّا على طريق سلا والرّباط، فيكون قد دخلهما). أو في سياق الترجيح؛ قوله: (وهذا راجح عندنا؛ إذ بعد هذا الكلام يقول ابن الخطيب على الفور، وأغلب الظنّ أنّه ينقل من كتاب المؤتمن): “قال شيخنا أبو البركات: وأنشدنا لنفسه..” فالسياق، إن لم يكن في الكلام اختصار وتصرّف، يبعث على هذا الظنّ والفهم). الإلماع: ويتجلّى في: الإشارة إلى الاختلاف؛ من ذلك في عناوين الكتب: (كما روى تواليفه أي ابن الكمّاد اللَّخْمي(ت712ه) ؛ ومنها: الممتع في اختصار المقنع، ويُسَمّيه ابن غازي والرّوداني: الممتع في تهذيب المقنع..). خَتْمُ التّرجمة بالفنون التي استفادها المترجم، مثل قوله: (ومعنى هذا أنّه اشتغل عليه في الفقه والحديث). التّنبيه إلى من ظلمهم التّاريخ، من ذلك: جدّة أبي البركات أمّ الفضل بنت أبي بكر، محمّد بن مفضّل ابن مهيب اللّخمي الشِّلْبي المَرِيّ، وقد صنع لها ترجمة تستحق أن تُفرد في مقال. لَفْتُ الأنظار إلى بعض القضايا: مثل: سبب عدم وصول مؤلّفات البِلِّفيقي، مُنشّطات التأليف..