من بين كل الانجازات الرائعة للثورة الديمقراطية السلمية التي نزلت يمنا و بركة على أرض الجزائر الطيبة هناك إنجاز أكثر بروزا يدعونا للوقوف عنده. لقد نفثت هذه الثورة روح الحوار في الفضاء العام وأنجبت حياة ديمقراطية نابضة وخصيبة، وأصبح ينعش الحياة الديمقراطية تنوع الرؤى وتعدد الآراء والاحتكاك الصحي للأفكار وتقارب أو تباعد الأحاسيس وتلاقي القناعات. وهكذا استعاد النقاش الديمقراطي في بيت الجزائر معناه وعلة وجوده. إن النقاش الديمقراطي لا يضعف المجتمع ولا يخل البتة بتوازناته. بل، على العكس تماما فإنه علامة من علامات الصحة والعافية. في النقاش الديمقراطي لا توجد مضيعة للوقت. وما يوجد فيه يقينا هو التأكد من أن لا خيار ينتج عنه إلا وهو مدعم بأوسع قبول، ويقع في خدمة أعرض الشرائح وأوسع الفئات. إن ما يتوجب التشديد عليه، هو أنه لا خشية في أن يحدث النقاش الديمقراطي الشروخات غير المرغوبة، وأن يتسبب في انقسامات غير مفيدة. وبالعكس فإنه يوفر للمجتمع فرص الالتفاف حول الخيارات المتوصل إليه بالتزام أكبر وتمسك أقوى إحساسا منه أنه كان طرفا فاعلا في صنعها، وأن إرادته جزء لا يتجزأ عن الإرادة العامة التي مكنت من الوصول إليها. مما لا شك فيه أن الحياة الديمقراطية، وهي تضرب بجذورها في أعماق مجتمعنا من جديد، قد عبدت الطريق لتصالح مواطناتنا ومواطنينا مع الفعل السياسي الشريف والنبيل. فلم يعودوا يرون فيه مجرد حسابات دنيئة ومناورات بغيضة وتلاعبات تخدم الأطماع الشخصية تحت القناع الغشاش لخدمة الصالح العام المزعومة. وهكذا مكنت الثورة الديمقراطية السلمية السياسة من استرجاع نبلها وسامي معانيها ومقاصدها لتصبح من جديد قدوة ومنارة. في الوقت الذي يلفظ فيه النظام القديم آخر أنفاسه قبل زواله، ويصعب فيه على النظام الجديد شق طريقه فإن نقاشا وطنيا حاسما قد فرض نفسه بيننا. ويتمحور هذا النقاش حول إشكالية كبرى، وهي إشكالية الانتقال الديمقراطي. وقد باتت هذه الإشكالية تسكن كل الأذهان، وهي على كل الشفاه؛ وهي حاضرة في كل الحوارات خاصة كانت أم عامة. و كل واحد منا له يملك بشأنها فكرة أو ميولا أو حتى حلا. بمفهومه المبسط جدا والحرفي يعني مصطلح: "الانتقال" التحول من وضع إلى وضع آخر، أو من نظام إلى نظام آخر. وحتى هذا التعريف القاعدي يعكس مدى صعوبة وتعقيد انجازه. فالأمر يتعلق أصلا بمعرفة أين نحن، وأين نريد أن نذهب، وما هو الطريق الأسلم الذي يتوجب انتهاجه للوصول إلى المبتغى. ومن هذا المنظور فإن الانتقال الناجح والناجع هو ذلك الذي يأتي بالأجوبة السليمة على هذه الأسئلة الصائبة. ما هو وضع بلدنا من هذه المعضلة؟. يبدو لي، أنه من الممكن حصر هذه الأجوبة على هذه الأسئلة في جملة معبرة واحدة: إن بلدنا في نقطة التقلب نحو الطريق المؤدي إلى الانتقال الديمقراطي. ما هي نقطة التقلب هذه و ماذا تعني؟. إنها بمثابة خط القمم الذي يوجد بلدنا عليه راهنا، والذي يسمح له برؤية النظام السياسي القديم الذي اهتزت أسسه وأركانه، لكنه لا يزال متحصنا ومقاوما. كما يسمح خط القمم هذا، وفي الوقت ذاته، برؤية النظام السياسي الجديد الذي يطمح إليه شعبنا، والذي ينتظر ساعة بعثه القادمة لا محالة. إن نقطة التقلب هذه تعني فيما تعنيه أن القبضة الحديدية بين النظام السياسي القديم والنظام السياسي المكتوب له استخلافه لا تزال متواصلة، ولم يظهر بعد صاحب الغلبة فيها. بالفعل، فإن مصمم النظام السياسي القديم ومهندسه قد رحل، كما تم تحييد العقل المدبر للقوى غير الدستورية التي استولت على مركز صنع القرار الوطني، واستحوذت على السلطات الدستورية اللصيقة به منذ سنة 2013م. وأما النظام السياسي ذاته، فإنه حقا في حالة ارتباك وذهول لكنه لم يقل كلمته الأخيرة. وهو بعيد كل البعد عن الاستسلام دون قيد أو شرط، فهو مسيطر على أهم المؤسسات الدستورية للدولة، وتحديدا رئاسة الدولة والحكومة ومجلس الأمة والمجلس الشعبي الوطني والمجلس الدستوري. والإدارة العمومية التي وضعت نفسها تحت أوامره وحده وخدمته حصريا على مدى العشريتين الماضيتين لا تزال قائمة. وزبائنياته الاقتصادية المتنوعة والمتعددة لم يتم بعد تفكيكها الكلي، والأحزاب السياسية التي عاهدته بولاء غير محدود وغير مشروط قد شرعت في التنكر والتفتح والتلون دون أن توهم أحدا، وهي تلجأ إلى تدوير آلي لوجوه سياسية يصعب عليها فصل صورتهم عن صورة نظام سياسي منبوذ ومحكوم عليه بالذهاب دون رجعة، و النقابات والجمعيات التي باعت الروح والضمير واشترت بها المزايا والامتيازات لم ترم المنشفة بعد، والقضاء، وبعد ترويضه وتدجينه لمدة طويلة، يخطو في الأثناء هذه خطواته الأولى نحو استعاده استقلاله، لكن هدفه لا يزال بعيد المنال وقضيته لم تكسب بعد، و حتى الإعلام العمومي، و بعد التجرؤ على المطالبة بنفس الاستقلالية والتحمس لها أيما حماس، فها هو يعطي الانطباع بالعودة إلى عاداته القديمة مجبرا ومكرها. تفرض علينا كل هذه المعاينات العودة إلى الواقع الحق ومواجهته كما هو، وليس كما نريده أن يكون. كما تحملنا هذه المعاينات إلى الخروج من النشوة التي تغمرنا ووضع الأقدام على الأرض من جديد، ولحظتها سندرك إدراكا لا شك فيه ولا لبس عليه أن النظام السياسي القديم لا يزال يحتل الفضاء السياسي والمؤسساتي احتلالا شبه كامل. وأن النظام السياسي الجديد لم ينجح في وضع و لو لبنة واحدة من لبناته. و الحال هذه، أيعقل أن يحل نظام آخر محل نظام لا يزال متجذرا في واقعنا السياسي الراهن، ومهيمنا على كل مفاصل الدولة بكل ما أوتي من ثقل وقوة؟؟. لقد وجهت الثورة الديمقراطية السلمية ضربات قاسية للنظام السياسي القديم لكنها لا تزال بعيدة عن القضاء عليه والتخلص منه. ونتيجة هذا الواقع، فإن بلدنا مايزال في نقطة تقلب، لكن التقلب نحو الطريق المؤدية إلى الانتقال الديمقراطي المنشود لم يحدث بعد، والمتسبب في هذا الوضع أمران: فهناك من جهة أولى المقاربة الدستورية الصرفة لحل الأزمة التي تُبقي على النظام السياسي القديم في معاقله السياسية والمؤسساتية. وهناك من جهة ثانية، وفي نفس الوقت، الإطالة غير المبررة في عمر النظام التي تشكل سدا منيعا يعيق انتهاج الطريق القويم المفضية إلى الانتقال الديمقراطي الذي يريده شعبنا. ما هي هذه الطريق ذات المدخل المسدود؟. إنه طريق العودة إلى مسار الانتخابات الرئاسية. إن العودة إلى هذا المسار لا يعتبر انتقالا في حد ذاتها، و لا تمثل بداية هذا الانتقال. وماهي في حقيقة أمرها سوى مرحلة تحضيرية لاستحقاق رئاسي يُنتظر منها توفير شروط الشفافية والنزاهة والنقاوة التي يتطلبها هذا الاستحقاق، والتي تطالب بها الثورة الديمقراطية السلمية ذاتها. وفي هذا السياق، فإن إجراء انتخابات رئاسية متسمة بهذه المواصفات ومحصنة بهذه الشروط هو الذي سيشكل فعليا نقطة انطلاق المسار الانتقالي. من هذا المنظور، فإن هذه المواصفات لا تتوفر إطلاقا في الاستحقاق الرئاسي المزمع عقده في الرابع جويلية القادم. كما أن هذه الشروط لم تجتمع البتة لضمان حسن صيرورته و قبوله. وأكثر من هذا، فإن الحد الأدنى من هذه المواصفات والشروط غير قائم و غير مضمون. إن هدف التسريع في سد الفراغ المؤسساتي وإعادة الشرعية للمؤسسات الدستورية وانتهاج أقصر الطرق وأقلها خطورة وتكلفة لتحقيق ذلك هو خيار يمليه التعقل والتبصر. غير أن نفس المنطق يمنع الخلط بين السرعة والتسرع، ويحذر من مغبة تجاهل المشكلات الحساسة المطروحة تحت غطاء النجاعة التي ليس لها من النجاعة سوى الاسم. إن الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الرابع جويلية المقبل غير ملائمة سياسيا، وغير قابلة للتحقيق ماديا. كما أنها مخاطرة جوهريا، وإنها تثير أسئلة أكثر مما تقدم من أجوبة. و من بين كل هذه الأسئلة الواردة هناك أربعة ذات الطابع الأساس و المبدئي: ما معنى وما مغزى استعادة السيادة الشعبية، وهي تخطو خطواتها الأولى بفرض انتخابات رئاسية يرفضها الشعب ولا يقبل بشروط وظروف تحضيرها وتنظيمها؟. فالشعب بصفته الهيئة الناخبة والسلطة التأسيسية الأصيلة والمصدر لكل الشرعيات المؤسساتية ينبذ نبذا مدويا هذه الانتخابات التي يتم تصورها وتسييرها في منأى كامل عن طلباته و إلحاحاته. وإن الحكمة والبصيرة في الإصغاء إليه وفي الاستجابة المرضية لمطالبه التي حرص كل الحرص على وضعها في حدود العقلانية والأحقية و المشروعية. و ما هذا الإسهام في حل الأزمة التي يراد من هذه الانتخابات أن تأتي به والحال أن العين المجردة ترى فيها عامل توتر وليس عامل تهدئة ومنبعا لتزايد التوترات وليس لإخمادها أو إطفائها؟. فإن تعلق الأمر بعمر الأزمة فإن هذه الانتخابات لا تقصر بل تمدد فيه. وما هي هذه الانتخابات التي ينتظر منها وضع الحجر الأساس لانتقال ديمقراطي حقيقي، والتي بحكم التشكيك فيها والاختلاف حول شروط وظروف صيرورتها تفقد كل صدق ومصداقية وشرعية لانتقال ديمقراطي يراد لها أن تكون محطة انطلاقته السليمة؟. و أخيرا، ما هي هذه الانتخابات التي ينتظر منها أن تمكن البلد من معاودة سيره إلى الأمام، ورفع التحديات الخارقة للعادة التي تواجهه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا التي تحولت إلى حاجز مانع يعتري سبيله؟. نعم!، يتوجب الإقرار بأن هذه الانتخابات لا يمكن أن تكون المسلك السليم، بل هي في واقعها الجلي طريق مسدودة. يمكن فعل كل شيء ضد شعب قام من أجل فرض قبضته على تقرير وصنع مصيره عدا مصادرة إرادته وإسكات صرخاته الوجدانية وتحطيم أحلامه. لكي تكون في مستوى التطلعات التي تثيرها، وتكون مفصلية حقا بالنسبة لمستقبل الأمة يتوجب إحاطة هذه الانتخابات الرئاسية بعناية أكبر وبتصور أرقى. فهي ليست بالاستحقاق العادي، وإنما هي منعرج ومنعطف في قمة الدقة والحساسية. وعليه لا يوجد خلاف أو نزاع حول إعطاء المرحلة التحضيرية للاستحقاق الرئاسي الوقت الكافي – و كل الوقت اللازم- لضمان حسن تحضيرها وتنظيمها. لكن تمديد هذه المرحلة التحضيرية خارج الآجال المعقولة وغير القابلة للتقليص من شأنه أن يبقي البلد في حالة انعدام الاستقرار، ويعرضه إلى انحرافات وانزلاقات محتملة يصعب ويستحيل التنبؤ بها. لقد أفرز النقاش الوطني الواسع الذي يحتضنه بلدنا راهنا مخارج عدة للأزمة السياسية القائمة. وما يتوجب فعله هو اختيار أقصر الطرق وأكثرها أمنا وأقلها تكلفة. وإن ترتيب أولويات الساعة المطلقة واقع في صميم هذا الاختيار الفاصل. ما هي هذه الأولويات المطلقة التي يتوجب ترتيبها؟؟ يتعلق الأمر، أولا، بسد الفراغ المؤسساتي المقلق حقا، وهو الفراغ الذي تشكل الدولة الوطنية أكبر ضحية له لما أصابها به من اهتزاز لأركانها وإضعاف لأدائها وتهديد لكيانها. ويتعلق الأمر، ثانيا، بإعادة الشرعية لكافة مؤسسات الجمهورية بدءا بالمؤسسة الرئاسية بصفتها المؤسسة المحورية في منظومتنا السياسية والدستورية. ويتعلق الأمر، ثالثا وأخيرا، بتجنيب البلد دفع تكلفة باهظة نظير إعادة بنائه الديمقراطي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. إذا تم تشخيص وترتيب أولويات البلد على هذا النحو، فإن خيار الرئاسيات يفرض نفسه دون منازع كالخيار الأنجع والأمثل مقارنة بكل الخيارات الأخرى المعروضة حاليا. في سياق الانتخابات الرئاسية، سيأتي تلقائيا وقت الانتقال الديمقراطي الهادف والمنظم والناجع. فإذا كان الشعب هو قائد عربة الانتقال الديمقراطي، فإن الرئاسيات هي محركها. لا شك، أن الشعب نفسه سيفرض بمناسبة هذا الاستحقاق كصاحب السيادة الوطنية و كمنبع لكل السلطات. ولا شك، أيضا، أن البرامج المعروضة عليه في إطار هذا الاستحقاق ستضعه أمام خيارات حاسمة سواء تعلق الأمر بالنمط الجمهوري الذي ينبغي ابتكاره من جديد أو بالنظام السياسي الذي باتت إعادة تأسيسه مطلبا مُصَرا عليه وملحا أو بالدولة الديمقراطية العصرية التي يجمع شعبنا على ضرورة بعثها في إطار المشروع الوطني الجديد والمجدد. وسيتسنى لشعبنا، وهو الشعب الحر، أن يعرب عن اختياره من دون إكراه أو خوف. لا يساورني أدني شك إن العهدة الرئاسية القادمة ستكون، وبامتياز، عهدة انتقالية، أي العهدة المنظمة للانتقال الديمقراطي الحقيقي. من هذا المنظور، وبفضل الشرعية التي سيحظى بها، فإن صاحب العهدة الرئاسية الانتقالية سيحمل على عاتقه عبء التطلعات الشعبية التي سيعهد إليه تحويلها إلى وقائع ملموسة وإلى سياسات لا عنوان آخر لها سواء عنوان القطيعة والتجديد. إن الإرث غير مريح و غير مطمئن إطلاقا، فبيت الجزائر قد دمر دمارا شاملا، فلا يوجد فيه ما يمكن إصلاحه أو ترميمه أو تجديده. وفي كل جزء أو شبر من المشهد الوطني هناك ورشة تقتضي فتحها. و كل خطوة يجب القيام بها هي بمثابة تحدي للمستقبل، ذلك المستقبل الذي يهون حمله على محمل التحدي من خلال تخصيب قضائه وتثمين أقداره. علي بن فليس * *رئيس حكومة أسبق و رئيس حزب "طلائع الحريات" الجزائر.