هل يصلح تعيين ألان جوبيه على رأس الكيدورسي ما أفسدته التوجهات السياسية للمتربع على عرش الإيليزي وأسلافه، وما تسببت فيه من حالة غيبوبة قاتلة للديبلوماسية الفرنسية في ضوء الزلزال الذي هز أركان النظام العربي، والذي لم تستفق منها باريس إلا بعد انطلاق قطار التغيير في المنطقة العربية ولهاثها من أجل تداركه. تساؤل تطارحته أوساط الرأي العام الفرنسي بنبرة لا تخلو من مرارة، في أعقاب إعلان الإليزي يوم الأحد الأخير عن قرار تعديل حكومي في محاولة لبعث الروح في جسم الدبلوماسية الفرنسية أمام كرة الثلج المتدحرجة على السفح العربي وما تعصف به يوميا، من معادلات سياسية ومفاهيم جديدة، قد تقلب رأسا على عقب كل التوازنات الإستراتيجية وخرائطها الجغرافية بالمنطقة. قرار عين الرئيس الفرنسي بمقتضاه وزير الدفاع ألان جوبيه وزيرا للخارجية خلفا لميشال أليو ماري التي استقالت بعد ثلاثة أشهر على شغلها لهذا المنصب، وذلك على خلفية تورطها في فضيحة سياسية متعلقة بسفرها على متن طائرة خاصة على حساب أحد رجال الأعمال المقربين من الرئيس التونسي المخلوع لقضاء عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة في تونس، في وقت كان فيه الشارع التونسي ينتفض والشرطة تقمع المتظاهرين بعنف، كما عين كلود غيون في منصب وزير الداخلية وجيرار لونغي على رأس وزارة الدفاع. ومعلوم أن أداء الديبلوماسية الفرنسية كان مثار انتقادات حادة من قبل الطبقة السياسية الفرنسية في أعقاب سقوط نظام بنعلي، وإلى حد نعتها برجع صدى لمجريات الأحداث السريعة والمتسارعة بالمنطقة العربية وتبلد حواس التوقعات لدى مهندسيها وشرود مصالحها الخارجية. وحسب لوموند، الصحيفة المقربة من اليسار الفرنسي، فإن تبريرات ساركوزي لتعديله الحكومي بالأخطار التي تتهدد فرنسا على حدود ترابها الوطني وفي أمنها القومي من هجرة وتنامي الإرهاب، مجرد تبريرات، وأن التعديل أملته الكبوات الدبلوماسية الأخيرة لباريس في تعاطيها مع ما يجري في العالم العربي. وتتصدر الشارع الفرنسي مساءلات حادة لطبيعة علاقات فرنسا بالأنظمة الديكتاتورية التي ترعى حدائقها الخلفية إن لم نقل مستعمراتها القديمة، في أعقاب سقوط نظام بنعلي المتيم بالمعجزة التونسية حسب أصدقائه المتعاقبين على قصر الإليزيه وفي خضم الانتفاضة الشعبية على نيرون ليبيا الذي أقام له ساركوزي ولحريمه المتعدد الجنسيات خيمة في حدائق الإليزيه ضدا على قيم الثورة الفرنسية وأعراف الجمهورية. مساءلات عكستها وسائل الإعلام الفرنسي من زوايا عريضة ومتعددة الأبعاد، وإلى حد وضع الديبلوماسية الفرنسية في شمال إفريقيا في قفص الاتهام، في ضوء حراك الشعوب العربية وطلائعها الشابة اليوم من أجل ذات القيم التي انتصرت لها الثورة الفرنسية من حريات وعدالة ومساواة وعلى أساس إقرار دولة قوة القانون وفصل السلطات والقطع مع دولة قانون القوة والاستبداد، بل وإلى حد استحضار مراسيم استقبال فرنسا لرموز أنظمة الاستبداد العربي المتساقطة اليوم، والحفلات المقامة لهم بين جدران القاعات الشرفية لقصر الإليزي وتحت أضواء ثرياتها البلورية وعدسات الإعلام الفرنسي، باعتبارها تبييضا لسجل هؤلاء وتلميعا لصورتهم بل ورشاوى سياسية حتى. وفيما يخشى اليمين الفرنسي من التداعيات السياسية لسقوط النظام العربي على مستقبل العلاقات التقليدية لفرنسا ومصالحها الإستراتيجية بشمال إفريقيا، ويراهن على أحد حفدة الجنرال دوغول ألان جوبيه لإخراج الديبلوماسية الفرنسية من موتها السريري، لا يخفي اليسار الهواجس المستبدة بأطياف اليمين الفرنسي أمام وهن الكي دورسي وندر انتخابات 2012، ومحاولاته توسل التقبض بألان جوبيه كعجلة إنقاذ لساركوزي كما سبق وأن فعل جاك شيراك إزاء مسؤولية الفضائح والاتهامات وسوء استخدام المال العام التي واجهته في أعقاب خروجه من قصر الإليزيه. مخاوف حاول خطاب ساركوزي تبديدها بمناسبة الإعلان عن تعديله الحكومي، بتسطيره على أن بلاده لا تخشى التغيير الذي يحصل في الدول العربية لأنه «تاريخي»، وأن الثورات العربية الجارية قد أطلقت مرحلة جديدة في علاقات بلاده مع هذه الدول التي تجمعها وإياها روابط التاريخ والجغرافيا. بيد أن تطمينات ساركوزي وحسب مقاربات سيل من الأعمدة الصحافية الموقعة بمارلي، والتي نسبت إلى بعض أعمدة السلك الدبلوماسي الفرنسي، ظلت أسيرة للدائرة الشاذة التي تقبع فيها الديبلوماسية الفرنسية على مدار سنوات، في تعاطيها مع أوضاع شمال إفريقيا وتكريسها لبنيات النظام العربي الاستبدادية تارة بدعوى خصوصيات المجتمعات العربية وطبيعتها غير الديمقراطية، وتارة بدعوى الحفاظ على الاستقرار وتطويق مخاطر تنامي الإرهاب، وهذا مقابل صفقات مغرية للمجمعات الصناعية والعسكرية وعلاوات لتمويل الصناديق السوداء لتغطية الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية... الأمر الذي يكشفه الحراك العربي اليوم تحت يافطة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تتصدر صدور الشعوب العربية وتصوغه أجندة ثوراتها السلمية، والتي لم تلق دعما حقيقيا يذكر من قبل فرنسا، كما أقر بذلك ساركوزي في سياق خطابه المذكور، بالرغم من أنه و»للمرة الأولى في التاريخ يمكن لهذه القيم أن تنتصر على كل ضفاف المتوسط»، وبالتالي يقول الرئيس الفرنسي «إذا كان التدخل غير مقبول» فإن «اللامبالاة» ستشكل «خطأ أخلاقيا واستراتيجيا». ولوضع كل هذه النوايا في مسارات الوقائع العنيدة التي يحبل بها الوضع العربي، فإن فرنسا مطالبة اليوم بالتأسيس لديبلوماسية جديدة، قوامها التخلي عن نظرتها الكولونيالية، والإقرار بعلاقات ندية مع الشعوب.. وعليه، يصبح من المستعجل رفع اليد على إرادة الشعوب العربية بل وعلى أرصدة الحكام المخلوعين والمودعة في الغرب حيث لا يوجد لصوص بينما خزائن بنوكه ملئى بأموال اللصوص.