في إطار مواكبته للإصلاحات القضائية الوطنية الكبرى، أعلن نادي قضاة المغرب، عن تقديم مذكرة حول مشروع مدونة سلوك القضاة، المبادرة الأولى من نوعها تحمل دلالات رمزية كبيرة، من بينها أن نادي القضاة اختار تقديم المذكرة بشكل علني ونشرها في موقعه الرسمي وفي الصحف وكافة وسائل الإعلام، تجسيدا لفكرة تتمثل في أن القضاء شأن مجتمعي، ومن حق المجتمع المغربي، أن يتابع النقاشات العميقة حول مشروع مدونة السلوك، منعا لأي نزعة فئوية حول هذا الموضوع، فمدونة سلوك القضاة يفترض أن تناقش بشكل علني لأنها ستحدد المعايير التي يتعين عليهم الاتصاف بها أمام المجتمع. من جهة ثانية، فإن هذه المذكرة تنضاف لسلسلة مذكرات، دأب نادي قضاة المغرب على تقديمها في كل ما يتعلق بإصلاح منظومة العدالة، وشملت مواضيع متعددة من بينها: قانون قضاء القرب، مشاريع قوانين السلطة القضائية، النظام الداخلي للمجلس، مشروع قانون رئاسة النيابة العامة، مشروع التنظيم القضائي، وهي مذكرات تشكل مساهمة عملية تعكس دور الجمعيات المهنية القضائية كقوة اقتراحية في ورش الاصلاحات القضائية التي تعرفها البلاد. أولا- ملاحظات عامة حول شكل المبادرة: تضمنت مذكرة نادي قضاة المغرب عدة ملاحظات أولية همت أساسا شكل المبادرة: من حيث الأجل: إن الأجل المحدد للجمعيات المهنية القضائية لتقديم ملاحظاتها حول مشروع مدونة سلوك القضاة يبقى أجلا غير كاف لإجراء استشارات موسعة مع القاضيات والقضاة عن طريق جمعياتهم أو عن طريق مؤسسة المجلس، كما أنه أجل غير كاف لا يسمح تماما بإمكانية الاستعانة بمناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ومن بينها الاستبيانات والمقابلات والاستمارات وإمكانيات توظيفها قصد الاستفادة منها في عملية وضع مشروع مدونة للسلوك قابلة للتطبيق العملي، تستجيب لواقع القضاة والمتقاضين وكل الفاعلين في مجال منظومة العدالة. من حيث توقيت المبادرة: سجل نادي قضاة المغرب تحفظه على توقيت المبادرة التي أتت سابقة لأوانها، في وقت لم يستكمل فيه المجلس الأعلى للسلطة القضائية إطاره التنظيمي والقانوني، وهو ما يعني أن المبادرة سابقة لأوانها. بخصوص تشكيل لجنة الأخلاقيات ودعم استقلال القضاة: رغم ترحيب نادي قضاة المغرب بمبادرة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتشكيل لجنة الأخلاقيات طبقا للمادتين 52 و106 من القانون التنظيمي رقم 103.13 المتعلق بالمجلس، فإنه أبدى تحفظه على طريقة تنزيل هذه اللجنة، اذ لم يعلن المجلس عن تركيبتها، كما لم يحدد صلاحياتها، واقترح النادي في هذا السياق قيام لجنة الأخلاقيات فور مباشرتها لأداء مهامها باستطلاع واستجماع آراء القاضيات والقضاة بخصوص مبادئ الأخلاقيات القضائية وتصوراتهم لآليات تنزيلها، واستشارة الفاعلين في منظومة العدالة، والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، لإعطاء مدونة السلوك مشروعية مجتمعية تتجرد عن أي نزعة فئوية ضيقة. كما اقترح نادي قضاة المغرب إفراد لجنة الأخلاقيات بمقتضيات تنظيمية داخل مشروع مدونة السلوك واعتبارها الأداة التنفيذية الكفيلة بالسهرعلى تنزيل المدونة، وتخويلها دورا استشاريا في تصرفات القضاة كلما ساورتهم الشكوك بشأنها عملا بأفضل التجارب الدولية في هذا الصدد. ثانيا-الإطار المرجعي لمذكرة نادي قضاة المغرب بخصوص مشروع مدونة السلوك تم إعداد مذكرة نادي قضاة المغرب حول مدونة سلوك القضاة اعتمادا على مختلف المرجعيات المعيارية والتصريحية على المستويين الوطني والدولي، وقد شملت المبادرة دراسة مقارنة لعدد من النصوص القانونية المنظمة لمدونات السلوك في عدد من البلدان الديمقراطية، وكذا بعض بلدان المنطقة، كما تم عقد عدة اجتماعات مع خبراء مغاربة وأجانب، وذلك بهدف تقريب التصورات المقدمة في إطار هذه المذكرة من أفضل الممارسات الجيدة المسجلة على الصعيد الدولي، في الوقت ذاته بادر نادي قضاة المغرب إلى تنظيم عدة ندوات وطنية وجهوية بهدف وضع أرضية أولية لتصورات القضاة حول منهجية إعداد مدونة السلوك ومضامينها. وعليه، تم اعتماد المرجعيات المعيارية والتصريحية التالية: – دستور 2011؛ – توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ولا سيما التوصية رقم 02 الواردة في إطار المحور السادس المتعلق بتأهيل القضاء وتقوية استقلاله؛ – العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار عدد 2200أ(د-21) المؤرخ في 16 ديسمبر 1966)؛ – مبادئ الأممالمتحدة بشأن استقلال القضاء والتي تم إقرارها في مؤتمر الأممالمتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، المنعقد خلال شهر دجنبر من سنة 1985 بميلانو، والمصادق عليها من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 40/32، المؤرخ في 29 نوفمبر 1985، و الإجراءات الفعالة لتنفيذ المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية، المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بمقتضى القرار عدد 44/162 المؤرخ في 15 دجنبر 1989؛ -ا لمبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة، كما اعتمدها مؤتمر الأممالمتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد بهافانا من 27 إلى 07 شتنبر 1990؛ – الميثاق العالمي للقضاة، الذي تم إقراره بإجماع المجلس المركزي للاتحاد الدولي للقضاة بتاريخ 17 نونبر 1999؛ – مبادئ بنغالور للسلوك القضائي والتي تم إقرارها من قبل مجموعة النزاهة القضائية في بانغالور بالهند في الفترة ما بين 24 و26 من فبراير 2001، قبل أن يتم مراجعتها خلال المائدة المستديرة لرؤساء المحاكم العليا المنعقدة بقصر السلام في لاهاي بهولندا خلال الفترة الممتدة ما بين 25 و26 نونبر 2002، والتي تم إقرارها كذلك من قبل لجنة حقوق الإنسان بالأممالمتحدة بمقتضى القرار عدد 43/2003، – الميثاق الأوربي حول نظام القضاة والذي صادق عليه مجلس أوربا بتاريخ 10 يوليوز 1998؛ – الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المعتمد بتاريخ 27 يونيو 1981، والمبادئ التوجيهية المتعلقة بالحق في محاكمة عادلة في إفريقيا، و المعتمد بقمة رؤساء دول الاتحاد الإفريقي في مابوتو خلال الفترة الممتدة ما بين 4 و 12 يوليوز 2003. – تقرير المقررة الخاصة المعنية باستقلال القضاة والمحامين حول المساءلة القضائية لسنة 2014؛ – الميثاق الأخلاقي لنادي قضاة المغرب، تمت المصادقة عليه من طرف المكتب التنفيذي بتاريخ 08 مارس 2017؛ – مدونة السلوك الانتخابي للقضاة تمت المصادقة عليها من طرف المكتب التنفيذي، ونشرت بتاريخ 27-06-2016. – توصيات الدورة الأولى للمجلس الوطني لنادي قضاة المغرب المنعقدة بالمعهد العالي للقضاء يومي 25-26 نونبر 2011. وعموما تبقى مبادرة نادي قضاة المغرب بوضع مذكرة للتصورات الأولية حول مدونة سلوك القضاة خطوة على درجة كبيرة من الأهمية لما في ذلك من مساهمة في تقوية القيم الأخلاقية داخل مجتمع القضاة وحصول حالة من الوعي الجماعي لديهم بموقعهم وبموقع المؤسسة القضائية في حماية دولة الحق والقانون. ثالثا- قراءة في المضمون شدد نادي قضاة المغرب في مذكرته على أهمية صياغة مدونة حديثة للسلوك تستند على مبادئ الأممالمتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية، ومبادئ بنغالور للسلوك القضائي المتمثلة في الاستقلال، الحياد، المساواة، النزاهة، اللياقة، والكفاءة، مع مراعاة خاصية التطور التي تعرفه هذه المبادئ بتطور الحياة العامة، والفكر الحقوقي، والشأن القضائي والقانوني وأفضل الممارسات الدولية في هذا المجال، كما دعا في الوقت ذاته إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار بعض السلوكات السلبية التي ترسخت داخل المشهد القضائي والتي وظفت كمدخل من مداخل التأثير غير المشروع على استقلال القضاة، والتي مارستها بعض مراكز التأثير من بينها على سبيل المثال جماعات الضغط، السلطة التنفيذية، بعض مكونات الإدارة القضائية، .. وفيما يلي أهم الملاحظات التي سجلتها مذكرة نادي قضاة المغرب بخصوص مبادئ بنغالور للسلوك القضائي، وبعض التعليقات عليها. 1 – الاستقلال: استقلال القضاة ينبغي أن يكون مقرونا بحريتهم في أداء مهامهم المتعلقة بالبت في القضايا المعروضة على أنظارهم دون تحيز وفقا لتقييمهم للوقائع وفهمهم للقانون، دون قيود أو تأثيرات أو دوافع أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات كيفما كان نوعها. التعليقات حول مبدأ الاستقلال مبدأ استقلال القضاء يستوجب من القضاة رفض كل تدخل أو محاولة غير مشروعة للتأثير أو الضغط من أية جهة كانت؛ والحرص على التبليغ عنها للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويعتبر نادي قضاة المغرب أن تشجيع القضاة على التبليغ عن مثل هذه السلوكات هي الضمانة الأساسية للحد منها. ينبغي أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في حماية القضاة من مختلف أشكال التضييقات التي تطالهم أثناء قيامهم بمهامهم، كما عليها أن توفر لهم كافة الظروف الملائمة لممارستهم لمهامهم. 2 – الحياد: يعني “الحياد” “أن تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الوقائع ووفقا للقانون، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة من أية جهة أو لأي سبب”. وهو ما يعني” أن لا يحمل القضاة أراءً مسبقة بشأن المسألة المنظورة أمامهم، وألا يتصرفوا بطريقة تعزز مصالح أحد الأطراف، وحيثما ينص القانون على أسباب عدم صلاحية القاضي، فإنه يتعيّن على المحكمة من تلقاء نفسها إستبدال أعضاء المحكمة وفقاً لمعايير عدم الصلاحية المنصوص عليها في القانون". التعليقات على مبدأ الحياد تلعب مسألة التوزيع الداخلي للقضايا بالمحاكم دورا مهما في حماية حياد القضاة حيث تؤكد مبادئ الأممالمتحدة على أن توزيع الأعمال مسألة داخلية تخص إدارة المحاكم، وينبغي أن تبقى خارجة عن تأثير رغبة أي من الفرقاء أو شخص ذي مصلحة في النتيجة التي ستؤول إليها القضية، وينبغي أن يتم هذا التوزيع وفق معايير موضوعية محددة سلفا، بهدف حماية الحق بقضاء مستقل وحيادي. وفي هذا الصدد اعتبر نادي قضاة المغرب أن تفعيل الجمعيات العامة للقضاة بالمحاكم مدخل أساسي من مداخل تجسيد مبدأ الحياد، لذا ينبغي على القضاة العمل على دمقرطة الجمعيات العامة، كما ينبغي على المسؤولين القضائيين احترام هذه المؤسسة، في انتظار صدور قانون جديد للتنظيم القضائي يفرض التوزيع الداخلي للقضايا بالمحاكم وفق آلية شفافة. د .أنس سعدون * دكتور في الحقوق