لم تشكل الحرب منطلقاً لسياسات وعقليات جديدة تؤسس لبنى ونظم اقتصادية واجتماعية وسياسية على مستوى العالم، تقطع مع تلك التي مهدّت للحرب وكانت سبباً في وقوعها! حذّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أوجه شبه عديدة بين ما نعيشه اليوم وبين الحال الذي كان عليه العالم عشية الحرب العالمية الأولى والثانية، مما ينذر بخطر «حصول أحداث لا يمكن التكهّن بنتائجها»، على حدّ قوله. تحذير غوتيريش يجد سنداً له في الكثير من الوقائع والمؤشرات التي يشهدها العالم فعلاً، بما فيها الأجواء التي رافقت احتفال العشرات من زعماء وقادة دول العالم في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى في باريس (11/11)، حيث وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال كلمته التي وصفت ب«العاطفية» أمام ضيوفه «رسالة مُضمرة» إلى نظيره الأميركي دونالد ترامب، مُنبّهاً إلى أن «الشياطين القديمة قد تنبعث مجدداً، وهي مستعدة لنشر الفوضى والموت»!. ومعتبراً أنّ: «الوطنية هي النقيض التام للقومية. القومية خيانة للوطنية»، في إشارة مباشرة إلى خطر سياسات ترامب «القومية والأحادية على العالم». ف«التاريخ قد يكرّر نفسه وتجاربه المأسوية، ويقوّض إرث السلام الذي كنا نعتقد بأننا وقّعناه بدماء أسلافنا»!، كما قال ماكرون. أما ترامب (العائد غاضباً من باريس)، فقد عاد ودافع عن وصف نفسه بأنه «قومي»، مجدّداً شكواه من أن الولاياتالمتحدة تدفع بلايين ل «حماية دول أخرى، ولا تحصل على شيء سوى عجز تجاري وخسائر»، ليخلص إلى أنّ على تلك الدول، «إما أن تدفع للولايات المتحدة لحمايتها العسكرية العظيمة، وإما أن تحمي نفسها»!. وهو ما يحيل إلى أساليب أقرب للبلطجة والغطرسة وفرض «الخوّات» منها إلى سياسات العالم «المتمدّن» والقرن الواحد والعشرين!، فهي إضافة إلى إعلائها من شأن «النزعة القومية»، تعود بنا إلى زمن «الحمائية» وفرض ضرائب عالية على البضائع الواردة إلى الولاياتالمتحدة، مع إعلان انسحابه من اتفاقات تجارية وقّعت عليها إدارات أميركية سابقة. كلّ ذلك، وضع الولاياتالمتحدة أمام توترات سياسية وحروب تجارية (يمكن أن تتحول في لحظة ما إلى حروب عسكرية) مع عدد من دول العالم، تقف في مُقدّمها الصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك… الخ، ناهيك عن انسحاب ترامب من بعض الاتفاقات العالمية؛ مثل اتفاقية باريس للمناخ، وازدرائه لتكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية تعدّ أركاناً تقليدية في النظام العالمي القائم، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وسواها، الأمر الذي شكّل نكوصاً مباشراً عن مرحلة العولمة التي يفترض أنها طوت مثل هذه السياسات!. تذكير بأهوال الحرب الاحتفال الباريسي بمرور مئة عام على كارثة الحرب العالمية الأولى، كان الغرض منه التذكير بأهوال ومآسي تلك الحرب التي أوقعت قرابة 18 مليون قتيل. فتحدّث ماكرون في خطابه ب«تأثر وخشوع» عن أهوال الحرب، داعياً إلى نبذ «الافتتان بالانطواء والعنف والهيمنة»، ومشدداً على أهمية السلام و«ذهنية التسوية والحوار، للتوصل إلى عهد التفاهم». مشيراً إلى «الاتحاد الأوروبي الذي تمّ برضا حرّ لم يشهد التاريخ مثله، ليحرّرنا من حروبنا الأهلية». ومن هنا فقد كان مستغرباً أن يكون بنيامين نتانياهو أحد المدعوين إلى هذا الاحتفال، في الوقت الذي يعرف فيه القاصي والداني الدور الذي تلعبه إسرائيل في رفض السلام وإشعال الحروب والتوتر الدائم في المنطقة المعروفة بالشرق الأوسط!!. هل تمّ استخلاص العبر؟ وفي الواقع، فقد خرجت أوروبا منهكة من تلك الحرب؛ بما لا يقل عن 10 ملايين قتيل من جنودها وجرح 20 مليوناً آخرين، أي ملايين المعوقين والأرامل واليتامى، فضلاً عن عشرات الملايين من المدنيين بسبب المذابح والجوع وتفشي الأمراض والأوبئة المعدية، لكن وعلى رغم ذلك كلّه، فإن دول العالم عامة، والدول المعنية بالحرب على وجه الخصوص، بدت وكأنها لم تستخلص العبر والدروس الواجبة!. فلم تشكل الحرب انعطافة ومنطلقاً لأفكار وسياسات وعقليات جديدة تؤسس لبنى ونظم اقتصادية واجتماعية وسياسية تقطع مع تلك التي مهدّت للحرب وكانت سبباً في وقوعها!. والحال، فقد استمرّت الأمور على ما هي عليه، وتواصلت الخلافات بين الدول الأوروبية الاستعمارية المُسبّبة للحرب، مُمهّدة الطريق لحرب جديدة، في وقت كانت فيه مصالح الدول المهيمنة آنذاك تشهد تكالباً على النفط المكتشف حديثاً، وكذلك على شبكات السكك الحديد، إحدى أهم العوامل المساعدة على التوسع الصناعي والتجاري والكولونيالي عموماً.