على الرغم من أن فكرتها تعود إلى ستينيات القرن الماضي، عندما بدأ انتشارها في الجامعات الأمريكية حيث أصبحت اليوم معطى أساسيا في مناهج التدريس، إلا أن “العيادات القانونية” ما تزال غير معروفة في بلادنا، علما أن هناك بعض التجارب الجنينية المحدثة في عدد من الجامعات المغربية والتي تحاول أن تستهدف أساسا تحقيق نوع من التفاعل بين الدراسة النظرية والممارسة الميدانية في المهن القانونية. و”العيادة القانونية” أو “المصحة القانونية” (Clinique Légale ou Juridique)، تندرج في سياق التعليم القانوني الإكلينيي أو السريري (Enseignement clinique du droit)، وهي بمثابة وحدات دراسية جامعية تتيح للطلبة في سلك الإجازة أو الماستر، مجالا تطبيقيا لربط معارفهم النظرية المكتسبة خلال مسارهم الجامعي بالواقع الميداني، تحت إشراف وتأطير أساتذة جامعيين ومحامين وقضاة وممارسين للقانون، بما يساهم في تكوين أجيال من رجال ونساء القانون أكثر تمكنا وتمرسا لدى التخرج. من جانب آخر، تقوم العيادة القانونية بدور مهم في خدمة المجتمع والبيئة المحيطة، حيث تستهدف الطبقات الفقيرة والمهمشة المحتاجة. فهناك فئات واسعة لا تملك تكاليف الذهاب إلى محام لطلب المشورة القانونية، ولا تملك كذلك المصاريف المقررة لرفع الدعاوى القضائية من أجل دفع ظلم أو للمطالبة بحق، ومن ثمة تتضح أهمية العيادة القانونية في مساعي الوصول إلى العدالة الاجتماعية وبناء دولة الحق والقانون. من هذا المنطلق، تسعى “الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق النساء” إلى إيجاد أرضية للاستفادة من فكرة العيادات القانونية في عملها مع النساء المعرضات لمختلف أشكال العنف واللواتي يعانين في نفس الوقت من الهشاشة. ولذلك نظمت الجمعية مؤخرا بمدينة الدارالبيضاء، بتعاون مع اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة الدارالبيضاء- سطات، ورشة للتفكير حول موضوع: “العيادة القانونية كآلية لتقوية القدرات والوقاية من العنف القائم على النوع الاجتماعي”. وكما جاء على لسان الأستاذة نجاة الرازي، رئيسة الجمعية، في كلمة خلال اللقاء، فإن ضحايا العنف القائم على النوع يعتبرن من الفئات الأكثر هشاشة في مجتمعنا المغربي. إذ بالإضافة إلى الانتهاكات التي تطال حقهن في الأمن والسلامة، وتمس بكرامتهن الإنسانية، فإنهن يواجهن العديد من العراقيل عندما يتعلق الأمر بالولوج إلى العدالة من أجل الانتصاف، مما يجعلهن في كثير من الأحيان يتخلين عن الدفاع عن حقوقهن المشروعة. وعلى الرغم من وجود عدة مستجدات تشريعية، تضيف الرازي، تسعى في مجملها إلى مكافحة الظاهرة، وآخرها دخول القانون 103.03 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء إلى حيز التنفيذ في شتنبر الماضي، فإن الإحصائيات الرسمية وتقارير مراكز الرصد والاستماع والإرشاد التابعة للجمعيات النسائية، ما زالت تعكس ارتفاعا في نسب ارتكاب العنف، وانتشارا لخطاب اللاتسامح ضد النساء اللواتي يفضحن مظاهره أمام القضاء، في مختلف المجالات، وعلى رأسها وسائط التواصل الاجتماعي. هذه التحديات وأخرى، تقول المتحدثة، أضحت تفرض أهمية التفكير في تعزيز آليات الوقاية والحماية لفائدة النساء ضحايا العنف، ومن بينها آلية التربية على المساواة ومناهضة العنف في المناهج الدراسية وبرامج التربية والتكوين والإعلام، والعمل على نشر قيم حقوق الإنسان والمساواة عبر مختلف قنوات التنشئة الاجتماعية، ومن بينها قناة الدراسات الجامعية في المجال القانوني. وقدم الأستاذ الجامعي بكلية الحقوق بسطات عبد الجبار عراش، خلال هذه الورشة، عرضا تأطيريا أعطى من خلاله تعريفا للعيادة القانونية والتحديات المجتمعية التي جاءت لتجيب عنها، كوسيلة من أجل التمكين والوعي القانونيين في المجتمع، الهادفين إلى محاربة التعسف والظلم بمختلف أوجههما، وذلك من خلال إكساب طلبة القانون للمعرفة الأكاديمية والتكوين الناجع اللذين يفضيان إلى ممارسة أكثر وعيا والتزاما للمهن القانونية، وأكثر تفاعلا وديناميكية مع متطلبات وهموم المجتمع. وأكد الأستاذ عراش على أن “العيادة القانونية” يمكن ألا تقف عند حد الدراسات الجامعية في مجال القانون وحقوق الإنسان، بل يمكن أن تتعداه إلى مختلف المجالات المجتمعية الأخرى، شريطة أن تستجيب لشروط إحداثها كفضاء معرفي جامعي للتفاعل بين الطالب والأستاذ والمجتمع، ممثلا في هيئات المجتمع المدني وكذا المستفيدين من خدماتها من الفئات المهمشة. من جانبها، طرحت شوميسة رياحة، عن اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة الدارالبيضاءسطات، ضرورة وضع بعض الحدود الفاصلة بين العيادة القانونية كمجال آخر للتغيير المجتمعي على مستوى إعمال حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبين تجربة مراكز الاستماع والإرشاد القانونية للنساء ضحايا العنف، التي راكمتها الجمعيات النسائية، والتي تقوم بدورها بعملية التوجيه والمساعدة لهاته الفئة من النساء، مع توجيههن إلى المؤسسات المعنية بالدفاع عن حقوقهن أمام القضاء، وعلى رأسها هيئة المحامين. واعتبرت المتحدثة أن العيادة والمركز يمكن أن يحققا معها نوعا من التكامل في العمل على الدفاع عن قضايا وحقوق النساء، مع تحقيق نوع من التفاعل كذلك بين الجامعة والمجتمع المدني على هذا المستوى. وتم خلال اللقاء تقديم تجربة عدد من العيادات القانونية التي تحتضنها بعض الجامعات المغربية، ومن بينها تجربتان بجامعة سطات، إحداهما تحت إشراف الدكتور عبد الجبار عراش، والأخرى تحت إشراف الدكتور جمال الدين معتوق، فضلا عن تجربة العيادة القانونية التي تحتضنها جامعة المحمدية بشراكة مع جمعية “عدالة” وجمعية “محامون بلا حدود” حيث يقوم أكثر من 40 طالبا بأنشطة تجمع بين التحصيل الأكاديمي تحت إشراف الأساتذة وبين خدمات للفئات المحتاجة من نساء معنفات وأطفال ومسنين، بتعاون وتنسيق كذلك مع عدد من جمعيات المجتمع المدني المشتغلة مع تلك الفئات. ومن المقرر أن تفضي أشغال الورشة إلى بلورة “الجمعية المغربية للدفاع عن حقوق النساء” لعناصر دليل مبسط يتضمن الإجراءات المتعلقة بخلق عيادة قانونية خاصة بالوقاية من العنف المبني على النوع الاجتماعي، كآلية لتعزيز عمل الجمعية في مجال الحماية والوقاية لحقوق النساء.