يعد الصيف موسما دوريا لحرائق الغابات في مختلف أنحاء العالم، لكن صيف 2018 كان لافتا في عدد الحرائق المسجلة والمساحات المتضررة. وتسببت موجة الحر والجفاف التي سيطرت على مناطق واسعة في شمال أوروبا وأميركا الشمالية بحصول حرائق ضخمة، حتى في المناطق التي تعد باردة وأكثر رطوبة كما في بريطانيا وألمانيا والبلدان الإسكندنافية، بل وامتدت الحرائق إلى شمال الدائرة القطبية. الحر والجفاف، اللذين سجلت الأقمار الاصطناعية مظاهرهما الصريحة على الأراضي الزراعية، كانا العاملين الأساسيين في اندلاع الحرائق وانتشارها وخروجها عن السيطرة في العديد من الحالات، كما حصل في كاليفورنيا وفي محيط أثينا وبرلين. ويخشى أن تكون الأضرار التي طالت الغابات هذه السنة بفعل الحرائق نموذجا مصغرا عما ستكون عليه الحال خلال السنوات القادمة نتيجة تغير المناخ، حيث ترتفع درجات الحرارة إلى أرقام قياسية في الصيف وتزداد فرص حصول البرق المسبب للحرائق في الشتاء. مخاطر طبيعية وبشرية وتعد الحرائق الناتجة عن الجفاف واحدة من الكوارث الطبيعية التي تصيب الغابات إلى جانب الأضرار التي تتسبب بها العواصف الشديدة مثل الأعاصير المدارية، وكذلك الفيضانات وموجات التسونامي والزلازل. وخلال الفترة بين 1996 و2015 أدت الكوارث الطبيعية إلى تدمير 800 مليون هكتار من الغابات، حيث كانت العواصف مسؤولة وحدها عن نحو 90 في المائة من الأضرار. وتعتبر الآفات والأمراض والأحداث المناخية الشديدة، كالصقيع والجفاف، من بين الاضطرابات الطبيعية التي تلحق ضررا ملحوظا بالمناطق الحراجية. ففي أمريكا الشمالية والوسطى، تأثرت مناطق من الغابات تبلغ مساحتها 58 مليون هكتار بالآفات والأمراض لاسيما خنفساء اللحاء. وفي أوروبا، تضرر 768 مليون هكتار من الغابات بسبب الجفاف، كما ألحقت الرياح ضررا بنحو 100 ألف هكتار بين 1996 و2001. وإلى جانب الأسباب الطبيعية، تؤدي الأنشطة البشرية إلى إزالة مساحات واسعة من الغابات. وتشمل هذه الأنشطة التحطيب غير القانوني، وتغيير استخدامات الأراضي لتوفير مساحات للزراعة أو للتوسع الحضري أو لتنفيذ البنى التحتية، وكذلك التعدين والاستغلال غير الرشيد للموارد. وتعد الأنشطة البشرية من أهم العوامل لتراجع مساحات الغابات في حوض الأمازون (مشاريع السدود والطاقة)، وفي ماليزيا وإندونيسيا (زراعة أشجار زيت النخيل)، وفي البلدان العربية ومجمل الدول النامية (الزراعة والسكن العشوائي). الوقت بدأ ينفذ.. وتتراوح الأراضي التي تغطيها الأشجار في العالم ما بين 25 و30 في المائة من مساحة اليابسة. وتقدر منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” أن مساحة الغابات في سنة 2015 كانت تبلغ 4 بلايين هكتار، تشغل الغابات الكبرى منها 11 في المائة من مساحة اليابسة. وتحظى 5 دول فقط بأكثر من نصف حصة الغابات العالمية، وهي روسيا وكندا والبرازيل والولايات المتحدةوالصين. أما الدول التي تعرضت لأكبر الخسائر في غطائها الشجري في سنة 2017، فهي روسيا ثم البرازيل وكندا والولايات المتحدة وإندونيسيا. ووفقا لمبادرة “المراقبة العالمية للغابات” التابعة لمؤسسة الموارد العالمية، خسر العالم 8.4 في المئة من غاباته بين 2001 و2017، أو ما مساحته 337 مليون هكتار، وبلغت الخسارة في سنة 2017 وحدها 29.4 مليون هكتار. وفي المقابل، تمكن العالم من استرداد نحو ثلث الغابات المفقودة من خلال إعادة زراعة الأشجار، لتكون الخسارة الصافية خلال هذه الفترة في حدود 5 في المائة، وهي نسبة ذات شأن استناداً إلى الفترة الزمنية القصيرة. وكان تقرير جديد صدر عن منظمة الفاو حذر من أن الوقت بدأ ينفد بالنسبة لغابات العالم، التي تتقلص مساحتها الإجمالية يوما بعد يوم. ويحث التقرير الحكومات على اتباع نهج شامل كليا يعود بالنفع على الغابات كما على الناس الذين يعتمدون عليها. ويقول تقرير “حالة الغابات في العالم 2018” إن وقف إزالة الغابات وإدارتها على نحو مستدام وتعافي الغابات المتدهورة وإضافة المزيد من الأشجار إلى الغطاء الشجري في جميع أنحاء العالم يتطلب تنفيذ إجراءات لتجنب العواقب المدمرة المحتملة على كوكب الأرض والسكان. ويوثق تقرير هذا العام مدى أهمية الغابات في دعم أهداف جدول أعمال التنمية المستدامة 2030، التي تتراوح بين معالجة تغير المناخ، والحفاظ على التنوع البيولوجي، والحد من عدم المساواة، وتعزيز المواطن الحضرية. كما يقدم دليلا ملموسا على مساهمات الغابات المتعددة ويقوم بتخطيط مسارات لها لتتمكن من تقديم المزيد. ويشدد التقرير على أهمية وضع أطر قانونية واضحة بشأن حقوق حيازة الغابات، ويثني على زيادة التوجه نحو الإدارة المحلية، ويدعو إلى إقامة شراكات فعالة ومشاركة القطاع الخاص في السعي نحو تحقيق أهداف مستدامة. ونظراً لأن إزالة الغابات هي ثاني الأسباب الرئيسية لتغير المناخ بعد حرق الوقود الأحفوري، يقول التقرير إن “تحمل الشركات مسؤولياتها في الحد من إزالة الغابات هو أمر أساسي”. ثروة لا يصح التفريط بها ولئن كانت إزالة الغابات سببا هاما في تغير المناخ بفعل إطلاق 12% من غازات الاحتباس الحراري العالمي، فإن زراعة الأشجار تساهم في إبطاء تغير المناخ بامتصاص ثاني أوكسيد الكربون المنطلق من احتراق الوقود الأحفوري بفضل عملية التمثيل الضوئي التي تنتج الأوكسيجين أيضا. وتعد الغابات المطيرة مصدرا لنحو 40 في المائة من الأوكسيجين على كوكب الأرض. كما تمثل الغابات موئلا ل80 في المائة من الأنواع الحية التي تستوطن اليابسة، وهي تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحقيق الأمن الغذائي وتوليد الطاقة. ويقدر أن 1.6 بليون شخص حول العالم يعتمدون على الغابات كمصدر لمعيشتهم، أي نحو خمس سكان كوكب الأرض. وتوفر الغابات فرص عمل للسكان الذين لا يملكون خيارات عديدة للعمل خارج قطاع الزراعة. وهي تنتج أكثر من 5000 نوع من المنتجات القائمة على الأخشاب، تبلغ قيمتها المضافة الإجمالية السنوية أكثر من 600 بليون دولار، أي نحو واحد في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. كما أن الغابات مصدر مهم للطاقة في العديد من البلدان، إذ أن الكتلة الأحيائية الصلبة، كحطب الوقود والفحم النباتي، مصدر لنحو 65 في المئة من مجموع إمدادات الطاقة الرئيسية في أفريقيا. وسيبقى الوقود القائم على الأخشاب مصدراً رئيسيا للطاقة في البلدان المنخفضة الدخل لبعض الوقت، حيث يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه بديل أخضر للوقود الأحفوري، تبلغ حصته 40 في المائة من الطاقة المتجددة العالمية، وهذا يعادل مجموع ما يتم توليده من الطاقة الشمسية والكهرومائية وطاقة الرياح. وتوفر الغابات الخدمات الأساسية التي تدعم القطاعات الرئيسية كالزراعة والطاقة والمياه والتعدين والنقل والقطاعات الحضرية، وذلك من خلال المساعدة في الحفاظ على خصوبة التربة، وحماية الأحواض المائية، وتوفير الموائل لمجموعة كبيرة من الأنواع، والحد من مخاطر الكوارث الطبيعية بما في ذلك الفيضانات والانهيارات الأرضية. قصص نجاح يؤكد تقرير منظمة الفاو الأخير على أن الإدارة المستدامة للغابات هي ضرورة حتمية لتلبية احتياجات العالم من المياه والطاقة. وتوجد أمثلة عديدة تشير إلى ارتفاع نسبة الوعي وزيادة تدريجية في الممارسات المستدامة المتعلقة بالغابات والأشجار في العالم. فعلى سبيل المثال، يتم اليوم إعادة تدوير أكثر من 56 في المائة من الورق، بعد أن كانت النسبة أقل من 25 في المئة سنة 1970. وأدى استخدام المواد المهملة لصناعة الألواح الخشبية للبناء إلى نمو الإنتاج بسرعة أكبر أربع مرات من متطلبات الأخشاب الجديدة خلال العقدين الماضيين. وفي البرازيل، يساند البنك الدولي الحكومة في تحسين إدارة غابة سيرادو وحمايتها، وهي ثاني أكبر منطقة أحيائية في أميركا الجنوبية. وتتم إزالة أشجار الغابة بسرعة تزيد بمقدار الضعف عن سرعة إزالة الأشجار في حوض الأمازون بسبب قطع الأشجار لتهيئة الأرض للزراعة وتربية الماشية. وتعتبر غابة سيرادو محركا للنمو الاقتصادي، وهي مهمة للأمن الغذائي والحفاظ على التنوع البيولوجي وتنظيم المياه وامتصاص الكربون. وتتصدى الاستثمارات الجارية للعوامل المحركة لأعمال إزالة الغابات عن طريق توضيح الحقوق في الأراضي، وجعل الإنتاج الزراعي أكثر استدامة، وتوفير الرقابة والمعلومات، وبناء القدرة على رصد حرائق الغابات ومكافحتها والحيلولة دون حدوثها. وفي الصين، قام مشروع “شاندونغ للتشجير الإيكولوجي” بين 2010 و2016 بزراعة أشجار على مساحة 67 ألف هكتار في المنحدرات الجبلية القاحلة والمناطق الساحلية المالحة، وزيادة غطاء الغابات، والحد من تآكل التربة وتحسين البيئة والتنوع البيولوجي. وفي السنغال، ساعد مشروع “إدارة الطاقة التشاركية المستدامة” في مواجهة الطلب المتزايد على الوقود المنزلي وقلل من تدهور الغابات. وأفاد مكوّن الإدارة المستدامة لإمدادات الحطب في المشروع نحو 250 ألف شخص بشكل مباشر، وأسس دخلاً مستداماً متزايداً من المنتجات الخشبية وغير الخشبية تبلغ قيمته حوالي 12.5 مليون دولار سنويا، أي ما يعادل 40 ألف دولار في المتوسط لكل قرية مشاركة. ونتج أكثر من 3.7 مليون دولار من هذا المبلغ عن أنشطة اقتصادية تقودها المرأة. وفي ليبيريا، ساعد “برنامج الغابات” على نشر نظام الرصد الذي يتتبع الأخشاب بدءاً من قطعها في الغابات حتى نقطة التصدير عبر أنظمة (الباركود) وأشكال أخرى من البيانات. وقد نجح هذا النظام في مكافحة القطع غير المشروع للأشجار وأدى إلى تأمين إيرادات ضريبية صافية تزيد على 27 مليون دولار للدولة. إن أغصان الأشجار والغابات تطال جميع أهداف التنمية المستدامة، فالزراعة المستدامة تحتاج إلى غابات صحية ومنتجة، والأشجار والحدائق والغابات مكون أساسي في مدن المستقبل ومحيطها الطبيعي. لذلك يجب اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على الغابات في كل مكان، إذ أن الوقت يداهمها ومساحتها تتقلص يوما بعد يوم. عبد الهادي النجار