يبدو هذا العنوان غرائبيا ومستحيلا، إذ أننا درجنا على ضرب المثل بعنق زجاجة واحدة وليس زجاجتين كلما اشتدت علينا أزمة ما واستعصى علينا حلها فنقول إنها «لم تخرج من عنق الزجاجة» على اعتبار أن جوف الزجاجة أوسع من أنبوب عنقها الضيق الذي يعاكس سراح ما بداخلها للانفلات إلى فسحة الخارج خصوصا إذا كان هذا الشيء الرهينة صلبا وليس سائلا. وتأسيسا إذن على هذا المثل الشائع فتجربتنا الديموقراطية لم تخرج بعد من عنق الزجاجة منذ ما يقارب ربع قرن من الزمن على دخول المغرب منعطف المسلسل الديموقراطي الذي دشنه الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله منذ مطلع التسعينات بتوافق مع أحزاب الكتلة الديموقراطية وهيآت المجتمع المدني. فبقدر ما حققنا وثبات جديرة بالتنويه والاعتراف الدولي في إنجازات ديموقراطية رائدة على مستوى العالم العربي والقارة الإفريقية من خلال إبداع آليات تقدمية وجريئة في المجال الحقوقي والسياسي والسوسيو – اقتصادي أحدثت من دون شك نوعا من الانفراج السياسي ومدت جسور المصالحة بين المواطن والسلطة التقليدية، بقدر ما تزال هناك عديد من المتاريس والتعثرات التي تجعل ممارستنا الديموقراطية تظل فتية وهشة مشوبة بالتردد بين إيقاع «نريد ولا نريد» ما يجعلها بكل يقين لم تخرج بعد من عنق زجاجتها الأولى … أما علاقة ديموقراطيتنا بعنق الزجاجة الثانية فتلك حكاية أخرى تدعو للعجب والعجاب إن لم يكن للطم الخدين وندبهما حد الإدماء بسبب ما يطال مسارنا الديموقراطي من تشويه وتمييع وابتذال وتراجعات وما إلى ذلك من النعوت المريرة التي تصور المشهد السياسي اليوم برمته في لحظة سوريالية ومبهمة، وأننا فعلا نعيش انتكاسة حقوقية لا تبعث على الارتياح على مستقبل البلاد ولا تؤشر على أننا قادرون على طي صفحة الماضي بشكل لا رجعة فيه. ليس لعنق الزجاجة الثانية هنا تلك الدلالة الشائعة والبعد الرمزي والإيحائي وإنما هي زجاجة حقيقية ومادية لا تحبل في جوفها برسالة قد تحملها أمواج الراهن السياسي المغربي إلى ضفة السلم الاجتماعي في المستقبل القريب والبعيد، وإنما هي زجاجة معبأة ب «البيرة» و»الروج» تم إقحامها بنية مبيتة كطقس دال وملغز في عشاءات مناقشة تحت يافطة 1Diner 2 cons استدعيت لها نخبة من مختلف الطيف الحقوقي والثقافي والإعلامي وحتى السلفي في المغرب مما يجعل كل مواطن مغربي سواء أكان أميا وغبيا أو مثقفا وعالما يدرك أن ذلك العشاء الذي تخطت أسئلته الجريئة لما يعرف في أدبياتنا السياسية بالخطوط الحمراء التقليدية وتجاوز في وقفته الشجاعة سقف السقوف، أقول إن عشاء المناقشة ذاك، بعكس ما تطلع إليه منظموه، فقد انقلب على مراميهم وقلب مائدة النقاش على أصحابها بما حملت من جمرات الأسئلة الحارقة وزجاجات سبيسيال و»طابا» لذيذة وجعلتنا من جهتنا نحن جمهور اليوتيوب في سحابات دخان لفافاتهم نتساءل عن جدوى فبركة هذا السيناريو المحبوك بلغة دارجة منغمسة في الميوعة وعرنسية التروتوارات والألفاظ الفاحشة أحيانا !! فإذا كان هدف رسالة الجهة المخرجة لعشاءات Diner2cons 1 الحمراء هو تصريف وممارسة حق من الحقوق الدستورية المتعلقة بحرية الأفراد وتكريس حقهم الطبيعي والوضعي في ممارسة نزواتهم الخاصة ما ظهر منها وما بطن، فهذا يكفله الدستور وكل المواثيق الدولية للإنسانية جمعاء وليس للمغرب فحسب… لكن أما وأن ذلك المشهد «الحاناتي» الشاذ الذي كان غاية قصوى في حد ذاته أكثر مما كانت غايته الأساسية النبش في جحر أسئلة المغرب الراهن اللاذغة والمحظورة حول معيقات التطور السياسي والديموقراطي، فإن عشاء «جوقة العميان» ذاك قد ورط ديموقراطية منظميه وضيوفه في عنق زجاجة ثانية سوف تبقى الرسالة السياسية في جوفها رهينة إلى أن يصحو المشاركون فيه من الثمالة ويخرجوا من غيبوبة الأدخنة الحالمة … وحتى لا تذهب ببعض ضيوف عشاءات المناقشة وغيرهم الظنون السيئة والقراءات المقلوبة على رأسها لمقالتي هاته، فإنه لم يسبق لي في مساري الثقافي والأدبي منذ أربعين عاما أن لعبت دور الشرطي أو الفقيه الواعظ أو المثقف السلفي، بل إنني كنت وما أزال من أشد المدافعين عن حرياتنا الخاصة والعامة طالما أنها تتوافق مع بعض قيم الحداثة الرصينة وتقف أيضا عند حدود حرية الآخرين… إنني لست ضد تلطيف وتأثيث موائد عشاءات المناقشة بما لذ وطاب من التراويق والزجاجات الغازية أو الروحية أو المائية فتلك ميزة من موضة ثقافة عصرنا لا مفر لنا من القبول والتشبع بها، بل إنني فقط أعبر عن تحفظي الشديد لتوثيق هذه العشاءات الحميمية والجادة والهادفة بالفيديو وتعميمها على موقع التواصل الاجتماعي يوتيوب، لأنها من دون شك سوف تصبح مرجعا هاما في المحتوى الرقمي المغربي قد يتم اعتماد آرائه وشهاداته كوثيقة رقمية دالة عن لحظة سياسية ساخنة في تاريخ المغرب المعاصر.. ومن جانب آخر إذا كان من بين أهداف تعليمنا وبيداغوجيتنا العامة هو تربية شبابنا على ثقافة النقاش الحر والمسؤول في مختلف الفضاءات والطقوس والإشكاليات المختلفة، فإنه من الغباء أيضا أن يعتقد منظمو عشاءات Diner2cons 1 أن شبابنا سيتعلمون منهم آداب الحوار السياسي الهادف بل أخشى عليهم أن يتعلموا كيف يناقشون لكن في طقوس قلة أدب وانحراف بالغين…