بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وهيمنة إيران عليه، وتقويض بنى الدولة والمجتمع فيه، ثم بعد انهيار سوريا، دولة ومجتمع، وصعود نفوذ إيران في المشرق العربي، باتت إسرائيل تبدو بالقياس لإيران، وكأنها في مكانة الدولة الأقل خطورة على النظام العربي، وباتت المخاوف الناجمة عن تمدد إيران في المنطقة تحتل الأولوية بالقياس للصراع العربي- الإسرائيلي، علما أن ذلك لا يقلل من خطورة إسرائيل أو من الأهمية التي تتمتع بها القضية الفلسطينية في سلم الأولويات الدولية والإقليمية، كما أن مواجهة التحدي الذي تمثله إيران لا يطمس التحديات الناجمة عن وجود إسرائيل على الفلسطينيين وعلى المنطقة العربية. وفي الواقع فإن صعود إيران ما كان ليحصل على هذا النحو، من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا واليمن، لولا التساهل والاستثمار الأميركي والإسرائيلي في إيران، إذ أن هذا الاستثمار هو الذي مكّن من تقويض أهم دولتين في المشرق العربي هما العراقوسوريا، بحيث أضحت إسرائيل بمثابة دولة آمنة لعقود من السنين، وهذا الوضع بالذات هو الذي يسمح لها بالاستفراد بالفلسطينيين وفرض إملاءاتها عليهم، على النحو الذي نراه في عديد من المجالات وأهمها: أولاً، التملص من كل استحقاقات عملية التسوية وضمنها اتفاق أوسلو المجحف بحقوق الفلسطينيين، والتحرر تاليا من خيار حل الدولتين، والتوجه نحو فرض الأمر الواقع، بحيث يكون الفلسطينيون إزاء واقع سلطة فلسطينية هي أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، أي سلطة على السكان لا على الأراضي والموارد والجوار، بحيث تنهي احتكاكها بالفلسطينيين أو تحمل أي أعباء سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو حتى أخلاقية، ناجمة عن الاحتلال والسيطرة. ثانيا، انتهاء الالتزام الأميركي بعملية التسوية، مع وجود إدارة دونالد ترامب واعترافها بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ووقف تمويلها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، ما يعني ذلك الانتهاء من الوهم المتعلق باعتبار الولاياتالمتحدة بمثابة راع نزيه أو طرف محايد أو وسيط نزيه، في عملية السلام، في حين أنها الحليف الاستراتيجي لإسرائيل. ثالثا، في هذه الظروف وبحكم الصراع الدائر في سوريا، تتجه إسرائيل لتمرير صيغة من القبول الدولي لضمها هضبة الجولان، أو إضفاء نوع من شرعية دولية على ذلك، بالتوافق مع الولاياتالمتحدةوروسيا، بدعوى أنه لم يعد بالإمكان تغيير الوضع القائم في الهضبة في ضوء الظروف الراهنة. رابعا، على ضوء كل ما تقدم يمكن تفسير تمرير إسرائيل لقانون "القومية" الجديد، وتشريعه كقانون أساس (بمثابة مادة دستورية) في الكنيست، وهو القانون الذي يجعل من فلسطينيي 48 مجرد أقلية مقيمة، ويجعل من إسرائيل دولة يهودية، أي دولة عنصرية من النهر إلى البحر وعاصمتها القدس الموحدة، مع تشريع الاستيطان في كل مكان من دون ربط ذلك بقيم المواطنة المتعلقة بالمساواة بين المواطنين، ومن دون ربط ذلك بعملية التسوية مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة والقطاع). القصد أنه ما كان لهذه التطورات أن تحصل لولا توفر مجموعة من العوامل أهمها: أولا، تولد شعور لدى إسرائيل بأنها أضحت بمثابة الدولة الأقوى في المنطقة، بلا منازع ولا مهدد، وفوق ذلك فهي باتت بأمان أكثر من أي فترة في تاريخها، إذ لم تعد هناك جيوش، بمعنى الكلمة، في الدول المجاورة (باستثناء مصر التي تفصلها عنها شبه جزيرة سيناء)، وغابت الجبهة الشرقية تماما. ثانيا، أضحت إسرائيل تتمتع بدعم أقوى دول العالم، إذ إضافة إلى الولاياتالمتحدة فهي تحظى بدعم روسيا أيضا، ويكفي أن بنيامين نتنياهو زار روسيا، والتقى بفلاديمير بوتين، عشر مرات، منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا أواخر سبتمبر 2015، وذلك إضافة إلى احتكارها السلاح النووي وترسانتها الحربية المتفوقة. ثالثا، على الصعيد الإقليمي باتت إسرائيل في مركز قوة، فثمة إجماع على إخراج إيران من المنطقة، أقله من سوريا، أو تحجيم نفوذها بعد أن انتهى دورها، أو انتهى الاستثمار في دورها، أما تركيا فهي في وضع حرج في علاقاتها مع حلف الناتو، أي مع أوروبا والولاياتالمتحدة، في حين علاقاتها مع روسيا تبقى موضع تساؤل أو مازالت في موضع اختبار تبعا للتطورات الدولية والإقليمية. هذا مجرد جرد أولي للاستثمار الإسرائيلي في انهيار المشرق العربي، الأمر الذي ينبغي إدراكه، وتدارك تداعياته على الفلسطينيين، وعلى عموم المنطقة. ماجد كيالي