إيمانويل طونيوتي يرسم العلاقة الممكنة بين التجارة والعمل وبين الأخلاق والعواطف قدم إيمانويل طونيوتي، الدكتور في علم اللاهوت والفلسفة، كتابه الجديد «الاستعجالين الأخلاقية، رؤية أخرى لعالم الأعمال». الكتاب الجديد،أراد له مؤلفه، حسب توضيحات قدمها في ندوة صحفية، يوم الخميس الماضي بالدار البيضاء، أن يكون حوارا مفتوحا على عالم المقاولة وعلى الثقافات وعلى الأساليب التي يمكن لمسيري المقاولات التوفيق بين روح ومبادئ الإنسانية وبين الأداء المهني الذي يحقق للمقاولة النجاح. ويقترح ايمانويل طونيوتي في كتابه إجابات شخصية على رجال الأعمال تمكنهم من أن يصيروا فاعلين مسؤولين عن تطور مقاولاتهم مع اقتراحات لنمو مسؤول و أخلاقي، من خلال الإجابة على سيل من الأسئلة حول علاقة العمل والتجارة والإدارة بالأخلاق: أين تكون الأخلاق؟ إن لم يكن العمل مرتبط بالأخلاق فأين نلتزم بالأخلاق؟ هل الأخلاق هي شيء نَلتزم به في الشعائر الدينية فقط؟ كيف تكون أمينا إن لم تكن أمينا في عملك؟ هل يقال عنك أنك صادق إن كنت صادقا مع أهلك وأصدقائك وكذَّابا في عملك؟ ألا يقال لمن يغش في البيع أنه غشَّاش؟ أسئلة وأخرى عديدة يجيب عنها الإصدار الجديد لإمانويل طونيوتي رئيس المجموعة الاستشارية الدولية للأخلاق والدكتور في علم اللاهوت والفلسفة، مؤكدا أن علاقة ممكنة يمكن إقامتها بين التجارة والعمل وبين الأخلاق والعواطف. الخلاف بين النقيضين واقع، يقول المؤلف. ف»الجامعات تهتم بتدريس مادة تتعلق بأخلاقيات العمل والإدارة لدارسي الإدارة بل وفي التخصصات الأخرى مثل الهندسة والطب.. و الأساتذة الذين يدرسون مواد مثل المحاسبة والإحصاء يَتَطَرَّقون للمواضيع الأخلاقية أثناء المحاضرات». فالأخلاق في الإدارة، يقول انطونيوتي، «أمر مطلوب في العالم المتقدم بل وأي مخالفة لذلك تقابل باستهجان كبير من الشخص العادي. كذلك فإن الإدارة لا تفترض أن العاملين ليس لديهم أي مشاعر أو أنهم ليسوا بشرا. بل الإدارة تتعامل مع طبائع البشر واحتياجاتهم». فكيف نستطيع تحفيز العاملين إن لم نتعامل معهم كبشر لهم احتياجات ومشاعر؟يتساءل المؤلف. «هل نتصور أن عدم احترام العاملين هو شيء مقبول لأنه يأتي في إطار العمل؟ هل نتصور أنه من الصواب أن تطلب من أحد العاملين ألا يذهب لحضور جنازة أقرب أقاربه أو أن تمنعه من أن يأخذ أجازة ليعتني بابنه أو زوجته المريضة؟» العملٌ عمل.... نعم، يقول إمانويل انطونيوتي، ولكن ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن تعطي كل ذي حق حقه فلا تجعل مشاعرك تجاه شخص ما تتحكم في قراراتك في العمل. لا تتحامل على شخص ما لأنه لا يخالف لوائح عمله لكي يرضيك. لا تتنازل عن حقوق شركتك لكي تُجامل الآخرين. العمل يهدف للربح ولاكتساب المال ولكن من خلال إطار أخلاقي. فليس معنى العمل أن تخدع أو تخون الأمانة أو ترتشي أو تسرق أو تكذب أو تظلم أو تتلفظ بالبذيء من الأقوال أو ترتكب الشنيع من الأفعال أحيانا ننظر إلى الأمور في إطار ضيِّق فنقول: يا أخي هذا أمر بسيط ولا توجد مشكلة من التلاعب فيه. في الواقع فإن أي مخالفة أخلاقية صغيرة تؤدي إلى مشاكل كبيرة. على سبيل المثال إن التلاعب في رقمٍ واحد في تقرير يومي يؤدي إلى تغير متوسط هذا الرقم على مستوى اليوم وعلى مستوى الشهر ويؤدي إلى أن تكون التقارير الشهرية والسنوية غير معبرة عن الحقيقة بل وتؤدي إلى فشل عمليات التحليل والتطوير لأن الأرقام لا علاقة لها بالواقع. ولتعزيز أفكاره حول إمكانية نسج علاقة وطيدة بين الأعمال والأخلاق، قدم المؤلف،في إجاباته على أسئلة الصحفيين والحضور، أمثلة حول مواقف لها علاقة بأخلاقيات العمل وأخلاقيات الإدارة. يقول أنطونيوتي: «أنت مدير في العمل وجاءك المرؤوس يشكو إليك قِلة دخلِه فوعدتَه بحوافزٍ ومكافآتٍ إن أَثبتَ كفاءته في العمل بينما أنت لا تَنوي أن تُكافئه أو تعلم أنه لا يمكنك مكافأته.من الناحية الأخلاقية أنت شخص كاذب ومخادع.ومن الناحية الإدارية سيفقد هذا الشخص ثقته فيك وفي إدارة المؤسسة بل وسيقوم بنقل هذا الانطباع للآخرين. هذا سيؤدي إلى انخفاض أداء العاملين وعدم رغبتهم في بذل أي مجهود غير عادي أو إلزامي؟ «أنت مدير وطلب منك تقديم تقرير لِرَئيسك عن سير العمل فطلبت من مرؤوسيك إعداد التقرير. ولكن عندما قُدِّم إليك التقرير وجدتَ أنه يظهر بعض المشاكل التي لا تريد عرضها على رؤسائك فطلبت من مرؤوسيك إحداث تغييرات بسيطة في الأرقام وتغيير بعض الحقائق أو عرضها بشكل مبهم. من الناحية الأخلاقية أنت شخص كاذب وغشاش ومزور.ومن الناحية الإدارية أنت أصبحتَ قدوة سيئة لمرؤوسيك وثِق أنهم سوف يفعلون نفس الشيء معك. القدوة السيئة تمتد كذلك لزملائك من المديرين الذين قد يجدون أن أسلوبك جعلك تظهر أما الرؤساء كبطل عظيم وبالتالي يبدؤون في تقليدك. بعد قليل تصبح التقارير كلها غش وكذب وحقائق مزورة. لا يخفى عليك أن هذا يؤدي إلى فشل الإدارة وبالتالي العمل». «أنت مدير -في شركة لا تملكها- وأعلنتَ عن وظيفة وتقدم لك كثير من المرشحين وقمت باختبارهم وحددت المرشحين ذوي الكفاءة وقررت اختيارهم. وعند إصدار قرارك النهائي تذكرت أن أحد المرشحين الأقل كفاءة كان قد أتى بتوصية من قريب أو صديق لك فاستبعدت أحد المرشحين الأكثر كفاءة واخترت هذا الشخص صاحب التوصية. أليست هذه خيانة للأمانة التي تحملتها؟ ماذا كنت ستقول لو كنت أنت مالك الشركة وعلمت بذلك؟ ألن تقول أن المدير الذي لا يعمل لديك غير أمين. الأمر لا يتوقف عند إحباط الشخص الأكثر كفاءة بل يتعداه إلى غيره من أقرانه الذين يعلمون بما حدث معه ويبدؤون في فقدان الثقة في المجتمع الذين يعيشون فيه. بل وغيرهم ممن هم أصغر سنا يشعرون أن لا فائدة من الاجتهاد في التعلم لأن هذا لن يكون له علاقة بتوظيفهم. ألست مشاركا في كل هذا.من الناحية الإدارية فإن قرارك يؤثر سلبا على أداء المؤسسة ويسبب شعور العاملين بأن التوصيات ستتحكم في ترقياتهم وتقييمهم مما يقلل من حماسهم لتقديم أفضل أداء». «أنت مسئول عن موقع خدمي في مؤسسة ما ويأتيك الآخرين من العاملين يطلبون منك خدمات خاصة بالعمل والمفترض أن تلبي طلباتهم حسب أولويات العمل. فإن جاءك من تعرف أنه له علاقة بمدير كبير في المؤسسة أسرعت بتنفيذ ما يريد وإن جاءك آخر من الموظفين المغمورين فإنك تهمل طلباته أو تؤجلها حتى ولو كان طلبه هام جدا للعمل. وفي حالة أخرى يأتيك من يطلب منك عمل تعلم أنه سيسمع به مدير كبير فتهتم به كثيرا ويأتيك آخر يطلب منك عمل أهم بكثير ولكنك تعلم أنه لن يصل إلى علم كبار المديرين فتهمل طلبه وتؤجله.هل الأمانة تقتضي أن تُوظِّف وقت العمل بما يحقق أقصى مصلحة لك أم أن الأمانة تقتضي أن تهتم بما يؤثر على العمل بغض النظر عن مصالحك الشخصية. ماذا ستقول لو كنت تملك مطعما صغيرا ووجدت أن مدير المطعم يقوم بخدمة الأشخاص الذين قد يفيدونه على المستوى الشخصي ويهمل الآخرين من عملاء دائمين للمطعم. ألن تقول أن هذا شخص غير أمين ويستغل مطعمك لتحقيق مصالحه الشخصية وقد تقوم بفصله؟من الناحية الإدارية أنت تُهدر موارد المؤسسة ولا تُوظِّفُها على الوجه الأمثل وتتسبب في أعمال كانت ستفيد المؤسسة. بل واكثر من ذلك أنك تجعل كثير من الموظفين يتجنبون طلب أي شيء منك لكي لا يذوقوا مرارة عدم اهتمامك بطلباتهم مما يؤدي إلى عدم تقديمهم لاقتراحات كان من الممكن أن تُحسِّن الأداء.» التَسلُّق والاستهانة بالمرؤوسين «أنت مدير صغير ولك تطلعاتك في أن تصبح مديرا عظيما فتبدأ في مدح رؤسائك بما ليس فيهم وتثني على أفعالهم وتستشهد بأقوالهم وفي نفس الوقت تضغط على مرؤوسيك وتُكلفهم ما لا يطيقون وتزدري أقوالهم.من الناحية الأخلاقية أنت شخص ينافق رؤساءه وأنت مدير لا يراعي مرؤوسيه. ومن الناحية الإدارية فإن هذا المدير يؤدي إلى إحباط المرؤوسين وفي حالة وجود فرصة فإن الكثير منهم سوف يلتحق بعمل آخر وخاصة ذوي الكفاءات منهم. هذا المدير لا يكون مخلصا في عمله بل هو مخلص في تملق رؤسائه وبالتالي يؤدي إلى ضعف مستوى الأداء. من مشاكل هذا المدير أنه يخدع رؤساءه بالتالي يتصورون أنه ناجح. المشكلة تتفاقم بانتقال عدوى هذا الشخص للآخرين خاصة من هم أصغر منه سنا.ومن الناحية الإدارية هذا التصرف يؤدي إلى تعطل الأعمال وإن لم يواجه من قبل الإدارة فإنه ينتشر ويصبح أسلوب تعامل عام. ينتج عن ذلك انعدام روح التعاون وهو ما يضعف أي فرصة جادة للتطوير أو لتحليل المشاكل ويجعل العمل حلبة للصراع. وبالطبع هذا كله ينعكس على أداء المؤسسة ونتائجها». استنادا إلى هذه الأمثلة، أكد إمانويل انطونيوتي أنه من اجل الإقناع يجب تطوير القناعات الخاصة بأنه من الممكن أن نزاوج بين الأخلاقيات وقيادة المقاولات والمسؤوليات وعدم الاستسلام لظاهرة غياب الأخلاقيات في الممارسات المرتبطة بالمسؤولية والتي تعتبر للأسف أمرا شائعا.. وقد أقر انطونيوتي بأن حديثا كهذا يحمل الكثير من اليويتوبيا في مرحلة الأزمة الحالية واتساع نطاق العولمة الشرسة على اعتبار أن « الأخلاقيات الكاملة» ليس الحقل المفضل للمقاولة، وبالتالي يجب تفادي السقوط في إيديولوجيا كهاته مثلما لا يجب السقوط في الغياب الكامل للأخلاقيات .أي التزام التوازن بين الإنجازات الاقتصادية و الإكراهات المرتبطة بالعلاقات الإنسانية . ويرى مؤلف كتاب «الاستعجالية الأخلاقية، رؤية أخرى لعالم الأعمال» أن العالم، الذي يعيش اليوم ليبرالية متوحشة وعولمة متسارعة، محكوم، إذا أراد بلوغ رؤية جديدة تحقق التوازن، بالعودة إلى الأفكار الأولى التي انبنت عليها الليبرالية.أي ضرورة العودة إلى الأفكار الأولى المؤسسة للنظام الليبرالي، والتي تسمح بالتدخل لضبط اقواعد السوق، وتعطي لكل ذي حق حقه، أكان صاحب رأسمال أو عامل، دون أن تفرط في الأخلاقيات وفي القيم الإنسانية القوية.