ما يدلي به ليبرمان حول المفاوضات هو ما يقوله في مجلس الوزراء دون لف أو دوران، ليكون بذلك الرجل السياسي الأكثر صراحة والأكثر شجاعة في إسرائيل (!).. فهل يستعير المفاوض الفلسطيني بعضا من شجاعة ليبرمان وصراحته، كي يكاشف نفسه (وشعبه) بحقيقية العملية التفاوضية الجارية الآن خلف الستار؟ تعثرت الصيغة التفاوضية المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فتحرك اليمين الإسرائيلي المتطرف لقطف الثمار، في أكثر من ميدان وعلى أكثر من جهة: في الكنيست، يتقدم ممثلو حزب وزير الخارجية الإسرائيلي اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان.. «إسرائيل بيتنا» بمشروع قانون يدعو لإحالة المنظمات الأهلية ومنظمات حقوق الإنسان، الإسرائيلية، اليهودية، إلى التحقيق في مصادرها المالية. والسبب، أن هذه المنظمات والفعاليات المجتمعية في إسرائيل، التزاما منها بوظيفتها، لم تتوقف عن الكشف عن مشاريع الاستيطان التوسعية (كمنظمة بيتسيلم) أو الكشف عن الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، في مناطق ال48، أو في الضفة الفلسطينية، أو القدس أو قطاع غزة. وبات واضحا أن اليمين المتطرف، في إسرائيل، مدعوما من بعض تيارات اليمين من الليكود، ومن شاس، قد ضاق ذرعا «بالديمقراطية اليهودية» أي «الديمقراطية التي يطبقها اليهود على اليهود» لأنها باتت تتعارض مع مشاريع ابتلاع الأرض الفلسطينية وتهويدها، وتتعارض مع مفهوم «يهودية الدولة» العنصري. لذلك لجأت هذه الحفنة من النواب إلى الكنيست، لتصوغ قانونا، وصفه بعض المعترضين من يهود وعرب أنه نسخة أخرى، وأكثر تطرفا من قوانين مكارثي، في الولاياتالمتحدة التي طاردت أصحاب الرأي الحر من كتاب وفنانين ومفكرين وأدباء وممثلين ورجال سينما وغيرهم، في محاولة لكم الأفواه، في المجتمع الأميركي، مما أدى إلى هجرة بعض العقول خارج الولاياتالمتحدة، وانتحار أصحاب بعضها، والزج بالآخرين في السجون بتهمة تبني الشيوعية، في محاكمة مفضوحة لأفكار الناس وآرائهم. والملاحظ أن الاعتراض على مشروع القانون في الكنيست جمع بين نواب ميرتس والعمل، وكاديما، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والتجمع، وغيرهم. مما يدلل على أن الانقسام ، في الكنيست، يأخذ أبعاداً اجتماعية وسياسية، ويطال واقع إسرائيل ومستقبلها، ويهدد حرية الرأي، لدى اليهود أنفسهم المعارضين لسياسة الحكومة، خاصة سياستها التفاوضية، ودأبها على تعطيل العملية السياسية، وقطع الطريق على وصولها إلى تسوية، تنهي الصراع، مرحليا، وتقيم دولة فلسطينية في الضفة، وفي القدس. -*-*- خارج الكنيست، وجد ليبرمان نفسه منتصرا. فالصيغة التفاوضية تعطلت وتوقفت المفاوضات المباشرة. ونتنياهو، رئيس الحكومة، يرفض تمديد التجميد الجزئي للاستيطان، تمسكا منه بالتحالف الوثيق مع ليبرمان وشاس. والولاياتالمتحدة التي عبرت عن خيبة أملها، تريد الآن عملية تفاوضية بطيئة، ومعقدة، لذلك وقف ليبرمان، معبرا عن انتصاره، «يبشر» بأن لا مجال لمفاوضات ولتسوية مع الفلسطينيين قبل عشر سنوات من الآن. ليست هي المرة الأولى التي يطلق فيها ليبرمان تصريحات مدوية، تقف في طريق العملية التفاوضية، وتثير ردود فعل صاخبة لدى المراقبين، فضلا عن كونها ترسم علامات استفهام كبرى في سماء العملية السياسية.. ليبرمان هو وزير خارجية إسرائيل، ويفترض أن يكون المعبر عن سياستها الخارجية، فهل يشكل تصريحه هذا موقفا رسميا أم أنه موقف خاص به، كما يحاول أن يدعي نتنياهو وبعض كبار مساعديه. سابقا، وصف ليبرمان العملية التفاوضية بأنها إضاعة للوقت، وقال إنه من المستحيل الوصول إلى حل مع الفلسطينيين في هذه الفترة، وقال إن إمكانية الوصول إلى حل هي مجرد وهم ينتاب الفرق المتفاوضة. ثم كشف عن المزيد من أوراقه. ففي الوقت الذي دعا فيه نتنياهو إلى ما أسماه بالسلام الاقتصادي (أي حكم إداري ذاتي للفلسطينيين وتحت الاحتلال، لكن مع ازدهار اقتصادي ورخاء معيشي) تحدث ليبرمان عما أسماه هو «السلام مقابل السلام» ردا على مبدأ «السلام مقابل الأرض». وبحيث تبقى الأمور على ما هي عليه، في تعايش بين الطرفين. ثم و«تكريسا ليهودية الدولة» التي رفع شعارها أولمرت وليفني وغيرهما، ثم نتنياهو وآخرون، دعا ليبرمان إلى «السلام مقابل تبادل السكان» بحيث تضم إلى إسرائيل المستوطنات القائمة في الضفة (مع تفكيك بعض المعزول منها والذي لا يضم سوى بضعة مئات من المستوطنين). أما القدس فتبقى عاصمة الدولة، مقابل ضم بعض مناطق ال48 المكتظة بالسكان الفلسطينيين، أم الفحم وغيرها إلى «الدولة الفلسطينية». وكل هذه التصريحات مرت مرور الكرام وكأنها تصدر عن إنسان مصاب بلوثة، لا يحاسب على أقواله، رغم أنه في منصبه الرسمي وزير خارجية إسرائيل ورئيس دبلوماسيتها. ولأجل الحفاظ على التحالف معه، رفض نتنياهو، كما قلنا، تمديد التجميد الجزئي للاستيطان. ومن الطبيعي أن ما يصرح به ليبرمان، لوسائل الإعلام، هو الكلام نفسه الذي يعبر عنه في اجتماعات مجلس الوزراء، واللجنة السباعية، وفي لقاءاته مع كبار الدبلوماسيين الأجانب الذين يزورون إسرائيل. هل معنى هذا أن ليبرمان يختلف مع نتنياهو. وهل من المعقول أن يمثل إسرائيل وزير خارجية له سياسة تختلف بشكل كامل عن سياسة رئيس الحكومة وحزبه. إذا قلنا نعم، ممكن ومعقول، نكون، دون أدنى شك، أغبياء وسذجا، ولا نملك الحد الأدنى من الوعي لحقيقة ما يدور. ليبرمان ونتنياهو متفقان على مصير القدس، ومصير المتسوطنات، وعلى مشروع إحضار مليون مهاجر يهودي جديد إلى الضفة لإغراقها بالمستوطنين وقطع الطريق على أي مشروع فلسطيني يقود إلى دولة مستقلة. لذلك ما هو متفق عليه مع نتنياهو، خلف الجدران، يتحدث به ليبرمان علنا، ويكاشف به زواره، ووسائل الإعلام، ويقدمه، كما هو، دون أية رتوش أو مناورات، أو لف أو دوران، متحديا الفلسطينيين، والعرب، واللجنة الرباعية، وجورج ميتشل، وهيلاري كلينتون وباراك أوباما.. وكذلك إيهود باراك!. -*-*- ليبرمان، ووفقا لهذه المقاييس، هو الأكثر صراحة، والأكثر شجاعة. يقول لسانه حقيقة ما يدور في عقله. وهذا هو مشروعه والذي على أساسه دخل في الائتلاف الحكومي مع الليكود، وشاس، والعمل. وهو الائتلاف الغالي على قلب نتانياهو، أكثر مما هي غالية العملية التفاوضية ومسألة إرضاء البيت الأبيض، ومبعوثيه ووزيرة خارجيته. يبقى السؤال: ما هو الرد الفلسطيني على صراحة ليبرمان وشجاعته والتي لا تحتاج إلى تفسير؟ هل هناك ثمة، مراهنة ما زالت قيد التداول، لدى القيادة السياسية الفلسطينية، على العملية التفاوضية التي تديرها واشنطن الآن، خلف الستار؟ هل هناك من يعتقد أن الطريق الذي تقود فيه واشنطن، الوفد الفلسطيني المفاوض، سيفضي إلى تسوية تقيم دولة فلسطينية كما وعد أوباما ووعد من قبله بوشن الابن؟ أم أن الفريق الفلسطيني سوف يستعير من ليبرمان بعضا من صراحته، وبعضا من شجاعته، ويقول لنا أخيرا، إن هذه المفاوضات عقيمة وعبثية، وأنه آن الأوان، للبحث عن سبيل آخر، يضمن لنا الحقوق والأهداف الوطنية؟