الكتابة الجمالية عموما و التشكيلية خصوصا لدى زهرة زيراوي هو الجسر الذي نتقاسم العبور عليه … انها، بمعنى اخر، دورتنا الدموية التي تضخ الحياة الرمزية في شرايين وجودنا الاعتباري بكل جبهاته ونوافذه المتعددة. تراها مكابرة تضمد جراحاتنا اليومية بأريحيتها الانسانية التي تسع للجميع، رافضة لغات الاقصاء، والمحو، والمزايدات المغرضة المبطنة بالأحقاد والحسابات الضيقة . تراها، أيضا تعزف على ايقاع السفر الباطني محتضنة أحلام فنانين رواد و آخرين من الجيل الصاعد في مختلف بقاع الوطن العربي بمختلف حدوده الجغرافية أتذكر مؤلفيها المرجعيين " التشكيل في الوطن العربي : مقامات أولى ومقامات ثانية" . أديبة أريبة، فنانة تشكيلية مبدعة وإنسانة بامتياز . في حضرة كتاباتها الجمالية والعرفانية كما في حضرة بيتها الأسري بالدارالبيضاء بيتنا جميعا نتعلم أبجديات الحوار التفاعلي، وحقائق دبلوماسية القرب بمعانيها النبيلة بدون تكلف أو تصنع أو أقنعة . هكذا، عرفت المبدعة المتبصرة والحكيمة زهرة زيراوي . انشغال دائم بقيم التراث والحداثة، ومساءلة عميقة لجغرافيات الجمال الرمزي والروحي التي لا وطن لها بالمفهوم المجالي للكلمة . انها تمارس الكتابة بعين القلب بصفتها مجرى هواء، فهي تعتبر التفكير عمل الروح وليس عمل اليد . هذا هو سر سلاسة أفكارها ولوحاتها التعبيرية وبساطتها الممتنعة . فما يشغل مخيلة زهرة زيراوي هو الفلسفة الجمالية ذات النزعة الانسانية . فهي تعتبر مدار اشتغالها هو الانسان كطاقة مفكرة، وكروح وجدانية حرة، راصدة تجليات الابداع المستقل في عدة مسارات لا ترتهن بالجنس، أو بالسن، أو بركام التجربة . وحده الابداع يسكنها، ويحدد بوصلة اختياراتها الحدسية العميقة . ابداع بالتذكر لا بالمحو نصير معه متلقين من الدرجة الثانية . زهرة زيراوي، أم المبدعين بامتياز وحارسة همومهم الفكرية والجمالية، ليست مجرد كاتبة أو باحثة في تاريخ الجماليات فحسب، بل هي " مبدعة في الابداع " و " باحثة جمالية في الجماليات " . أليس الأمر شبيها ب " فن الفن "، أو " فكر الفكر " . الى جانب حسها التربوي واندفاعها الجمعوي المنساب، تراها بتعبير الأديب صلاح الوديع تمارس " صلاة صامتة " على طريقة الناسكات المتعبدات في محراب زمننا الاسمنتي الذي يرثي موته اليومي باستمرار تحت شعارات التبضيع والتسليع . في حضرة زهرة زيراوي نتماهى مع المقامات التشكيلية و النصوص القصصية والروائية الجميلة، وننصت الى عوالم اللوحات النابضة بالحياة في إطار حفر عمودي، وانشغال عرفاني بكل ما هو ثاو وباطني في التجارب قيد البحث والسؤال . انها لا تمارس الكتابة و التشكيل معا بمعنى " الثقافة العالمة "، والرصد التاريخي للمدارس والاتجاهات والأسماء، بل ترقى بفكرنا الجمالي الى مستوى تأمل " شروط الابداع " و " شروط التفكير في الابداع "، ناحتة مفاهيمها الخاصة عارضة رؤيتها المحايثة للأشياء والكائنات المحيطة بها حتى لا يظل الشح لثقافي المشترك على هامش المنظومة المعرفية الانسانية، وحتى لا يصبح " هوية متوحشة " . زهرة زيراوي فنانة تشكيليآ و كاتبة من الدرجة الثانية، لأنها ترتضي التفكير في بعده التركيبي والتحليلي معا موضوعا أثيرا للتفكير وللحوار اللامتناهي مع الهوامش والجغرافيات المنسية بإرادة المؤسسات القاتمة. خارج كل وصاية أبوية واهية، تمارس زهرة زيراوي شغب كتاباتها متعددة الأصوات كنفس انعكاسي يهجس بالبحث عن حفريات الحقائق المغيبة : حفريات مشرعة على العتبات والهوامش، أي على ما هو جوهري وأساسي بعيدا عن الكليشيهات والتقليعات السائدة بقوة المال والسلطة. ما يشكل عمق مقامات زهرة زيراوي هو بحثها الدؤوب عن التجارب الخلافية، راصدة بلغة العارفات كيفياتها ومقاصدها، ومخلخلة أفق تمثلاتنا البديهية لعوالم الابداع في الوطن العربي الممتد الخ . لعمري، إن نصوص زهرة زيراوي تمد عشاق الفن ببعض مفاتيح الجمال الروحي علها تسعفهم في الإبحار وسط محيطات بلا ضفاف بتعبير المفكر الوسائطي ريجيس دوبري. فالأديبة الحكيمة صاحبة ثقافة علمية وفنية عميقة، وتتحلى بروح انسانية قل نظيرها لا نجد بعض معالمها الا في مأثورات الصوفيين، وعشاق الحكمة والجمال من طينة جبران خليل جبران وغيره من سارقي نيران المحبة النورانية التي كتبتها يد من نور على صحيفة من نور. أليس الانسان شاعرا يسكن هذه الأرض بتعبير هولدرلين ؟ هكذا، ارتأت زهرة زيراوي أن تجعل من ورشة لوحاتها الرمزية و كتاباتها العميقة أقصد مقاماتها " مشتلا فكريا " يرخي السمع بالعين لنبضات التجارب بمختلف أجناسها، وانتماءاتها العمرية، هاجسها في ذلك هو خوض المغامرة الحية للفكر الذي يغير شاطئه في كل لحظة. تحية لك، أمنا زهرة، لأنك لم تكتف بتقديم " المعلومات الضرورية " عن الفنانين المبدعين في إطار بيداغوجي مدرسي، بل طرحت أسئلة وإشكاليات تهم ثقافة العين، ومصير الجماليات البصرية في عالم يتحدث لغة العمارة الاسمنتية . تحية لك، أيضا لأننا نتنفس هواء نقيا في ضيافة نصوصك الحوارية، وننصت لعمق الذات ولحركاتها الصامتة. إنك تكتبين رهاناتنا الجمالية، وتمارسين تجربة الكتابة في الإبداع والحياة معا . ما أروعك، للازهرة، فمقولك عطش و ارتواء، فراغ وامتلاء . انه مصالحة لا مخاطرة . من باب التذكير، توفيت زهرة زيراوي يوم الاثنين 23 أكتوبر 2017 بالدارالبيضاء، عن سن 77 عامًا، حيث جاء في نعي "اتحاد كتاب المغرب" أن الأديبة الراحلة عرفت بكتابة القصة والرواية والشعر والمقالة الأدبية، ولها في هذا الباب العديد من الإصدارات داخل المغرب وخارجه، كما عرفت بممارستها التشكيل، ولها مشاركات في العديد من المعارض الجماعية داخل المغرب وخارجه، عدا اهتمامها بكتابة النقد الفني . تخرجت الراحلة، في 1961، من دار المعلمين، وعيّنت أستاذة في مركز تكوين المعلمين في الدارالبيضاء، حيث تحملت مسؤولية رئيسة ملتقى الفن. كما حصلت على شهادة الدكتوراه الفخرية عن الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب. فضلًا عن كتاباتها العديدة، التي نجد بينها روايتها "الفردوس البعيد" ومجموعتها القصصية "نصف يوم يكفي"، فقد عرفت الراحلة بكونها جعلت بيتها صالونًا أدبيًا، منذ 1990، سخّرته لتنظيم اللقاءات والأنشطة المفتوحة وتنظيم الأماسي الشعرية، ولقاءات التكريم للأدباء و الفنانين التشكيليين والكتاب المغاربة ولغيرهم من المثقفين والكتاب العرب والأجانب، هي التي عرفت بطيبتها النادرة، وبكرمها الحاتمي، وبدعمها اللافت للأدباء الشباب، وأيضًا بدفاعها المستميت عن النبوغ المغربي .كما شاركت الأديبة الراحلة في العديد من المهرجانات الأدبية العربية والأوروبية، وعرفت، في السنوات الأخيرة، بنشاطها الثقافي المندرج في إطار الدبلوماسية الموازية .