هناك أفلام ليس من الضروري البحث عما وراءها من معان أو خلفية فكرية معينة. هي تقدم نفسها منذ الوهلة الأولى، صوتاً وصورة، على هيئة حكاية سينمائية تتطور في شكل من الأشكال وتنتهي كما بدأت، أي من دون كثير ردود فعل. قد تترك في الرأس صوراً ما أو بضع حوار على الطائر، وتدخل في خانة ما تمت مُشاهدته ذات قاعة وذات وقت. وفيلم «ليالي جهنم» لحميد بناني هو من هذه النوعية. وقد أقدم على إخراجه بعد أربع سنوات على فيلم السابق «الطفل الشيخ»، ومثلما الحال في هذا الأخير هناك في الفيلم الجديد نوايا ورغبة وجهد. لكن هل هي كافية من لدن اسم بدأ مراودة السينما بالمغرب منذ بداياتها الملعثمة في الستينات من القرن الماضي؟ هذا الفيلم له عنوان مختلف بالفرنسية، وهو «الليلة الساخنة جداً» أو المتقدة. كما لو أن المخرج أراد أن يعطي لعمله مُسحة أدبية للنسخة فرنسياً، وطابعاً بخلفية دينية في الشكل العربي. لكن كيفما كانت الحال هذه الليلة بكل هذه التنويعات المفترضة يجب تلمس آثارها طويلاً. فالحكاية كلها من تلك الحكايات التي بطلتها امرأة في مجتمع محافظ جداً تحلم بأن تصير مغنية. ممارسة الغناء بكل حرية. وهو ما لا يُسْمح لها به. وقد تم نشر ذلك عبر أبسط ما يكون من سرد محايث للأحداث من دون بحث عن العمق. تنتمي عتيقة وهذا اسمها، إلى عائلة ميسورة تقليدية في مدينة عتيقة تتكون من أب متزمت وأم مغلوبة على أمرها فتموت غبناً وأخ وأخت، ويعيشون جميعهم في جو يُضَاد حبهم للغناء. وهو ما يخلق صراعات متعددة تأخذ طابعاً درامياً. وهذه الكلمة هي ما يميز هذا الفيلم فهو ميلودراما اجتماعية تدور وقائعها حول المرأة. أكثر من حياة وتعيش هذه الأخيرة حيوات متعددة. الأولى ظاهرية تلخصها علاقتها تجاه والدها إدريس الذي يعاكس رغبتها في الغناء كما قلنا، ما يمنحنا نوعاً معروفاً من صراع أجيال عنوانه وجوب اتباع وصايا الوالد ورغبته من منطلق أنه الأدرى والعارف في مقابل تمرد الأبناء. والثانية باطنية أو حميمية مخصوصة بها كبنت تحيا في عالم ذاتي اختلقته لنفسها عنوانه الموسيقى والطرب على طريقة الفنانين الكبار الذين تعلقت بهم، وملأوا عليها حياتها وذهنها، وعلى رأسهم الفنانة أسمهان التي تتشبه بها حتى في تقليعة الشعر والمكياج وفي طريقة الأداء الطربي. والثالثة هي حياة تتجاوز الأوليين بما أن عناصرها تضبطها علاقة زوجية مع إبراهيم الذي لا تحبه واضطرت للعيش معه في نكد ولا حب. وما يكثف كل هذا التداخل وجود علاقة غرامية سابقة بينها وبين شاب اسمه جواد لم يكتب لها أن تُعلن وتصير إلى مداها وتحققها. ولم يكتف الفيلم بهذا، بل تمت إضافة علاقة غرام غير مكتملة مع ابن جارة لأختها نورا، جارة تعيش رفقة زوج عدواني. وأخيراً مَدّنا الفيلم بالعوائق التي تجدها في وسط فني غير صحي تحاول أن تجد فيه موطئ قدم عبر الموهبة وحب الفن، هي التي لها في حياتها العملية كمُدرّسة، مشكلات مهنية غير مسؤولة عنها إذ تتعرض لوشاية وتحاول أن تقاومها. وفوق كل هذا تأخذ الموسيقى حضوراً طاغياً وكبيراً من خلال إدراج كلاسيكيات غنائية معروفة وشهيرة بين الأحداث. وطبعاً ينتهي الشريط في شكل منتظر ومتوقع كثيراً. ينتصر الشريط للفن والغناء والحرية وللمرأة. بالتالي فإننا نحصل في آخر المطاف على فيلم شبيه مع بعض التغير بأفلام مصرية وهندية من زمن آخر، في تشكيلها الدرامي كما في تناميها وفي الإلحاح على توخي الأثر العاطفي مع كل تفصيل مأسوي يخص الشخصية الرئيسية والشخصيات الأخرى، لكن ليس من أجل التفكر فيها والتماهي مع مصيرها في شكل سلس ومقبول، بل لاستدرار الدمع والتعاطف البسيط المُبَسَّط. لدينا إذاً تصور ميلودرامي غير مبني على ثنائية الخير والشر، ولكن على عقدة صراع بين منحيين تجاه الحياة، وكيفية التصرف داخلها بحسب ما تتوخاه الذات وما يريده المجتمع، عبر السلوكات والمبادئ المتوارثة أو المُستقدمة التي تسود فيه. أي باختصار بين ما هو تقليدي وجامد، وما هو حداثي وموصوف بالحركة والتغير. وهنا لا بد من طرح سؤال هام: ألا تزال مجتمعاتنا العربية تعيش هذا الصراع كما يقدمه لنا الفيلم؟ فالإحساس الذي يشعر به المُشاهد يربطه حتماً بزمن سابق جداً لم يعد راهناً. فإذا كان الصراع لم ينتف، فهو أخذ أشكالاً مختلفة مع التطورات المجتمعية التي تحصل خلال السنوات الحالية تحت تأثير العولمة. الشيء الذي يستوجب في حالة اختيار النوع السينمائي الميلودرامي أن يتلون بما هو راهن وحالي. قد نحب أداء الممثلة والمغنية سناء موزيان لشخصية المرأة، وهي تنتقل بين ما يتعلق بحياتها المضطربة التي أرادها المخرج متقدة ومشتعلة (وهو ما لا يتحقق إلا لماماً) حين نراها أمام المرآة حالمة، أو في دور العاشقة الصبية رفقة المعشوق السابق، أو وهي تزيل باروكة الشعر في موقف إحباط قوي. وقد تؤثر فينا لقطة الأم وهي تسقط ألماً، ولقطة الغضب التي ترافق تكسير آلة عزف من طرف الوالد. إلا أن كل هذه المشاهد تظل في مستوى أولي بسيط لا يقنع إلا في شكل لحظي من دون حمولة قوية. وهو ما يحير فعلاً من طرف مخرج له تكوين مختلف وتاريخ سينمائي ذو طابع ثقافي على الأقل في مجال التفكير فنياً في دور السينما، إن لم يكن على مستوى التخييل الإخراجي الذي يبقى مخالفاً لما هو متوقع. لكن الأكيد أن المخرج حميد بناني في فيلمه الرابع هذا يرسخ مساراً سينمائياً متأثراً كثيراً بالمحيط السينمائي العام بالمغرب الذي تسود حالياً في جزء هام من منتوجه أفلام سينمائية تنتج لإرضاء جماهير عريضة.