كم يروق لي أن أمعن النظر في أعمال الفنان التشكيلي والفاعل الجمعوي حميد العلوي (مواليد تطوان 1968) حيث تنتصب أمام المشاهد سلسلة لا متناهية من الوحدات التشكيلية التي طوعتها يد الفنان بحنكة وتمرس وحساسية.شكلت جداريته « توأم الروح» (8 متر عرضا 11x مترطولا) علامة مضيئة و قيمة مضيفة بمدينة أصيلة المغرب ضمن فعاليات الدورة ال39 للموسم الثقافي الدولي الذي نظمته مؤسسة منتدى أصيلة بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين والفنانين والإعلاميين من عدة دول عربية وأفريقية وأوروبية،إذ انفرد برنامج الدورة بالعديد من الندوات الثقافية ومعارض في الفنون التشكيلية والكتابة ومعرض لكتابة الطفل وأمسيات شعرية وفنية وثقافية. حول إيحاءات هذه المعلمة الفنية ، يصرح حميد العلوي: «توأم الروح جدارية تحكي عن التعايش بين ثقافتين مختلفتين مجسدة في جسد الإنسان بكونه صنع الحضارات ويربط بينهما رابط معنوي وهي تلك الأسهم التي تجاذب القلب نحو القلب. وكذلك الرابط المادي أم الفزيائي و هو مجسد على شكل السلاسل الفولاذية التي تجمع الإنسان بالإنسان. تدل تلك الدار على وجود الإنسان الذي يطل على العالم من خلال النافذة التي تعاق فيها خمسة صخور حية و هي القارات الخمس يعني العالم حيث جنسية البشر.» لا شيء واضح منذ البداية، فكل الوحدات التشكيلية التي يوظفها الفنان بعناية الكيميائي أو المختبري عبارة عن محفل إبداعي يسيد الجسد الرمزي كشخصية مركزية للعمل/ ميثاق العشق. فمن عوالم الحلم الجماعيتنطلق سلطة الفعل التصويري ككتابة ترميزية تتخذ من الأثر بؤرتها البصرية وشعريتها الصامتة. داعب الفنان، أيضا، جماليات القماش واستأنس بتقنيات الكولاج لكي يضفي على مساحات المنجز سمكا فريدا. هكذا، تتشاكل جماليات البنيات التركيبية مع معالم العلامات والرموز في صيغة بنائية مشخصنة. فالفنان حميد العلوييمارس دور الموثق/ المحافظ المتحفي الذي يستحضر، على طريقته الخاصة، أزمنة غابرة في ضوء أسئلة وانشغالات التاريخ المعاصر. لاغرو، إذن، أن يتمثل في تجربته الكيميائية ذات النسيج التركيبي، إذ يشكل كل عمل على حدة بوابة عبر التاريخ تتداعى عبره ومن خلاله كل إرهاصات وثوابت الذاكرة. إن اللوحة هي مرآة شخصية الفنان وحامل رسالته الحضارية والثقافية: هذا هو تصور حميد العلويلمقصديات الإبداع وخلفياته المرجعية. كم تدرجت لوحته بصيغة الجمع عبر مراحل متعاقبة ومتداخلة هاجسها الأكبر هو البحث عن الأسلوب، وتطوير التقنية المستعملة.حميد العلويمن رواد خريجيشعبة الفنون التشكيلية بمؤسسة مولاي يوسف مابين 1986 و1990 ،كما تابع تكوينا رصينا في تخصص الهندسة الداخلية و التصميم بفرنسا،حيث امتلك ناصية كل التقنيات التشكيلية، وخبر كل الاتجاهات والمدارس الإبداعية التشخيصية منها وغير التشخيصية إلى جانب مدارات النحت، والخزف، وإعادة توظيف الأشياء المستعملة بحس بصري معاصر. من منظور الفنان حميد العلوي، لا يجب اختزال الفعل الصباغي أو الفعل الإبداعي في مجرد فعل حرفي على مستوى الإنجاز، لأن هذا الأمر يؤدي بنا إلى محاكاة مجانية خاضعة للإكراه الجمالي الذي يغوي : « فعلى غرار الباحث، يتوجب على الفنان تطوير مقاربة ترقى به إلى مصاف المفكر. فهو مطالب دائما بخلخلة إيقاع التاريخ من الناحية الجمالية. هذا هو الدور الذي لا محيد عنه، والذي يجب على الفنان أن يتحمل مسؤولية اختياراته. إن الفعل الإبداعي يفترض إخلاصا متفانيا للإطار الزمني والمهني للمجال التشكيلي، فأن تفكر في المستقبل معناه إعادة تمثل أبعاد الماضي للانطلاق من الصفر». حميد العلويمن جيل الفنانين الذين خبروا كيمياء المواد التشكيلية، وساهموا بشكل كبير في تأطير عدة حساسيات جمالية ناشئة بتبصر وحصافة. لقد كانوا بمثابة نقطة ضوء في مشهدنا التشكيلي في كل مراحل حياته الفنية. يعتبر الإبداع التشكيلي منهاج حياة وأسلوب رؤية للعالم، لا مجرد نزوة ظرفية. لقد جعل من اللوحة بمختلف تقنياتها وسنائدها مادة حية تنضاف إلى سجلات متخيلنا الجماعي، وتعيش في أحضاننا كقراء فعليين أو مفترضين، وتعبر عن كياننا الرمزي، وتخوض معاركنا الثقافية ضد كل أشكال الطمس والمحو والمسخ. في هذا السياق العام، تمكن حميد العلويبحسه الجمالي من جعل لوحاته التعبيرية تنبض بالحياة و كأنها جزء عضوي منا ومرآة لثقافتنا الهجينة والمركبة. انحاز دائما للقيم الأصلية للإبداع دون تهافت أو انتحال. أعلن عن شكل آخر لكتابة الجسد الموشوم، وأقر وظيفة أخرى للتشكيل الذي يستهدف قارئا بصريا مفعما بالأحلام الواقعية والمتخيلة، فكانت له القدرة على التواصل الجمالي والمعرفي مع الآخر المتعدد، إذ لم ينغلق على قضايا أشكاله وشذرات أجساده التي تحمل رسائل الأحلام الإنسانية المفتوحة. في تضاعيف كل لوحة يحفر الفنان لذاته جدارية مفعمة بالبحث والعطاء المتواصلين، حيث احتلت تركيباته الكيميائية مكانة بارزة في عيون ومدارك عشاق الجمال البصري المتسم بالإيجاز، والتفرد الأسلوبي، وجسارة التعبير من خلال خصوصية المعالجات اللونية والشكلانية. أعماله لا تخطئها العين الرائية: فهي بمثابة قاموس إبداعي وفكري معا. قاموس يتدفق بعشق المواطنة الكونية، وبالحب العارم للحياة العميقة التي يقاوم من أجلها بالإبداع النبيل والعمل الجمعوي الهادف. حميد العلويليس مجرد فنان تشكيلي محترف اكتسب الخبرة والشهرة فحسب، لكنه من طينية المبدعين الحقيقيين الذين بصموا بقدراتهم الفنية غير النمطية خرائطية الإبداع المعاصر بالمغرب عن جدارة واستحقاق، فلوحاته الرمزية تفيض حركية، وتكتسي قوة تصويرية بليغة من حيث البناء، والشكل والمواد المستعملة. حميد العلويمبدع من طراز خاص، فعن طريق سيرورات لوحاته التركيبية يضفي على شخصياته (أقصد رموزه وشذراته) بعدا إنسانيا عميقا. فكل وحدة بصرية مشحونة بانفعالاتها وحيويتها، وكل خلفية تصويرية تحتل المكانة الأولى في المنجز البصري وتتصدره كبطلة أسطورية. ألا يؤكد هذا الاشتغال الرصين عمق تكوينه الشخصي ودراساته المستفيضة لعناصر البناء التشكيلي ومتنه التصويري ؟ أليست كل لوحة قناة تعبيرية لإرسال عدة شفرات سرية للمتلقي البصري عبر الوحدات التشكيلية الصغرى والكبرى التي يمثل الجسد بؤرتها المركزية ؟ هكذا، استطاعت تجربة حميد العلوي أن تولد حيوات مستمرة ولا نهائية للأشكال الترميزية بفعل توالياتمشهدية شبه تجريدية تتحرر من كل تمركز ذاتي ومن كل فكر متوحش ينزع نحو الهدم والقتل الرمزيين. إننا أمام بيانات جمالية تحرر عوالمنا من الاستعباد الوحشي لعصر التقنية الذي كرس نزعات الاستهلاك الكمي والمحافظة على البقاء. ألا يحذرنا الفنان من الدمار البطيء للإنسان في ظل محاربة بعده الروحي وادعاء تجاوزه ؟ تذكرنا لوحات حميد العلويبنظرة أدونيس إلى التراث على كونه تجديدا للثقافة، وتعلمنا المسلك ذاته الذي ارتضاه عبد الكبير الخطيبي في نقده المزدوج : «لكي نقطع الصلة نوعا ما مع التراث، يجب أن نعرفه جيدا كما يجب أن نكون قد أحببناه وتشبعنا به». هكذا، يحمل الفنان انشغالات الكائن المغربي في حركته كلها وفي هويته المتعددة، واعيا تمام الوعي بأنه يحمل في أعماقه كل ماضيه ما قبل الإسلامي، والإسلامي، والأمازيغي، والعربي، والإفريقي والغربي. لقد أدرك، تشكيليا، بأن العودة إلى الهوية التعددية أمر يبعث على الاطمئنان ويؤكد مفهوم الاختلاف الذي يتناقض مع مفهوم « Le neutre » (لا شخصية متضخمة تمحي كل الإحساسات الحميمية). يا له من تفكير جمالي جديد في الاختلاف الذي يدعونا –أكثر من أي وقت مضى- إلى الإنصات إلى الكائن ومعانيه وهو يواجه أزمنة التقنية التي نعتها هايدغر ب «الميتافيزيقا المكتملة». يدرك المتأمل للعمل الفني ذي الأبعاد المتعددة أنه أمام منجز تخييلي ذي بناء أيقوني خاص لا علاقة له بالإحالات الواقعية أو التشخيصية المباشرة. فالفنان حميد العلوييؤسس عالمه التشكيلي على وحدات ترميزية وشذرية لا تخرج عن نطاق الهوية الموشومة. حميد العلويمن الفنانين المغاربة المعاصرين الذين توزعت حلقاتهم التكوينية والاحترافية على عدة فضاءات فنية داخل المغرب و خارجه حيث ساهم بشكل فعال في التعريف بروافد الفن التشكيلي المغربي المعاصر في أبهى تجلياته الإبداعية والثقافية. لقد كان الهاجس الأول والأخير هو إبراز القاعدة المرجعية للتصوير المغربي المعاصر. خارج ثقافات التجميل العابر ونزعات الوجاهة الشكلية، أصر داخل المغرب و خارجه على سبك لغة بصرية تنحو نحو المغاير والمتميز من حيث المبنى والمعنى، وذلك بغية التخلص من ربقة النمطي والمعياري والهجين. الرائي في مقامحميد العلوي يجد ذاته متيمنا بأعمال تشذ عن القاعدة العامة حتى وإن لم يدرك على التو مضامينها الأساسية وأبجدياتها الشكلية. فهو المبدع المغربي المعاصر الذي يندرج اسمه ضمن قائمة الفنانين الذين يجسدون تصورا خاصا لروح الأصالة والمعاصرة، منصفين عمق الجذور وروح العراقة. لقد شكلت خبايا التاريخ، بتعبيره الخاص، منبعا مثيرا ينهل منه سحر أعماله الفنية، للكشف عن بعض أسرار حياتنا المعاصرة لعلنا ندرك من جديد هويتنا الإنسانية، ونحصنها ضد شراسة المجتمع الاستهلاكي الذي انتقد أسسه وتداعياته النحات الفرنسي الشهير سيزار (1918-1986). فإذا كان هذا النحات قد طوع الخامات الصناعية (البوليمارات، البوليستر والايبوكسي)، فإن حميد العلوي (يعيش ويعمل بين برشلونةوتطوان) اختار تطويع ملونته الإستثنائية بناء على وعي جمالي وحس باطني. يا له من افتتان بالعراقة المتخمة والمفعمة بالإنسانية ضد الحداثة المادية المحضة. فهذا الفنان الطلائعي يقدم عملا إبداعيا مركبا، ليجدد بذلك مفهوم التصوير التشكيلي، وفكره الجمالي، وبعده الرائي. أطلق، إذن، حميد العلويالعنان لخاماته ، ووضع حدا للخامات التقليدية الجاهزة. إنه يولي أهمية خاصة لعنصر الإبداع والاكتشاف بحثا عن لغة جديدة تعيد النظر في أصول الفن وأحكامه في هذا العصر.