قرآن مختلف ودين جديد؛ شعائر تُجيز الإفطار في رمضان فيما توجب الصوم في رجب وتقضي بعشر صلوات في اليوم ولا ترى حرجا في الصلاة بالجنابة؛ بل تقيم الحد على السارق بالقتل وتنكر فريضة الحج وتحرّم أكل السمك والبيض والدجاج.. وأخرى تبيح تعدّد الزوجات بلا حد والطلاق والمراجعة بلا حد، حسب شهوة الرجل، وتحدد الدية بعدد من البقر وتحرم رأس كل حيوان.. لم تكن هذه شعائر قبيلة فحسب، بل ديانة دولة داخل الدولة عمّرت لفترة تزيد على أربعة قرون ولعبت دورا كبيرا على المسرح السياسي.. إنها دولة برغواطة أو “الإمبراطورية الكاملة”، كما وصفها بعض المؤرّخين. امتدت جغرافيا في بقعة متسعة وغنية اقتصاديا من المغرب الأقصى، وسجلت مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب في العصر الإسلامي خلال القرن الثاني للهجرة. ارتبط قيامها في تلك البقعة النائية بعقائدَ غريبة ومتطرّفة شدت اهتمام الباحثين والمؤرخين من مشارق الأرض ومغاربها وجعلت برغواطة مثار مناقشات عديدة، فمنهم من اعتبرها دولة خارجة عن تعاليم الإسلام إلى حد أن الكثيرين منهم وصموها بالهرطقة والوثنية، بينما تصدت فئة قليلة منهم للدفاع عنها وعن عقيدتها وعن نسبتها إلى الإسلام. فيما رأى بعض المؤرخين في دين برغواطة نوعا من المقاومة ضد الفاتحين العرب الذين كانوا غزاة وطغاة بدليل أن ميسرة المطغري قام بالانتفاضة ضد تعسف ولاة بني أمية، فمحمد الطالبي المؤرخ التونسي المتخصص في تاريخ العصور الوسطى الإسلامية، يسير نحو هذا الطرح مؤكدا أن دين برغواطة ما هو إلا نوع من المقاومة الأمازيغية ضد التعسف الذي مارسه العرب باسم الإسلام. فيما يذهب محمد حمام، أستاذ باحث في التاريخ الوسيط بجامعة محمد الخامس بالرباط إلى القول إن الديانة البرغواطية حاولت سن عقائد مضادة تجعل منهم “شعبا” بشخصية وهوية مستقلة كما تصوروها، فإذا كان في نظرهم هذا هو الإسلام، فيمكنهم أن يشرعوا عقائد أخرى مضادة، لكن الجدير ذكره حسب نفس المتحدث أن القبائل التي كانت تحت نفوذ برغواطة، لم تكن جميعها تتبع الديانة البرغواطية، بل إن أهدافا سياسية صرفة جعلتها تسايرها. فمن تكون الدولة البرغواطية؟ وما هي عقائد أهلها؟ وما صحة القرآن الذي ابتدعوه؟ وكيف ولماذا صمدوا في وجه أعدائهم؟ وما هي علاقاتهم بالدول الأخرى؟ ما هي الحوافز الحقيقية والأسباب العميقة الكامنة وراء إعلان برغواطة عن مشروع مذهبي ديني جديد؟ اختلف المؤرخون حول اسم برغواطة، هل هم من زناتة؟ أم خليط من العناصر، أم إنها تسمية لا تمثل قبيلة بعينها. واعتبر البكري في كتابه “المسالك والممالك” أن إقليمتامسنا كان مرتعا لقبائل زناتة وزواغة؛ وقد نجَم عن هذا التصور اختلاف المؤرّخين اللاحقين حول أصل البرغواطيين، فصاحب كتاب “الاستبصار في عجائب الأمصار” يقول “إنهم كانوا قوما جهالا من زناتة”. ولم ينسبها ابن عذارى في مؤلفه “البيان المعرب في أخبار الأندلس والمغرب” إلى زناتة، وأكد أن “برغواطة من قبائل البربر”، وكذلك فعل ابن حوقل في “صورة الأرض” حيث قال إن “قبيلة برغواطة من قبائل البربر على البحر المحيط”. ويرى البعض الآخر أن “برغواطة” لم يكن اسما لقبيلة معينة يجمعها أصل واحد، بل كان اسما لأخلاط من البربر اجتمعوا على شخص يهودي الأصل ادّعى النبوة وهو صالح بن طريف بن شمعون البرباطي، نسبة إلى الموطن الذي نشأ فيه وهو “برباط”، بالقرب من شريش، جنوب الأندلس. وسُمي من اتبع هذا الدين بربطيا نسبة إلى بربط. فعربت العرب هذا الاسم وقالوا برغواط وبرغواطي وأضافوا إليها هاء الجمع فصار بوغواطه. وأضاف ابن دحية أن الاسم الحقيقي هو “بلغواطة”، وأن مفردة “برغواطة” باللام بدل الراء، وأن العامة يخطئون فيها فيقولون برغواطة.. ويبدو أن هذا المبرر للتسمية جاء من حيث الصورة اللفظية. ويُخالف ابن خلدون هذا الرأي الذي أورده عن صاحب كتاب “نظم الجوهر”، مؤكدا في “العبر” أن برغواطة قبيلة من المصامدة، وهم الجيل الأول منها. وكانوا المتقدّمين منهم قبيل الإسلام، وكان لهم في صدر الإسلام التقدم والكثرة وكانوا شعوبا كثيرة متفرّقين، وكانت مواطنهم في بسائط تامسنا وريف البحر المحيط من سلا وأزمور وأسفي. وكان كبيرهم لأول المائة الثانية من الهجرة طريف أبو صالح.. وأضاف: “ويغلط بعض الناس في نسب برغواطة هؤلاء فيعدهم من قبائل زناتة، وآخرون يقولون في صالح إنه يهودي وهو من الأغاليط البينة. وليس القوم من زناتة، ويشهد لذلك موطنهم وجوارهم لإخوانهم المصامدة. أما صالح بن طريف فمعروف فيهم وليس من غيرهم ولا يتم الملك والتغلب على النواحي والقبائل لمنقطع جذره دخيل في نسبه”.. غير أن قول ابن خلدون إنهم شعوب كثيرة متفرّقة وإشارة المؤرخين الآخرين إلى أن برغواطة ليست اسما لقبيلة معينة دفع البعض، أمثال عبد الوهاب بن منصور، إلى التأكيد أن الكلمة ليست لها دلالة سلالية وإنما تدلّ على نحلة دينية أطلقت على القبائل التي اتبعتها، فقيل لها برغواطة كما يقال للشيعة والخوارج والمعتزلة. غير أن اعتماد عدد من المؤرّخين لنصّ ابن خلدون يجعلنا نميل إليه لأنه أقرب إلى المنطق، إذ لا يمكن لهذه القبائل الخضوع لسلطة صالح، كما أن المؤثرات البرغواطية ظلت واضحة في مناطق المصامدة، ويؤكد ذلك الدكتور إبراهيم حركات “المجتمع الدكالي والفكر الديني” في مجلة “دعوة الحق” بقوله “أرجح تأكيد ابن خلدون لأن بعض المؤثرات البرغواطية ظلت حتى يومنا هذا في بعض مناطق المصامدة الجنوبية، مثل كراهية أكل البيض ووجود عدد كبير من المتضلعين في العرافة والسحر والاعتماد على التمائم والرقي في العلاج وطرد الشر”.. فكيف ظهرت هذه العقائد الغريبة؟ وكيف انتشرت بين البرغواطيين؟ الكيان السياسي لبرغواطة يختلف المؤرّخون في تحديد طبيعة كيان برغواطة في العصر الإسلامي، وتوضيح ما إذا كانت مجرد قبيلة عظمى من قبائل الأمازيغ أو دولة تحتفظ بكل خصائص الدولة المستقلة. فإذا سلطنا الأضواء على كل الظروف المحيطة ببرغواطة، فإننا نجد أنها قبيلة أتاحت لها الظروف أن تصبح دولة قوية مستقلة، حافظ أبناؤها على استقلالها بفضل ثرواتها الاقتصادية الهائلة وإمكاناتها العسكرية الوفيرة وقدرات أهلها العالية؛ بل إن برغواطة لم تكن مجرد دولة عادية وإنما كانت دولة قوية منذ قيامها، خطيرة في تطلعاتها وأهدافها، خرجت عن تعاليم الإسلام وتمكّنت من البقاء حتى العصر الموحدي، رغم محاولات القوى الإسلامية المتعاقبة في بلاد المغرب التخلص منها لخروجها عن الإسلام ومروقها.. لقد بلغت برغواطة من القوة والبأس حد أن المصادر العربية وصفتها بأنها “مملكة”، فهي على هذا النحو لم تكن مجرد قبيلة، بل دولة مستقلة، يتولاها ملوك أقوياء، أدت دورا سياسيا هاما على مسرح أحداث المغرب لفترات طويلة من التاريخ الإسلامي. بلغت برغواطة درجة كبيرة من الأهمية والسطوة والسلطان إلى حد أن بعض المستشرقين يبالغ في وصفها بأنها “إمبراطورية كاملة”. وقد هيأت الظروف الطبيعية والثروات الاقتصادية لبرغواطة الفرصة لكي تصبح دولة تتوفر لها عوامل الاكتفاء الذاتي والحماية الطبيعة، فالجبال المحيطة بتامسنا كفلت لها الحماية الطبيعية، ذلك أن سهول تامسنا كانت تقع بين جبال الأطلس، أما جبل مسطاسة فيمتد من الشرق إلى الغرب ويتاخم غربا سهل أدخستان. وقد ازدهرت الزراعة في برغواطة حتى عدها المؤرّخون دولة زراعية من الطراز الأول، فكانت تنتج الحبوب، ولاسيما القمح، الذي اشتهرت به مدينة تكيت على وجه الخصوص، فكان جميع سكان المناطق المتاخمة لبرغواطة يفِدون إلى هذه المدينة لشرائه. كما اشتهرت بزراعته مدينة النخيلة، التي كانت تقع في وسط تامسنا وفي قلب سهلها. وتذكر كتب التاريخ أن قمحها كان من الكثرة إلى درجة أن الناس كانوا يستبدلون أحيانا بغلين بحمل جمل كبير من القمح، وكانت مركزا من أهم مراكز بيعه. كما كانت برغواطة تنتج الشعير، الذي كان يشكل الغذاء الرئيسي لسكان تامسنا في معظم أوقات العام. كما اشتهرت برغواطة بزراعة الفواكه بأنواعها المختلفة، مثل التين والكرز والنبق، في مدينة زرفة، والكروم في النخيلة وأنفا، التي اشتهرت أيضا بزراعة الخيار والبطيخ. أما القطن فكان يُزرع في سلا. وقد أتاحت هذه الثروات الاقتصادية المتنوعة لبرغواطة أن تقيم علاقات تجارية مع بعض الدول الأخرى. وفي هذا الإطار أكد المستشرق دوفيس أن برغواطة ارتبطت تجاريا مع الأندلس بروابط وثيقة وقوية، ونافست بذلك سجلماسة، ومن ثم أقدم البرغواطيون على مناوءة سجلماسة واعتراض قوافلها التجارية، ما دفع سجلماسة إلى تغيير طرقها التجارية كليا تجنبا للخطر البرغواطي على تجارتها.. غير أن الفكر العقائدي عند البرغواطيين كان غريبا اكتنفته العديد من الشعائر المغرقة في الغرابة. دين برغواطة الجديد قامت الدولة البرغواطية في إقليمتامسنا وكانت مُستهدَفة من كافة القوى المغربية التي ظهرت في المغرب الأقصى نظرا لثراء هذا الإقليم، من ناحية، ولأن هذه الدول اتخذت إيديولوجيات مغايرة لبرغواطة المغربية، من ناحية أخرى؛ فالأدارسة من الشيعة الزيدية، والفاطميون إسماعيلية، والمرابطون ومن بعدهم الموحدون اتخذوا دعوات سنية سلفية.. ومعروف أن الخوارج الصفرية يعادون هذه المذاهب جميعا، فجلبوا على أنفسهم عداء تلك الدول الواحدة تلو الأخرى، كما دخلوا معترك الصراع بين الفاطميين وأمويي الأندلس، فكان تاريخهم سلسلة متصلة من الحروب والمعارك.. وكان منهم من يسلمون بيهودية العقيدة البرغواطية ومنهم من يقرّون بهلينيتها ومنهم، كذلك، من يقيمون الدليل والحجة على أهمية التأثيرات الإسلامية ويؤكدون في الوقت نفسه خصوصية طابعها المحلي. تذهب بعض المصادر إلى القول إن تحمس وانجراف وعصبية برغواطة وراء هذا المشروع الديني الجديد يكمن في محاولة التخلص والانعتاق من عقال الابتزاز الاقتصادي والاجتماعي وحنق ولاة وعمال بني أمية، الذين “يستنبطون شتى الأساليب لجمع الجباية بصرف النظر عما إذا كانت تلك الأساليب تتماشى مع مبادئ الإسلام أم لا”. وتمططت دائرة الابتزاز الاقتصادي والاجتماعي، و”تبلورت مع اتساع نطاق الفتوحات الإسلامية، وتحول العالم الإسلامي إلى مركز رئيسي للدورة التجارية العالمية، وأدى ذلك إلى ازدهار عمراني وتجمّع ثروات جديدة وبروز فئات اجتماعية، ولاسيما فئات أصحاب الملكيات العقارية الضخمة والتجار”. فمنطقة تامسنا غنية بمقدراتها وإمكانياتها الاقتصادية، المتمثلة في شساعة سهولها وكثرة وديانها، ما جعلها “بلادا زراعية مزدهرة”، على حد تعبير شارل أندري جوليان؛ زد على ذلك أن قبائل برغواطة تنفرد بخاصية مميزة واستثنائية “تتوقف على جمال نسائها البارع”، وهذا يفسر حملات النهب والسلب والاستنزاف المادي والبشري التي استهدفتها.. كان الفكر العقائدي لبرغواطة، حسب بعض المصادر التاريخية، يجمع بين أفكار ومذاهب وأديان متعددة، بدءا من الفكر السني إلى الخارجية المتطرّفة والتشيع، وكذلك جانب من الدوناتية وبعض الأفكار اليهودية. ويمكن أن نلمح في فكرهم العقائدي بعض التقاليد الأمازيغية المحلية والوثنية، ما يجعل من البرغواطية فكرا خارجا عن الدين الإسلامي الحنيف. وتذهب العديد من النصوص والأدلة التاريخية إلى القول إن الكيان البرغواطي كان يشكل خطورة شديدة على الإسلام في المغرب طوال العصور الوسطى، خاصة أن دولة برغواطة امتدّت جغرافيا في بقعة متسعة وغنية اقتصاديا من المغرب الأقصى؛ كما امتدت زمنيا فترة طويلة استمرت حتى بداية عصر الموحدين. وتكاد المصادر تُجمع على أنّ صالح بن طريف ادّعى النبوة وادعى كذلك بأنه تلقى من الله قرآنا باللغة الأمازيغية.. كما ادعى أنه يوحى إليه في كل خطبه وأقواله؛ ومن شك في ذلك فهو كافر.. ويقول البكري إن البرغواطيين “يقدمون مع الإقرار بالنبيين الإقرار بنبوة صالح بن طريف وبنيه من تولى الأمر بعده من ولده، وأن الكلام الذي ألف لهم وحي من الله تعالى لا يشكون فيه، تعالى الله عن ذلك”. قرآن البرغواطيين بالأمازيغية وضع صالح قرآنا باللغة الأمازيغية يقرؤونه في صلواتهم ويتلونه في مساجدهم؛ ويتألف قرآنه من ثمانين سورة، أكثرها منسوبة إلى أسماء الأنبياء من لدن آدم، وأولها سورة أيوب وآخرها سورة يونس. وفيها سور فرعون، قارون، هامان، ياجوج وماجوج، الدجال، العجل، هاروت، ماروت، طالوت، نمرود، الديك، الجمل، الجراد، الحنش، غرائب الدنيا والعلم العظيم.. وأضاف ابن خلدون أسماء أخرى، مثل نوح وإبليس؛ ويقول عن سورة غرائب الدنيا إنه حرم فيها وحلل وشرع وقصّ، وكانوا يقرؤونها في صلواتهم. وذكر البكري مقتطفات من سورة أيوب وهي استفتاح كتابهم: “بسم الله الذي أرسل به الله كتابه إلى الناس، هو الذي بيّن لهم به أخباره قالوا علم إبليس القضية، أبى الله ليس يطيق إبليس كما يعلم الله، سل أي شيء يغلب الألسن في إلا قوله، ليس يغلب الألسن في قوله إلا الله، لقضائه باللسان الذي أرسل الله بالحق إلى الناس، استقام الحق، انظر محمدا كان حين عاش استقام الناس كلهم، الذين صحبوه، حتى مات، ففسد الناس، كذب من يقول إن الحق يستقيم وليس ثم رسول الله”.. ويظهر من الآيات الأخيرة أنه أراد إيجاد مبرر لديانته ولكونه نبيا على أساس استحالة استقامة الحق دون وجود رسول. ووضع صالح إلى جانب القرآن مجموعة من التعاليم، منها عشر صلوات، خمس في النهار وخمس في الليل. وبعض صلاتهم إيماء لا سجودَ فيها لكنهم يسجدون في آخر ركعة ثلاث سجدات متصلة وبعضها على كيفية صلاة المسلمين. وعند ابتداء الصلاة يضع الفرد أحد يديه على الأخرى ويقول بالأمازيغية “ابتستمن ياكش” وتفسيره “بسم الله”. وأثناء سجودهم يرفعون جباههم وأيديهم عن الأرض مقدار نصف شبر ويقولون “مقر ياكش”، وتفسيره “الكبير الله”، ويضعون أيديهم مبسوطة في الأرض طوال ما يستشهدون. ويقرؤون نصف “قرآنهم” في وقوفهم ونصفه في ركوعهم. ويقولون في تسبيحهم بالأمازيغية “الله فوقنا، لم يغب عنه شيء في الأرض ولا في السماء”، ويقولون “مقر ياكش” خمسة وعشرين مرة، و”إايحن ياكش” مثل ذلك، ومعناه “الواحد الله”، و”ردام ياكش” مثل ذلك، ومعناه “لا أحد مثل الله”. ويصلون صلاة الجمعة يوم الخميس ووقت الضّحى.. وشرّع لهم في الوضوء غسل السرة والخاصرتين والرجل من الركبتين ومسح القفا وألا يغتسلوا من جنابة إلا من حرام، كما نصت تعاليمه على صوم رجب والإفطار في رمضان!.. أما في ما يتعلق بالتعاليم الأخرى فقد أباح لهم الزواج بالنساء دون حدود، وأباح لهم الطلاق والعودة إلى المطلقة متى شاؤوا، وحرّم عليهم زواج بنت العم ولا ينكحون المسلمين ولا ينكحون فيهم. كما شرع قتل السارق بالإقرار والبيّنة ورجم الزاني ونفي الكاذب، ويسمونه “المخير”. كما حرم رأس كل حيوان وحرم ذبح الديك لأنهم يعتمدون عليه في معرفة أوقات الصلاة، والسمك لا يؤكل إلا بعد الذبح؛ والبيض عندهم حرام والدجاج مكروه إلا أن يُضطر عليه، والقاتل تُؤخذ منه دية مائة من البقر، ويأخذون العشر في الزكاة من جميع الحبوب ولا يأخذون شيئا من المسلمين ويعتقدون أن نبيهم يشفي من الأمراض.. وتشير المصادر التاريخية إلى أن المؤرخين القدامى، مثل البكري وابن حوقل، أو المحدثين اتفقوا على ادّعاء صالح النبوة ودعوته إلى ديانة جديدة، لكنهم اختلفوا في أصول هذه الديانة هل هي هيللينية أو يهودية أو مسيحية أو إسلامية.. فالمؤرخ دي سلان كان أول من أثار المسألة فذهب إلى أن إله الأمازيغ المدعو “ياكش” هو “Bacchus”، إله اليونان، لأن النطق العربي لباخوس هو Yacchus (ياكش) ودلل على رأيه بأن طقوس عبادة إله الخمر والمجون عند اليونان باخوس كانت منتشرة في وسط المغرب. وانساق المستشرق الهولندي “دوزي” وراء هذا الرأي وأضاف أن إله اليونان هو نفسُه إله الأمازيغ حتى من حيث النطق، إذ ينطق بالباء “باكوش”، مستندا على ابن عذاري، الذي كتبه بالباء وليس الياء، متناسيا التصحيف في الكثير من الأسماء والأخطاء المطبعية. واعتمد أصحاب هذا الرأي على الأبحاث التي تشير إلى اعتناق الكثير من الأمازيغ القدامى عقيدة باخوس اليونانية. وقد فند كاتب مادة برغواطة في دائرة المعارف الإسلامية هذا الرأي قائلا: “وقد خطأ بعض العلماء في ظنهم أن كلمة ياكش هي باخوس (Bacchus) أو بكك (Bacas) الواردة في الكتابات النوميدية وضللهم في هذا اعتمادهم على صيغة من الصيغ لهذه الكلمة وهي “ياكش”، ومعناها “الله”، وهي ترجمة للكلمة العربية “وهاب”، وهي صفة من صفات الله، ويذكرنا وجود هذه الكلمة عند الأباضية أيضا بما كان لصالح من صلة بمذهب الخوارج”. ويشير الدكتور إبراهيم حركات إلى الآثار اليهودية في هذه الديانة، موضحا أن أسماء السور التي تضمنها قرآن صالح فيها الكثير من أسماء اليهود، أي ما يرتبط بذكريات التاريخ العبراني، وحتى أسماء ملوك برغواطة بينها الكثير من أسماء أنبياء بني إسرائيل مثل اليسع وإلياس، وإن كانت هذه الأسماء توجد في إمارات مغربية خارجية، ويضيف إلى ذلك الانطلاق من التنجيم والكهانة ما اشتهر به العبرانيون في القديم، وأصبحت له مكانة بارزة لدى البرغواطيين. كما نصّت تعاليم التوراة على قتل السارق وتبنى البرغواطيون هذا الحكم، ورجم الزاني رغم أنه إسلامي فإنه يتفف مع الشريعة الموسوية، غير أن حركات لا يعتبر هذه الديانة يهودية بل تأثرت باليهودية.. وإلى جانب هذه الآراء، هناك عدد من الدارسين أشاروا إلى الأصول الإسلامية لهذه الديانة، ولكنه إسلام مشوه طُبع بطابع أمازيغي محلي. وهذا الرأي يعتمد على كثير من الأسس الصحيحة التي يمكن استخلاصها مما رواه البكري، مثل الصلاة والوضوء والصوم وغيرها من الشعائر الإسلامية، ولو أنها اختلفت عن الإسلام في الكيفية التي تؤدى بها. أما ابن حوقل فيروي “من البرغواطيين في عصره من يقرأ القرآن بغاية الاحترام ويحفظ منه السّور ويتأول آياته على موافقته لكتابهم وقرآنهم”؛ وأشاد بهم “ففيهم أمانة وبذل للطعام وتجنب الكبائر من الحرام والمحظورات من الطعام”. ويؤكد ذلك ابن عذاري بقوله “كان من بين البرغواطيين من فقهوا في الدين وعاصروا الأدارسة وتلقوا دراستهم بالشرق، ومنهم يونس الشذوني، أندلسي الأصل، الذي وصل مع يزيد بن سنان الزناتي الواصلي، وبرغوت بن سعيد الصفري. ومن المفارقات اجتماع أصحاب هذه المذاهب في رحلة للدراسة معا، ثم يرجعوا إلى المغرب وقد تفرقت بهم المذاهب”.. وشكك الدكتور سعد زغلول في ادّعاء صالح النبوة، وأشار إلى أن اتهامه وقومه بالانحراف مبالغة من الكتاب الذين يخدمون أغراضا مذهبية وسياسية. وشدّد على بصمات الطابع الأمازيغي عليها وانطوائها على أفكار شيعية، مثل فكرة المهدي المنتظر. وذهب إلى تبني الرأي نفسه الدكتور عبد الله العروي بقوله “لقد نسب ما يتعلق بنبوءة صالح إلى أثر بقايا مسيحية سابقة لكنه يعزى على الأرجح بكل بساطة إلى الإيديولوجية الشيعية، إذ ما من شيء يقيم الدليل على أن مذهب الخوارج هو وحده في ذلك العصر الذي كان يعمل بالمغرب، وأن الرغبة في استيعاب البربرية للإسلام هي ظاهرة، وهي أمر مسلم به طالما يكون متمشيا مع الماضي، لكنّ حادث التعديل نفسه لا النبذ كلية هو اعتراف بقيمة الإسلام التحضيرية”. أما الدكتور حركات فأشار إلى أنه في غرب المغرب لم تتمكن مبادئ الدين الصحيحة من نفوس الأمازيغ، لذلك أنشأ البرغواطيون مذهبا خاصا بهم، بعض أصوله إسلامية وأكثرها مما تأثروا فيه بمؤثرات وثنية عريقة، إلى جانب ما استقوه من أصول عبرانية. وفي جميع الأحوال فقد كانوا يؤمنون بوحدانية الله واعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الأنبياء وشرّعوا الصلاة والوضوء والزكاة، ولكنهم أضافوا أشياء غريبة عن الإسلام أو تتعارض معه وذلك كرد فعل لسياسة الأمويين. وأضاف أن بعض تشريعاتهم لا تتفق مع جميع الديانات، مثل تعدد الزوجات بلا حد والطلاق والمراجعة بلا حد وحسب شهوة الرجل وتحديد الدية بعدد من البقر وتحريم رأس كل حيوان وكذا البيض. تأثيرات إسلامية ودين مشوه يوضح ألفرد بيل التأثيرات الإسلامية وتشويهها من قبَل البرغواطيين بكيفية مفصلة فيقول “إن ديانة صالح هذه تبدو لنا تقليدا لشريعة الإسلام قام به بربري ومن أجل البربر، وإضافات هنا وحذف هناك كانت كافية لتشويه الفروض الإسلامية مع تركها تشفّ من ورائها بوضوح”. فالنظافة تتم كما في الإسلام بالوضوء، خصوصا قبل الصلاة.. أعضاء معفاة من الوضوء العادي، وأعفى من الوضوء والغسل في بعض الأحوال التي يوجب فيها الشرع الإسلامي “الجنابة” وألغى الأذان والإقامة وضاعف عدد الصلوات وعدّل في كيفيتها، وخاصة في ما يتعلق بالسجود. كما وضع تعديلات مهمة في أوقات أداء بعض الشعائر الإسلامية، مثل صلاة الجمعة يوم الخميس وصيام رمضان أصبح في شهر رجب، وعيد الأضحى أصبح في الحادي عشر من محرم، أي في اليوم الثاني لعاشوراء عند المسلمين، وأراد بذلك التقرّب من الأمازيغ، لأن المغرب احتفظ بعادات سحرية دينية قديمة تدور حول عاشوراء وتعطيه معنى عيد تطهير الجماعة وأموالها، وهو المعنى الذي ينبغي أن يعطي لعيد الأضحى عند المسلمين؛ وأسماء السور التي وردت في “قرآن” صالح هي أسماء أشياء وأشخاص شبه أسطوريين وكثير منهم ذكروا في القرآن والعهد القديم. وأشار بيل إلى الآثار الشيعية والخارجية والأمازيغية في هذه الديانة بقوله “إن تأكيد صالح في قرآنه أن الحق لا يستقيم بدون رسول يذكّرنا بعقيدة الشيعة في الإمام وقولهم إنه لا بد من وجود إمام في كل وقت، ظاهرا كان أو مستورا. والطهارة الأخلاقية مأخوذة من الخوارج، فالكذب يعد كبيرة ولذلك يُكفَّر صاحبه وينفى من الجماعة.. أما مسألة تحريم البيض والديك والدجاج وذبح السّمك فهي عادات أمازيغية. أما القانون المدني الشخصي والاجتماعي فإنه يختلف عما يناظره في الشّريعة الإسلامية، مثل الزواج والطلاق والسرقة. وتبقى العادات والتقاليد ذات أثر بارز في هذه الديانة فابن حوقل يقول عن صالح “إنه بربري الأصل، مغربي المولد، ضليع بلغة البربر، يفهم غير لسان من ألسنتهم، فدعاهم إلى الإيمان به، وذكر أنه نبيّ ورسول مبعوث إليهم بلسان قومه”. وقد تمكن صالح بن طريف من الاستفادة من معلوماته الدينية والدنيوية فأخذ من العقائد المنتشرة آنذاك ومن العادات والتقاليد الموجودة في المنطقة وطبعها بطابع أمازيغي محلي، مستفيدا من معطيات البيئة ومن جهل البرغواطيين بالإسلام الصحيح؛ فوضع هذه الديانة المعروفة بطقوسها الخاصة وبقرآنها المكتوب بالأمازيغية وتقبلها البرغواطيون كحقيقة مسلّم بها. وصارت برغواطة أعلم الناس بالنجوم وأحذقهم بالقضاء بها وكانوا أجمل الناس رجالا ونساء وكانت الجارية البكر منهنّ تثب ثلاث حمر مصطفة ولا يمس ثوبها شيئا من الحمر ولا تقدر على ذلك ثيب، وقرانهم الذي وضع لهم صالح بن طريف ثمانون سورة أكثره منسوب إلى أسماء النبيين.. السياسة الداخلية والخارجية يرى عدد من الذين كتبوا عن برغواطة أن طريف بن صالح هو الذي أسس الدولة، وطريف هذا اختُلِف في اسم أبيه وديانته، فالبكري يقول إنه من ولد شمعون بن يعقوب بن إسحاق، وإنه من أصحاب ميسرة المطغري وإليه نسبت جزيرة طريف، فلما قتِل ميسرة وافترق أصحابه احتلّ طريف بلدة تامسنا وكان إذ ذاك ملكا لزناتة وزواغة فقدّمه الأمازيغ على أنفسهم وكان على ديانة الإسلام. وتأثر بعض المؤرخين بالنسب الذي ذكره البكري، فقالوا إنه يهودي الأصل ويكنى بأبي صبيح، وبعد فشل ثورة ميسرة بقي قائما بأمر برغواطة في تامسنا، ويقال إنه تنبأ أيضا وشرّع لهم الشرائع. نهاية برغواطة نجح المرابطون في القضاء على الكيان السياسي لبرغواطة، فلم تظهر بعد ذلك كدولة لها حكامها المستقلون، كما تمكن المرابطون من القضاء على الأفكار الدينية الخارجة عن الإسلام. واشتهرت برغواطة على مدى ثلاثة قرون من الزّمان، ولكننا نطالع في مصادر تاريخ المغرب في عصر دولة الموحدين اسم برغواطة بين الثوار والمتمردين، فيذكر كل من البيذق وابن عذارى وابن أبي زرعوالسلاوي الناصري أن ثائرا يدعى محمد بن هود الهادي الماسي خرج على عبد المؤمن بن علي، خليفة الموحدين، في سنة 542 ه، وكان قصارا بسلا وانتشرت ثورته، وبايعه أهل تامسنا كلهم من برغواطة وأكثر بلاد المصامدة وجميع القبائل حتى إنه لم يبق تحت طاعة عبد المؤمن سوى مراكش، فأرسل عبد المؤمن بن علي جيشا من الموحّدين لقتاله تحت قيادة الشيخ أبي حفص؛ واشتبك هذا الجيش الكبير مع قوات الماسي في موقعة عنيفة دارت في موضع من بلاد تامسنا، وانتهت بمصرع الماسي وانهزام أتباعه. وفي سنة 543 ه تجددت ثورة برغواطة، فخرج عبد المؤمن بن علي من مراكش لغزوهم ودارت بينه وبينهم حروب عديدة، انهزم فيها عبد المؤمن بن علي في بادئ الأمر، لكنْ سرعان ما رَجَحت كفته فتغلب عليهم وقتل كل رجالهم ولم يُبق إلا على الأطفال.. ورغم ذلك فقد انتهزت برغواطة قيام ثورة في سبتة ضد حكم الموحدين وانضمام الثائر المعروف ب”الصحراوي” إليها، حتى اشتركت في هذه الثورة، وكاتب البرغواطيون “الصحراوي” في سبتة يستنصرون به فأتاهم، فبايعوه واجتمعوا عليه، وعادوا لقتال عبد المؤمن بن علي وأوقعوا به الهزيمة؛ بيد أن عبد المؤمن بن علي بادر إلى ترتيب جيشه، واشتبك مع برغواطة و”الصحراوي” في قتال ضارٍ انتهى بهزيمتهم ومصرع عدد كبير منهم. وهرب “الصحراوي” متخليا عن برغواطة، وأرسل إلى عبد المؤمن بن علي يطلب منه الأمان.. لقد مر الفكر العقائدي لبرغواطة بمراحل مختلفة منذ أن تأسست الدولة على يد طريف بن شمعون إلى أن سقطت ككيان سياسي مستقل على أيدي المرابطين. وعلى الرغم من إزالة المرابطين لهذه الدولة، فإن وميضا من نارها ظلّ باقيا تحت الرماد، وأوشك هذا الوميض أن يضطرم في عصر الموحدين؛ وشاركوا في ثورة الماسي والصحراوي، غير أن تلك الحركة لم تكن سوى صحوة الموت، فقد تمكنت السلطات الموحدية من إخمادها سريعا.