خلال هذه السلسلة الرمضانية، سيغوص “برلمان.كوم” بقرائه في عالم شخصيات طبعت تاريخ المغرب المعاصر في مجالات متعددة، الفن والرياضة والفكر والسياسة والعمل الاجتماعي، بالإضافة إلى المال والأعمال. "برلمان.كوم" وليقربكم أكثر منها، ارتأى تقديم بطاقة تقنية عن تلك الشخصيات مسلطا الضوء على حياتها وأهم أعمالها، والأحداث التي أدخلتها سجل التاريخ المغربي المعاصر من بابه الواسع. في هذه الحلقة، سنقدم نبذة عن العلامة المرحوم المختار السوسي، الذي كان علما من أعلام الحركة الوطنية المغربية وعالما من علمائها الذين زاوجوا بين التحصيل العلمي ومحاربة الاستعمار ونشر الوعي بين صفوف المغاربة. الميلاد والنشأة ولد محمد المختار السوسي عام 1900 في قرية “إلغ” بمنطقة سوس الأقصى جنوب المغرب، ونشأ في أسرة عريقة ترسّخ فيها حب العلم والتصوف، وقد كان والده (الشيخ علي بن أحمد الإلغي) رئيس الزاوية الدرقاوية. المسار الدراسي والتكوين كانت والدته رقيه أول معلم له، فلقنته المبادئ الأولى للقراءة والكتابة وبعضا من القرآن الكريم، وقد ختم القرآن سبع ختمات وهو مايزال في العاشرة من عمره، وتنقل بين عدة مدارس قرآنية. ففي سنة 1914 انتقل إلى منطقة إفران القريبة من قريته وتعلم على يد الشاعر الطاهر الإفراني الذي كان له بالغ الأثر في تكوينه العلمي. وفي سنة 1918 انتقل إلى مدرسة في أحواز مدينة مراكش وسنة بعد ذلك التحق بمدرسة ابن يوسف وفيها تعلم على يد شيوخ كبار. وفي سنة 1924 حل بمدينة فاس للدراسة في جامعة القرويين، ثم قصد مدينة الرباط ليأخذ العلم عن أبرز علمائها سنة 1928. المسار المهني والمسؤوليات أسس السوسي “جمعية علماء سوس” التي أشرفت على بناء المعهد الإسلامي بمدينة تارودانت وكان عضو اللجنة العلمية التي حررت مدونة الأحوال الشخصية المغربية. وفي 7 دجنبر من سنة 1955، تم تعيينه وزيرا للأوقاف في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال، ثم عُين في 29 أكتوبر من سنة 1956 وزيرا في مجلس التاج وهي وزارة مستحدثة ثابتة أسسها الملك محمد الخامس، واختير في 14 مارس 1960 قاضيا شرعيا للقصور الملكية إلى حين وفاته. المسار الفكري والسياسي انخرط المختار السوسي في النضال السياسي والثقافي إلى جانب نخبة من الوطنيين بمدينة فاس. وقال عن هذه المرحلة، “في فاس استبدلت فكرا بفكر، فتكون لي مبدأ عصري -على آخر طراز- ارتكز على العلم والدين، والسنة القويمة، وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك، وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد” (كتاب الإيلغيات). ساهم في تأسيس جمعيتين الأولى ثقافية باسم “جمعية الحماسة” وترأسها هو نفسه، والثانية سياسية سرية ترأسها علال الفاسي. وكان أول مشروع بدأت به النخبة الوطنية نشر الوعي الإسلامي من خلال التطوع للتدريس بالمدرسة الناصرية باعتبار ذلك خطوة في تحقيق التغيير المنشود، غير أن نشاط المدرسة لفت إليها أنظار الاستعمار فأغلقها. وبعد مرحلة فاسوالرباط، عاد إلى مراكش حيث اشتغل بالتعليم والتربية، واستعان بموارد أعماله التجارية وهبات المحسنين للإنفاق على طلبته مركزا على تدريس المواد التي حاربها المستعمر كاللغة العربية، والقرآن، والتاريخ المغربي، والسيرة النبوية، والأدب والتفسير. ومن وحي تجربته، حرض زملاءه على بناء مدارس حرة تتمرد على مقررات التعليم الاستعماري. ولم تتأخر سلطات الحماية في الانتباه إلى خطورة نهج السوسي فبادرت إلى نفيه عام 1937 إلى مسقط رأسه حيث قضى تسع سنوات بعيدا عن طلبته وزملائه. وفي أكتوبر من سنة 1945 تم العفو عنه فسارع بالعودة إلى مراكش واستأنف نشاطه التعليمي، فانتقل بعد ذلك إلى الدارالبيضاء غير أنه ما لبث أن ألقي عليه القبض سنة 1952 ونفي من جديد إلى الصحراء الشرقية مع طائفة من زعماء الحركة الوطنية حيث قضوا نحو سنتين. وفي 10 يوليوز 1954 تم إطلاق سراح المختار السوسي ضمن أجواء الانفراج التي مهدت لاستقلال المغرب سنة 1956. وقد أسندت إليه وظائف رسمية رفيعة ذات طابع شرعي، لكنه ركز انطلاقا من سنة 1960 على تصنيف وإعداد مؤلفاته الغزيرة للنشر في سباق مع الزمن. أهم المؤلفات ألف المختار السوسي عة مؤلفات تجمع بين التاريخ والأدب وعلوم الدين، تعد مرجعا لا غنى عنه في البحث التاريخي والأدبي والفقهي في المغرب، فقد بحث في تاريخ منطقة سوس وأنجز تراجم لأعلامها، ونقّب في أسرار اللغة العربية وهو الأمازيغي المعتز بانتمائه، وكان رائدا في الشعر المغربي الكلاسيكي، وترجم نفائس من التراث العربي إلى الأمازيغية وكان من أعلام السلفية المجددة في العلوم الدينية. ومن أهم مؤلفاته: “المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم في العلم والتصوف وأصدقائهم وكل من إليهم”، في نحو ثمانية آلاف صفحة في 20 جزءا صدرت ما بين سنة 1960 و1963 وهو موسوعة تراجم لنحو أربعة آلاف من العلماء والفقهاء والأدباء. “خلال جزولة”، في أربعة أجزاء، عبارة عن وصف لأربع رحلات علمية في المناطق السوسية وهو غني بالفوائد العلمية والأدبية والتاريخية – “الإلغيات” في ثلاثة أجزاء تضمن مذكراته خلال نفيه إلى مسقط رأسه، وهو حافل بالأدب شعرا ونثرا والمناقشات العلمية والأدبية والتاريخية “سوس العالمة”، وهو مقدمة لموسوعة المعسول اشتمل نظرة عامة على العلم وأعلامه ومؤسساته في منطقة سوس – “إيليغ قديما وحديثا” وهو تاريخ إمارة أسستها أسرة شريفة في قلب جبال جزولة السوسية منذ القرن 11 الهجري – “معتقل الصحراء” يشمل مذكرات المعتقل الصحراوي إثر النفي الثاني وفيه نبذة من نشاط النخبة السياسية المغربية في المنفى. إضافة إلى ذلك، فقد ترجم المختار “الأربعين حديثا النووية” و”الأنوار السنية” إلى الأمازيغية. الوفاة توفي العالم محمد المختار السوسي يوم 17 نونبر من سنة 1963 على إثر حادث سير. مخلفا وراءه رصيدا فكريا كبيرا.