لا تنفلتُ الإبرة من بين أنامله رغم الوخزات الرفيعة التي تُدميها، ينهمك حاسر الرأس، منزويا في ركن قليلة الإضاءة لحياكة “نعال القش”، تُطوقه من كل جانبه خيوط “الرافيا” الصلبة، وقد رتب بعناية أكواما ملونة منها، فيما تلاحق عيناه دون تعب الإبرة التي يغرسها بقوة، متلهفا لإنهاء “خفي الرافيا” قبل مغيب الشمس. وسط الأحياء العتيقة في مدينة الصويرة، حيث تزكم الأنوف روائح “خشب العرعار” ورذاذ البحر و”قش الرافيا”، يصُفُ “محمد عبد الستار” (62 سنة) النعال المصنوعة من هذا العشب الاستوائي بعناية على واجهة دكانه، ملونة بزخارف متقنة، وقففا مزينة بألوان زاهية، يقبل عليها السُياح الأجانب بشكل واسع، لجمال منظرها، وصحية ملبسها، خاصة لمن يعانون من بعض الأمراض الجلدية. ورغم ذيع صيت مدينة الصويرة وشهرتها بهذه الصناعة، إلا أن غابات نخيل الرافيا تنشر بعيدا عن المدينة بآلاف الكيلومترات، على ضفاف المستنقعات والأنهار الإستوائية الأفريقية وفي بعض مناطق المحيط الهادي، حيث يبلغ طول أوراق هذه الشجرة 4 أمتار، وتُعرف بعلوها الشاهق، وتتميز بصلابة أوراقها التي تجفف تحت أشعة الشمس، لتصير فيما بعد خيوط تشبه القش، تصنع منها نعال ومقتنيات أخرى لتزين الدُور. ووصلت هذه الصناعة التقليدية الشائعة منذ عصور لدى القبائل الملغاشيّة وبعض شعوب بلدان المحيط الهادي إلى سواحل الأطلسي قبل عقود، عبر بعض الإسبان الذين امتهنوا هذه الحرفة خلال إقامتهم في شمال المغرب، قبل أن يستقر بها المُقام في مدينة الصويرة. ويقول محمد إنه من أوائل الصُناع التقلديين بالمدينة الذين تخصصوا في صناعة “أحذية الرافيا”، وقد ورثها عن جده الذي احترف قبل عقود حياكة نعال من خيوط هذا النبات التي تصير بعد تجفيفها شبيهة بالقش، مضيفا أنه يحرص على نقل هذه الحرفة إلى أحفاده، فهو يرى أن صناعة “أحذية الرافية” حرفة تراثية مغربية أصيلة، وإن كان المادة الأولية لهذه الصناع تجلبُ من أصقاع بعيدة. وتشتهرُ مدينة الصويرة بهذه الصناعة التقليدية، حيث تستقدم أوراق هذا النبات من مواطنه الأصلية، ويعكف الصُناع في المدينة على تجفيفه أوراقه تحت أشعة الشمس وتشذيبها إلى خيوطه رفيقة، ثم تلوينها بالأصباغ المختلفة، خلال يوم معين في الأسبوع يخصص لهذه العملية، حيث يتوافد على المصبغة التقليدية بالمدينة الصُناع لتلوين خيوط الرافيا كل حسب حاجته وطلبات زبنائه. غالبا ما تُوكل للنسوة في المدينة مهمة حياكة هذه الأحذية وفق مقاسات مختلفة، حيث يستغرق إعداد خُفين يوما كاملا إلى حدود يومين من العمل المتواصل والتطريز الحاذق، وغالبا ما تقُوم النسوة بهذه العملية في بيوتهن دون الحاجة للاتحاق بالمشاغل، فيما يقتصر العمل داخل الدكاكين على الرجال الذين يقضون الوقت بدورهم في تصفيف خيوط الرافيا أو تلوينها، ودق مسامير تثبت تلك الخيوط القشية في مواضعها حتى تصيرا خفا صالحا للانتعال. ورغم أن المنشأ الأصلي لنخيل الرافيا قصي عن مدينة الصويرة، إلا أن صناعة أحذية الرافيا أضحى شائعة بالمدينة، فلابد لزائر المصويرة أن تثير انتباهه تلك النعال الطبيعية المرصوصة بعناية والمصنوعة من القش التي تضج بها دكاكين ومحال داخل الأحياء والحواري المدينة القديمة، وفتراود الجائلين نساء ورجالا على حد السواء رغبة مُلحة في اقتنائها. الفوائد الصحية والتهوية التي توفرها هذه النعال، تجعلها أيضا محط إقبال من قبل بعض الأشخاص الذين يعانون من أمراض جلدية، كما أنها تلبس بشكل خاص صيفا نظرا للتهوية التي توفرها للقدمين.. ومع استثمار بعض الأجانب في هذه الصناعة التقليدية بدأت “نعال الرافيا” تكسي شهرة عالمية، حيث أدخلتها بعض دور الموضة ضمن مجموعة الأحذية والملابس التي تعرضها خلال فصل الصيف، فيما ينقل جزء مهم من المنتوج التقليدي الذي يصنع محليا إلى بعض الأسواق الأوروبية لترويجه. وكالة أنباء الأناضول