المتقاعدون العسكريون يحتجون في شوارعها كل اثنين ومشاريع لم تنجز وبنايات آيلة للانهيار تحفل مدينة أزيلال بتناقضات كثيرة. مركز المدينة الذي برزت فيه في السنوات الأخيرة بنايات حديثة، معظمها متمركز في مكان واحد على شكل مثلث، وجميعها عبارة عن مؤسسات عمومية، يتضمن أيضا جانبا انهارت أجزاء منه، وتوشك أخرى على الانهيار، خصوصا في الجهة المقابلة لمحطة الطاكسيات. تتوفر هذه المدينة كذلك على مرافق عديدة، لكن سكانها يشتكون شح المصادر المدرة للدخل لمجمل الأسر القاطنة بأحزمة الفقر المحيطة بالمدينة. المتقاعدون العسكريون خصصوا يوم الاثنين للاحتجاج من أجل تحسين أوضاعهم المالية، والقرى التابعة للإقليم لا تزال تنتظر فك العزلة عنها وتقريب خدمات التطبيب والتمدرس إليها. يقف محمد بلا حراك خلف «كروصة» رصت فوقها بنظام مثير سلع مختلفة. كان مثل أزيد من عشرين تاجرا آخرين مدثرا في جلباب، واضعا كلتا يديه في جيبه. كانت أغلبية العربات ذات سقف بلاستيكي بالكاد يقي السلع المرصوصة فوقها من قطرات المطر كثير التهاطل بأزيلال طيلة فصلي الخريف والشتاء. لكنه لا يقي أصحاب العربات من لسعات البرد القارس، التي كانت تلفح وجوههم في ذلك الزوال. «اعتدنا أن تدخل تجارتنا في ركود في الأيام التي تهطل فيها الأمطار ويكون فيها البرد قارسا» يقول محمد، وهو يخرج يده اليمنى من جيبه ليرتب قطع «بسكويت» في الجانب الأيسر من «كروصته». مداخيل هؤلاء التجار البسطاء تتدنى بشكل كبير أثناء تساقط الأمطار وتراجع توافد القرويين القاطنين بنواحي أزيلال على هذه المدينة. عبد الرحيم، أحد جيران محمد، اعترف بهذا المعطى، وقال إن «الحاجة وحدها توقفنا بالضرورة هنا في هذا المكان وفي هذا البرد القارس». ثم أضاف هذا التاجر، الذي سبق محمد إلى هنا بنحو 8 سنوات، أن «هذه الأيام الممطرة في أزيلال، والمثلجة في الجبال المحيطة بها، تمر عصيبة على تجارة هؤلاء البسطاء». تجارة تحت المطر لم يكن محمد وعبد الرحيم وزملاؤهما التجار الوحيدين الذين كانوا يعرضون سلعا في أسواق شبه خالية من الزبناء. غير بعيد عن هؤلاء، الذين يوجدون في الساحة المقابلة لمحطة الطاكسيات، كان تجار آخرون يعرضون سلعهم في أزقة تقع في منخفض ولا تخلو من دور آيلة للانهيار ومحلات تجارية هوت سقوفها وانهارت جوانب كبيرة من جدرانها. هندسة هذه البنايات الواقعة في المركز القديم لهذه الحاضرة الأطلسية توحي بأنها تعود إلى عهد الحماية الفرنسية أو السنوات الأولى من الاستقلال. بدت علامات الدهشة على وجه أحد التجار حين سئل عن أسباب عرض سلعه بمحاذاة ركام محل تجاري منهار. إذ رد بسرعة مثيرة: «وأين يمكن أن أعرضها؟». كانت السوق في ذلك الزوال شبه خالية، وهو ما أرجعه تجار كثر إلى تردي أحوال الطقس.غير أن فاعلا سياسيا محليا، ينتمي لأحد أحزاب المعارضة بالمجلس البلدي للمدينة، حمل مسؤولية تردي وضعية مركز المدينة للسلطات المحلية. وتساءل عن الأسباب الثاوية وراء عدم إخراج مشروع الفضاء الخاص بالأنشطة الحرفية إلى حيز الوجود. وكان يتوقع أن يأخذ مركز المدينة شكلا آخر قبل سنوات عديدة. في بداية الألفية الثالثة، أطلق مشروع لأحداث فضاء للأنشطة الحرفية، لكن أشغاله توقفت في منتصف الطريق. ولا يزال الفضاء، الذي كان يفترض أن تشيد فوقه، خاليا، وتتخلله أخاديد صغيرة نتجت عن المسيلات المائية التي تخترق الفضاء أثناء تهاطل الأمطار. الفضاء خال إلا من محلات تجارية، بدت قديمة لكن أشغالها لم تكتمل بعد. تركت هذه المحلات، البالغ عددها 14 محلا، بدون أبواب. كما أن بعضها تحول إلى «مأوى لمن لا مأوى له»، على حد تعبير الفاعل السياسي المحلي سالف الذكر. وقد تراكمت أزبال وأتربة وأحجار في معظمها. ورغم أن هذه الجزء من أزيلال يعتبر الشريان الرئيس لهذه الحاضرة الأطلسية، فقد كانت الحركة فيه في ذلك الزوال، الذي حلت فيه بعثة «المساء» بأزيلال، «شبه مشلولة». كما أن عددا من دوره ومحلاته التجارية، المبنية قديما، انهارت، واستحالت أثرا بعد عين، في حين برزت تشققات في بنايات أخرى، كثير منها، لا يتكون سوى من طابق أرضي، وبات مهددا بالانهيار في أي لحظة، خصوصا في ظل الأمطار القوية التي تعرفها المنطقة. شح الموارد الركود الجاثم على مركز مدينة أزيلال لا يقف وراءه البرد القارس فقط. فقد كانت لسكان المدينة الذين التقت بهم «المساء» آراء تضيف انعدام موارد الدخل إلى تردي أحوال الطقس وعدم تنفيذ مشاريع تأهيل هذا المركز التي كانت مبرمجة منذ سنوات خلت. من بين هؤلاء لحسن، الذي رأى النور بمدينة أزيلال نفسها قبل أزيد من خمسين سنة. قال إن «أزيلال لا مثيل لها، ولكن العيش فيها صعب، لأنه لا توجد مصادر مدرة للدخل بها». للحسن خمسة أبناء، ثلاثة منهم ذكور، انتقلوا جميعهم في اتجاه مدن أخرى من أجل إعالة أسرهم. تفرقت السبل بأبناء لحسن الثلاثة، حيث «هاجر»، بلغة لحسن، اثنان منهم إلى مدينة مراكش للعمل في أوراش البناء، بينما يعمل الثالث، وهو أوسطهم، وكان أكثر أبناء لحسن تمدرسا، في سلك الجندية، حيث تابع دراسته بدون تعثر إلى أن حصل على شهادة الباكلوريا. لحسن أكد أن أغلبية زملائه عاطلون عن العمل، ليس لهم دخل، أو متقاعدون من سلك الجندية، يتقاضون تعويضات هزيلة على رأس كل شهر، لا تكفي لتغطية مصاريف عيش أسرهم في الأسبوع الأول من الشهر الموالي. تضرب البطالة أطنابها في هذه المدينة، حسب أرباب أسر كثر التقت بهم «المساء»، وأجمعوا كلهم على صعوبة الحصول على لقمة العيش في هذه المدينة. فاعلون سياسيون وجمعويون محليون أكدوا هذا المعطى، وأجمعوا في تصريحات متطابقة على أن «الموظفين، ثم التجار يظلون، رغم الركود، الفئات الأكثر حظوة في هذه المدينة». وكان أغلب المتحدثين يضيف إلى قوله الاستدراك التالي: «أغلبية الموظفين يفدون من مدن أخرى وليسوا من أبناء المدينة، وهو ما لا تكون له تأثيرات إيجابية على مداخيل أسر المدينة، إذا استثنيت المساهمة الطفيفة لهذا العامل في ترويج بعض الأنشطة التجارية والحرفية في المدينة»، لكن تأثيرها يظل محصورا في مركز المدينة، ولا يطال أحياءها الهامشية، التي توصف محليا ب«أحزمة الفقر». أحزمة الفقر يجمع كثيرون ممن التقت بهم «المساء» من فاعلين سياسيين وناشطين مدنيين وسكان عاديين بأن مركز أزيلال، على علاته، أفضل بكثير من الأحياء الهامشية في هذه المدينة. أحياء كان قدرها أن يتم تشييدها في هوامش هذه الحاضرة الأطلسية، وقد بات سكان هذه الأحياء يؤكدون أن «قدر الموجود على الهامش أن ينال نصيبا غير يسير من التهميش». تطوق هذه الأحياء المدينة من كل الجوانب. غير أن معظمها يوجد في الجزأين الجنوبي والغربي. تفتقر هذه الأحياء إلى الكثير من متطلبات العيش الكريم. تبدو معظم هذه الأحياء من بعيد وكأنها قرى ودواوير متداخلة فيما بينها. تتراءى دورها أول الأمر وكأنها بنيت في غير نظام ولا تصميم مسبق. «تقيم في الأحياء الهامشية أكثر الأسر فقرا في هذه المدينة» يقول فاعل جمعوي يعمل معلما في إحدى مدارس المدينة، وله أقرباء يقيمون في حي أزلاف. ويضيف هذا المعلم أن أقرباءه لا يتوفرون على مدخول قار، وأن رب الأسرة يشتغل عامل بناء في المدينة، وكثيرا ما يعود أدراجه إلى بيته في الصباحات الممطرة التي يتعذر فيها العمل. كما أن ما يحصل عليه من أجر نظير عمله لا يكفيه لإعالة أسرة من 6 أفراد، ضمنهم أربعة أطفال لا يتجاوز عمر أكبرهم 13 سنة. أزقة هذه الأحياء متربة، عكس مركز المدينة، الذي باتت تخترقه شوارع مبلطة. ولذلك، تتحول بعض هذه الأزقة في الأيام المطرة إلى «أوحال» على حد تعبير احماد، الذي قابلته «المساء»، وهو يهم بالصعود إلى حيه الواقع بأعلى الطريق المؤدية إلى مركز الجماعة القروية زاوية أحنصال. لا يوجد طريق معبد إلى هذا الحي. أطفاله المتمدرسون وسكانه الراغبون في التوجه إلى السوق يضطرون إلى المرور عبر مسالك نحتتها أرجلهم في مرتفع متوسط الانحدار لا يخلو من صخور. اجتيازه يتعذر على الأطفال بدون مرافقة، وقد تكون عواقب أي انزلاق حين تكون الأرض مشبعة ماء وخيمة. المنفلت من هذه المسالك لا يمكن أن يتوقف في حالة انزلاقه عن مساره إلا بالطريق المعبدة المؤدية إلى زاوية أحنصال التي يحدها المركز الاستشفائي الإقليمي من الناحية الأخرى. الأحياء الهامشية خالية تماما من الأنشطة الاقتصادية إلا من «حوانيت»، معظمها متخصص في مواد التغذية العامة، يشتكي أصحابها «الكساد». غير أن ثمة شيئا آخر، عبر فاعلون محليون عن استغراب شديد تجاهه، ويتمثل في تسجيل انقطاعات في صبيب الماء الصالح للشرب، في مدينة تسجل فيها، سنويا، معدلات مرتفعة من التساقطات المطرية. وأحيانا يقترن انقطاع الماء الصالح للشرب بانقطاع مماثل في التيار الكهربائي، فتغط المدينة في ظلام دامس. حينها تصبح أسر كثيرة بدون ماء ولا كهرباء، رغم أن هاتين الخدمتين تشغلان بال الأسر التي لا يتوفر أربابها على دخل قار في آخر كل شهر. غضبة «المتقاعدين» يكاد الدخل القار يكون حلما بعيد المنال لدى نسبة غير يسيرة من أسر أزيلال. رجال وشباب كثر ممن التقت بهم «المساء» أكدوا أن الحياة هنا صعبة في غياب مصادر مدرة للدخل. فهذه المدينة لا تتيح فرصا للعمل في مجالات يكون الشغل فيها في متناول الأشخاص الذين لم يتابعوا تعليمهم إلى مستويات متقدمة نسبيا، ولم تسعفهم الظروف في الحصول على شهادة مهنية، مع العلم أن الأمية لا تزال منتشرة في هذه المدينة، وإن تراجعت نسبتها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة بفضل برامج محاربة الأمية الرسمية. وحتى أولئك الحاصلون على شهادات تكوين في مهن معنية، أو باتوا بحكم التجربة والخبرة ماهرين في المهن التي يزاولونها، يضطرون إلى «الهجرة» إلى مدن أخرى في رحلة بحثهم عن «لقمة العيش». «الحياة هنا قاسية. لا توجد هنا مصانع ويصعب إيجاد فرصة عمل قار» يقول خمسيني اضطرا قسرا إلى التوقف عن العمل بسبب تقدمه في السن. ثلاثة من أبنائه، اثنان يعملان في أوراش البناء بالبيضاء وآخر يملك محلا للميكانيك في أزيلال، يعيلانه اليوم. تكتسي أغلبية الأنشطة المتاحة أمام سكان أزيلال طابعا حِرَفيا. وقد استغرب كثيرون ممن التقت بهم «المساء» عدم الاستفادة من المؤهلات السياحية التي يتمتع بها الإقليم من أجل تحويل عاصمته أزيلال من نقطة عبور للسياح في اتجاه مراكش إلى نقطة جذب للسياح الأجانب والمغاربة العاشقين للسياحة الجبلية. وفي هذا السياق، قال فاعل مدني إن المنطقة تراهن على مشروع «جيوبارك»، الذي سيتم إنجازه بالإقليم من أجل الترويج للقدرات السياحية لهذه المنطقة، والهدف خلق رواج تجاري وإحداث فرص شغل. وإلى جانب انتشار البطالة في صفوف القادرين على العمل، تتميز هذه الحاضرة الأطلسية كذلك باحتضانها نسبة لا يستهان بها من المتقاعدين، أغلبيتهم عسكريون. هذه الفئة من المتقاعدين دأبت منذ أشهر عديدة، وفق عدد من سكان المدينة، على تنظيم مسيرات احتجاجية أسبوعية من أجل المطالبة بتحسين أوضاعهم المالية، وتحديدا الزيادة في تعويضات التقاعد التي يحصلون عليها. ففي صباح كل يوم اثنين، يجتمع عشرات المتقاعدين العسكريين لتنظيم مسيرة احتجاجية تجوب الشوارع الرئيسية للمدينة، التي توجد بها مقرات أغلبية المؤسسات العمومية والمندوبيات الإقليمية للمصالح المركزية. المتقاعدون المتظاهرون يصرون على أن التعويضات التي يحصلون عليها «هزيلة» ولم تعد تكفي، في ظل غلاء المعيشة، لتلبية حاجياتهم الأساسية. وفي المقابل، تنظر فئة من السكان، الذين ليس لهم دخل، إلى هؤلاء العسكريين بعين الغبطة لكونهم «يتوفرون على الأقل على تعويض شهري قار»، بينما آخرون يعيشون على أمل «بريكول» يدر عليهم مدخولا هزيلا يلبون به بعضا من حاجياتهم في انتظار «بريكول» جديد. حاضرة القرى الجبلية المهمشة تبدو مدينة أزيلال لحظة الولوج إليها من جهة بني ملال مثل مدينة عصرية. بنايات حديثة تصطف على طول الشارع الرئيس، الذي يشكل امتدادا للطريق المؤدية إلى مراكش، المخترق قلب المدينة. وقد انتصبت كذلك بين البنايات الحديثة دور قديمة، توحي عمارات كثير منها بأنها شيدت في عهد الحماية الفرنسية أو السنوات الأولى من الاستقلال. تتوفر هذه المدينة على مستشفى إقليمي لا يعدم التجهيزات، استنادا إلى فاعل مدني. وتمتد هذه المؤسسة الاستشفائية على مساحة هامة على الجانب الشرقي من المدينة، وتحتل حيزا غير يسير من المثلث الذي يضم أبرز البنيات العمومية في هذه المدينة. وفي الجهة المقابلة للبوابة الرئيسية لهذا المستشفى تقف بناية مقر عمالة الإقليم شامخة تطوقها من كل الجهات حديقة فسيحة. افتتحت بأزيلال كذلك محكمة ابتدائية، غير بعيد عن مقر بلدية المدينة، التي كانت حواجز حديدية موضوعة بغير نظام في الساحة المقابلة لها. وبمحاذاة المحكمة الابتدائية، انتصبت بناية ضخمة، طليت باللون الأحمر، وسقفها مقوس. وكان لافتا تشييد هذه البناية وكذلك المحكمة الابتدائية في فضاء يمر عبره مسيل مائي قد يتحول إلى شبه واد يجرف كل شيء حين تهطل الأمطار بقوة. توجد بهذه المدينة أيضا مندوبيات إقليمية لقطاعات عديدة، أهمها التربية الوطنية والمياه والغابات والثقافة أيضا. ورغم أهمية هذه المنشآت، فإنها تظل، حسب فاعل سياسي محلي، «غير كافية بالنظر إلى أنه تخص الإقليم كله، وليس سكان مدينة أزيلال لوحدهم». وعلى هذا الأساس، لا تقاس فعالية هذه المؤسسات بمدى استفادة سكان هذه الحاضرة الأطلسية منها، وإنما بمدى قدرتها على تقريب الخدمات الأساسية من سكان قرى الإقليم، التي يدخل بعضها في عزلة «قسرية» عن العالم بمجرد تسجيل التساقطات الثلجية الأولى في مستهل فصل الخريف من كل سنة. ولا تزال نساء في هذه القرى يتوفين أثناء الوضع وأطفال دواوير أيت عبدي لم يلجوا المدرسة للموسم الدراسي السادس على التوالي. كما أن سكان هذه القرى يضعون شق الطرق في صدارة مطالبهم، ومع ذلك لا يزال الوصول إلى المركز القروي زاوية أحنصال، التي تبعد عن أزيلال بنحو 76 كيلومترا، أمرا عسير التحقق حين تهطل الأمطار بقوة وتسجل تساقطات ثلجية في المنطقة.