عرف العالم، في السنين الأخيرة (أو في العقدين الأخيرين)، موجة غير مسبوقة من التفاهة غزت كل مجالات الحياة (السياسة والثقافة والفن والإعلام والقيم… وحتى الفكر) لدرجة أن الفيلسوف الكندي “ألان دونو” فكر أن يخصص لها جهدا فكريا وعلميا، فأثمر هذا الجهد كتابا بعنوان “نظام التفاهة” (la médiocratie). وقد كان كافيا أن ينتشر فيروس كورونا (الذي يعتبره المختصون واهنا رغم خطورته عند انتشاره) لينهار نظام التفاهة على المستوى الدولي؛ فقد وقف العالم عاجزا أمام الجائحة. فلم تعد الشعبوية مفيدة ولا المزايدات صالحة ولا الهروب إلى الأمام صمام أمان ولا…ولا…لقد عرَّى هذا الفيروس هشاشة اقتصاد السوق وتفاهة النظرية السياسية والاقتصادية التي يقوم عليها؛ ومع انتشار الفيروس، ظهر الخصاص المهول الذي تعاني منه القطاعات الاجتماعية حتى في البلدان المتقدمة اقتصاديا. وظهرت معه الحاجة الماسة إلى الدولة حتى عند هذه البلدان. أما عندنا، فالحاجة إلى الدولة بدت أكثر من ماسة، من جهة، بسبب الفقر والجهل والفوارق الاجتماعية والمجالية الصارخة؛ ومن جهة أخرى، بفعل تغلغل مظاهر التفاهة في مجتمعنا؛ خاصة مع تطور الإعلام الرقمي وانتشار المواقع الاجتماعية التي تروج التفاهة باسم “التوندانس” (tendance). من حسن حظ بلادنا، أن رئيس دولتها، يمتلك نظرة استباقية للأشياء. وكما سبق لي أن نوهت بخطاب 9 مارس 2011 ونظرته الاستباقية التي جنبت بلادنا ما عرفته بعض الدول المغاربية والعربية من أحداث مأساوية، لا زالت تعاني من تبعاتها، فإني أنوه بنفس القدر بالتدخل الاستباقي للملك محمد السادس في شأن موضوع كورونا وأضع ترأسه لاجتماع أجهزة الدولة على اختلاف مراتبها ومسؤولياتها في الوقت المناسب من أجل اتخاذ الإجراءات الضرورية الكفيلة بالحد من خطورة انتشار الفيروس، أضع هذا الاجتماع الاستباقي، أقول، في مستوى خطاب 9 مارس. لا داعي للتذكر بكل الإجراءات الاحترازية التي تم الإقدام على اتخاذها. لكن، لنتصور ما ذا كان سيكون وضعنا، لو لم يتدخل الملك في الوقت المناسب، لا قدر الله، ونحن نعلم وضعية المنظومة الصحية ببلادنا وما تعانيه من هشاشة ونقص في المعدات والموارد البشرية، ونعلم ما يميز بعض أحيائنا الشعبية من اكتظاظ ومن غياب الوعي بمخاطر الوباء بسبب انتشار الدجل والفكر الخرافي!!! ومن أجل الحد من الآثار السلبية لبعض الإجراءات الاحترازية (إعلان حالة الطوارئ، إغلاق المرافق والمقاولات غير الضرورية للمعيش اليومي…)، وكذا بهدف دعم القطاع الصحي بالتجهيزات الضرورية، أمر الملك محمد السادس بفتح حساب خاص بكوبيد-19، يُموَّل من ميزانية الدولة وتبرعات المواطنين. وكم شعرت باعتزاز، أمام التجاوب التلقائي للمؤسسات والأفراد مع حملة التضامن التي استهدفها الحساب البنكي المذكور، وأنا أسترجع شعار اليوم الدراسي الذي نظمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول النموذج التنموي الجديد: “دولة قوية عادلة ومجتمع حداثي متضامن”!!! وهو نفس الشعار الذي يتصدر مذكرة الاتحاد بشأن النموذج التنموي، المقدمة إلى الجهات المعنية. ويمكن اعتباره خلاصة مركزة للمشروع المجتمعي الذي يقترحه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على الدولة والمجتمع المغربي. ومصدر اعتزازي ليس الشعار في حد ذاته؛ بل الرؤية المستقبلية التي يتضمنها، والتي أجد فيها روح الاتحاد ومنهجه الفكري ورؤيته البعيدة ونظرته الثاقبة التي ميزته عن غيره عبر تاريخه النضالي الحافل، وعلى كل الواجهات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية…). فقناعة الاتحاد بأهمية قوة الدولة راسخة؛ لكن هذه القوة مشروطة بالعدل؛ فالعدل أساس الملك. ولكي تكون الدولة قوية، لا بد لها من مؤسسات قوية؛ وقوة هذه (سواء كانت رسمية أو تمثيلية) تكمن في مدى قدرتها على خدمة مصالح المجتمع؛ ولتقييم هذه القدرة لا بد من تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ وهنا، يأتي دور القانون. واحترام القانون مظهر من مظاهر الحداثة. في ظل الوضع الحالي، يمكن أن نسجل عودة بعض الثقة إلى الدولة ومؤسساتها؛ الشيء الذي يعد بمغرب جديد بعد كورونا، مغرب الحداثة والتضامن، في ظل دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون؛ وهذا ما سيمكنها من القوة اللازمة، إذا ما استخلصت الدروس من الوضعية الكارثية التي آلت إليها القطاعات الاجتماعية. ولا يفوتني أن أسجل، قبل أن أعود إلى الحديث عن التفاهة، حضور الإعلام الجدي والجاد إلى جانب المواطن، يمده بالمعلومة الصحيحة ويقدم له بعض المواد الترفيهية والتثقيفية بهدف التخفيف عنه من وطأة الحجر الصحي قدر الإمكان. لكن ما ذا عن التافهين؟ التافهون صنفان: صنف أخرصه فيروس كورونا وصنف أنطقه هذا الفيروس. لنبدأ بالذين أخرصهم الفيروس؛ ويحضرني، في المقام الأول، “الكذاب الأشر” الذي بارت شعبويته (أما شعبيته، فلا أدري) وكسد خطابه الذي كان يصم به آذاننا ويعكر به صفونا لتفاهته وضحالته، فاختفى عن الأنظار خوفا على 70 ألف درهم التي يتقاضاها شهريا دون استحقاق. في زمن كورونا، بلع لسانه ودخل إلى جحره…كأتفه مخلوق لا رأي ولا صوت له. وفي نفس الصنف، هناك أصحاب “البوز” الذين يروجون “الفايك نيوز” (الأخبار الزائفة) بهدف الإثارة (المبتذلة، في الغالب) من أجل تحقيق نسبة مشاهدة عالية، إما للاسترزاق، وإما لأهداف أخرى. وقد أخرص كورونا هؤلاء، أيضا؛ ومن لم يفلح الفيروس في إخراصه، فالنيابة العامة له بالمرصاد، خاصة إن كان يروج إشاعات حول انتشار كورونا. لا يجب أن ننسى، أيضا، المغنين التافهين الذين راهنوا على “البوز” لتحقيق أعلى نسبة مشاهدة وأكبر عدد من الإعجابات لفائدة بضاعتهم الفاسدة. وها هم قد اختفوا من المشهد بعد أن احتله الخبر، الصحيح أو الكاذب، عن كورنا. أما الصنف الذي أنطقه كورونا، فسمته الأساسية الغباء والجهل، ومنهجه المتبع الدجل والشعوذة في لبوس ديني. ففي الوقت الذي يفتي فيه أهل العلم بضرورة حفظ النفس والأبدان باتباع الاحتياطات اللازمة، يطلع علينا معاتيه بشرائط فيديو كلها زعيق ونعيق ونهيق، منهم من يجعل الفيروس من جند الله، حتى وإن كان يعلم أن الصابون يقضي عليه؛ ومنهم من يقدم إليك دعاء، لا للاستعانة به بعد الأخذ بالأسباب واتقاء الإلقاء بالنفس إلى التهلكة؛ بل كوصفة تغنيك عن كل هذا. فهل هناك أتفه من مثل هؤلاء الجهلة الأغبياء؟ فقد نجد العذر للتافهين الباحثين عن “البوز” في المجال الفني أو في مجال الأخبار الزائفة؛ لكن لا عذر لمن يدفع بالبسطاء السذج، وإن نالوا حظا لا بأس به من التعليم، إلى التهلكة باسم رب العباد!!! مكناس في 6 أبريل 2020